دراسات علمیة
مجلَّة نصف سنويَّة تعنى بالأبحاث التَّخصّصيَّة في الحوزة العلميَّة
تصدر عن المدرسة العلميَّة (الآخوند الصغرى) في النَّجف الأشرف
العددان التَّاسع والعاشر
شعبان المعظَّم 1437 ﻫ
ص: 1
رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1614 لسنة 2011
ص: 2
﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
التوبة 122
ص: 3
1. ترحّب المجلَّة بإسهامات الباحثين الأفاضل في مختلف المجالات التي تهم طالب الأبحاث العليا في الحوزة العلميّة, من الفقه والأُصول والرجال والحديث ونحوها.
2. يُشترط في المادّة المُراد نشرها أُمور:
أ . أنْ تكون مستوفية لأُصول البحث العلمي على مختلف المستويات (الفنيّة والعلميّة), من المنهجيّة والتوثيق ونحوهما.
ب . أنْ تكون الأبحاث مكتوبة بخطّ واضح أو (منضَّدة).
ت . أنْ توضع الهوامش في أسفل الصفحة.
ث . أنْ يتراوح حجم البحث بين (12) الى (60) صفحة من القطع الوزيري بخطٍ متوسط الحجم, وما يزيد على ذلك يمكن جعله في حلقتين أو أكثر حسب نظر المجلَّة, شريطة استلام البحث كاملاً.
ج . أنْ لا يكون البحث قد نُشر أو أُرسل للنشر في مكان آخر.
ح . أنْ يُذيَّلَ البحث بذكر المصادر التي اعتمدها الباحث.
3. يخضع البحث لمراجعة هيئة استشارية (علميَّة), ولا يُعاد إلى صاحبه سواء أنُشر أم لم يُنشر.
4. للمجلَّة حق إعادة نشر البحوث التي نشرتها.
5. يخضع ترتيب البحوث المنشورة في المجلَّة لاعتبارات فنيّة لا علاقة لها بمكانة الكاتب أو أهميّة الموضوع.
6. ما يُنشر في المجلَّة لا يعدو كونه مطارحات علميّة صرفة, ولا يُعبّر بالضرورة عن رأي المجلَّة.
ص: 4
الافتتاحية
إدارة المجلة ........................................................................................ 7
ظاهرة استعمال جموع تكسير ٍ مختلفة في القرآن الكريم لمفرد واحد
بعض أساتذة الحوزة العلمية (دامت افاداته) ........................................................ 11
حجية قول غير الأعلم
الشيخ جعفر اليعسوبي (دام عزه) ................................................................ 159
موارد الأحكام الموسعة
الشيخ أحمد العوادي (دام عزه) ................................................................... 239
دعوى الشيخ الطوسي (قدس سره): أن ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي لا يرسلون إلّا عن ثقة
الشيخ حميد رمح الحلي (دام عزه) ............................................................... 325
تحقيق حال جابر الجعفي / 3
الشيخ محمد الجعفري (دام عزه) ................................................................. 375
شرح المراسم العلوية في الأحكام النبوية
تحقيق: السيد جواد الموسوي الغريفي (دام عزه) ............................................ 459
ص: 5
ص: 6
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله الّذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم, والصَّلاة والسَّلام على مدينة العلم وعلى بابها, وارث علم النَّبيِّين, وأبنائه الغُرِّ الميامين.
وبعد, لا يمرُّ زمنٌ طويل حتى نجد أنفسنا مرّة أخرى أمام مهمّة تهيئة عدد جديد من المجلَّة، وكلّما مضينا قُدماً في الأعداد نشعر بأننا نمضي خطوة إلى الأمام في طريق دعم البحث المستقل (المنشور) المبنيّ على أسس علميَّة يصلح لأنْ يكون وجهاً مضيئاً ومعبِّراً عمّا يدور من بحوث في أروقة الحوزات العلميَّة عامّة وحوزة النَّجف الأشرف خاصَّة.
وهذا الواقع الّذي عكسته مجلَّتنا يجعلنا أمام مسؤوليَّة تتعاظم مع توالي الأعداد ألا وهي المحافظة على مستوى البحوث المنشورة من ناحية طريقة العرض والمضمون بنحوٍ تكون مؤهَّلة لانتجاعها من قبل الباحثين والمهتمِّين بقراءة البحوث المتخصِّصة في فنون الفقه الإسلامي بفروعه الرَّئيسيَّة المهمَّة.
وكثيرة هي الموضوعات الّتي يمكن أنْ يعالجها الباحثون والكتّاب، بأسلوب يستحقّ القراءة والنَّشر، ويمكن للمهتمِّ بهذا المجال من العلم إذا ما تصفَّح الأعداد الثَّمانية السَّابقة أنْ يلمح فيها عناوينَ تجعله يتوقَّف رغبة في قراءتها وإحساساً منه بالحاجة إلى زيادة المعرفة في موضوعات معيَّنة أو تعميقها.
ويرتبط سبب إفراز الاهتمام بتلك الموضوعات غالباً بمناحٍ معيَّنة من الحياة الفكريَّة أو العمليَّة العامَّة تلامس مرتكزات المسلم وفهمه في تصوراته الدِّينيَّة والفكريَّة المنبثقة عنها، فتتناغم معها تارة، ويقتُم الموقف منها أُخرى، وتتقاطع ثالثة، أو هكذا تبدو. حتّى يصل الأمر إلى درجة التَّأثير في الموقف العملي أحياناً؛ إذ غير خفي استناد المسلم في آرائه ومواقفه العمليَّة في كثير من القضايا إلى تصوّراته واعتقاداته الدِّينيَّة والتَّشريعيَّة.
ص: 7
ومن ذلك كلِّه نستوحي عمق الحاجة إلى ملامسة روح العصر في حركتنا العلميَّة موضوعاً وعرضاً وبياناً وحجَّة، لكي لا تظهر الأُسس التَّشريعيَّة وكأنَّها أوامر ونواهٍ وتصوّرات خالية من الملاكات أو منفصلة وغائبة عن أفق مصالح التَّشريع بالنسبة لغير عصرها.
ومع ذلك, فما تحقَّق من تلك الغاية فيما سلف من الأعداد المنشورة قليلٌ؛ إذ لا زالت الموضوعات التَّقليديَّة أو الطَّرح المتعارف يحتلّ الحيّز الأكبر من جهد الباحثين ومساحة النَّشر، ونحن وإنْ كنّا ننظر بأُفق الرّاحة نسبيّاً لتواصل عدد من الأفاضل بالكتابة والبحث في المجلّة - بغض النَّظر عن التَّصور الّذي قدَّمناه - إلّا أنَّ الهدف الأسمى لكلِّ سعي علمي هو أنْ يكون فاعلاً ومتفاعلاً في بيئته ومن خلال ثقافة عصره، يجدّد ما بَليَ، ويُعالج ما استجدّ من صوره المختلفة سواء كان شبهاتٍ تطرح استُغلت استغلاقاً في فهم صورة علميَّة قديمة لا يستعصي على المشتبه نقضها، أو عوامل أثّرت في تراكم الجهد المعرفي للبشر عموماً ينتفع منه الباحثون كمقدِّمة للحكم الشَّرعي أو جهة منقِّحة للموضوع أو جانب منه.
وكيف كان - وإلى أنْ نرى مزيداً من الجهود في هذا المضمار - فنحن سعداء بما يتحقّق من الأثر على صفحات المجلَّة، فهناك يراع يفتِّش ويكتب، وقرائح تتلقَّى وتنقد، وقديم طريف يُحفظ من إهمال الزّمان أو يستخرج من خزائن المخطوطات فيُحقَّق ويُقابَل ويخرج بهيّاً على صفحات المجلَّة البيضاء ويزداد به ثراء التّراث ومعين الفقيه. وبين هذا وذاك تنمو الحركة الثَّقافيَّة والعلميَّة وتزداد حصون الشَّريعة أو تتوثَّق، وتنفق سوق العلم وتتنوَّق.
وقد وقع في النّظر إخراج العددين التّاسع والعاشر مزدوجين في إصدار واحد؛ نظراً لسعة بعض البحوث وطبيعة اتصال موضوعها المانع من إمكانية تقسيمها إلى حلقات تتباعد في الزمن الفاصل بين كلّ عددين.
هذا، وقد توافق العمل على هذا العدد مع انصراف ثُلَّة من أفاضل وطلبة الحوزة العلميّة المباركة إلى ساحات الجهاد لكسر شوكة الإرهاب بعد تمدّده بتنظيماته المسمَّاة زوراً ب-(الإسلاميَّة) في الأراضي العراقيَّة ليعيث في الأرض فساداً ويملأها قتلاً ورعباً، وكادوا يهدِّدون الأماكن المقدَّسة بالتَّعدي على ناموس قدسيَّتها وهتك حرمتها لولا رجال مؤمنون
ص: 8
هبّوا لدفع غائلة المعتدين وفلّ حدّهم، فحفَّ فيمن حفَّ بهم متطوِّعون من فضلاء الحوزة العلميَّة يقوّون عنصر الإيمان فيهم ويحملون السِّلاح معهم، وثوى منهم شهداء نالوا الحُسْنَيين: طلب العلم والشّهادة في سبيل حفظ النَّاموس المقدَّس في الدِّين والأعراض والنُّفوس.
ومع هذا الظَّرف الّذي تنقسم فيه الجهود ويتشوَّش فيه البال لم تنقطع المشاركة العلميَّة في البحث والكتابة طالما كان العلم وتداوله يمنعان من انتشار عدوى التَّطرُّف وروح الكراهية والجهل الّذي تبني عليه تلك التَّنظيمات الإرهابيَّة المدَّعية للدِّين آمالها ونفوذها. فكما أنّ المجاهدين بالسِّلاح يحاصرونهم في الأرض والآفاق، فالعاملون بالعلم يضيِّقون عليهم - بأقلامهم - منافذهم المسمِّمة للعقول والنُّفوس، ويبطلون دعايتهم المضلِّلة المعتمدة على الدَّغل في الدِّين وتفرقة المسلمين ولا حول ولا قوَّة إلّا بالله العليّ العظيم.
نقرأ في العددين التّاسع والعاشر:
نقرأ فيهما موضوعاً جديداً يرتبط بتدعيم الجانب الإعجازي البلاغي في القرآن الكريم لم يسبق أنْ طُرق بهذا المستوى وكان للمجلَّة قصب السِّبق في نشره، وهو بلا شكّ يعزّز من مكانة القرآن الكريم في الحجَّة والتَّشريع طالما كان أحد المصدرين الأساسيين والثّقل الأكبر للإسلام.
وفي الفقه تنشر المجلَّة بحثاً عن مدى حجِّيَّة قول غير الأعلم، وما يمكن أنْ يستدلّ به عليها والموقف منه. وبحثاً آخر حول موارد الموسَّعات في الأحكام ودور تلك السِّعة في مقام الامتثال، وأهميَّتها في علاج ما يبدو من التَّعارض بين الرِّوايات.
ويعثر القارئ الكريم أيضاً على بحثين في الرِّجال أحدهما: دعوى الشّيخ الطّوسيّ (رحمة الله) في الاعتماد على مراسيل المشايخ الثّلاثة المعروفين: ابن أبي عمير، وصفوان، والبزنطي على أساس التزامهم بعدم الإرسال إلا عن الثّقات.
والآخر: حلقة أخرى هي الثَّالثة في مسلسل البحث عن الرّاوي الشّهير (جابر الجعفي), هذا الرّاوي المهم الّذي له آثار في كلتا المدرستين: أهل البيت (علیهم السلام) بعد اختصاصه بالمعرفة بهم وترك مَنْ عداهم. والجمهور ورواتهم الّذين اهتموا به ونقلوا عنه قبل أنْ يتحوَّل إلى
ص: 9
الاختصاص بآثار أئمَّة أهل البيت (علیهم السلام) . ويعتني الباحث الصَّبور المجدّ في مواكبة هذه الشَّخصية في خصوص هذه الحلقة بتتبّع الخطوط العامَّة لآثار جابر الجعفي (رحمة الله) في غير الفقه من علوم التَّفسير والقرآن والعقائد والفضائل والأخلاق والتَّاريخ.
وسيطالع القارئ الكريم أيضاً - كما عوَّدته المجلَّة في صفحاتها الأخيرة - تحقيقاً لمخطوطةٍ منتقاة بعناية موسومة ب-(شرح المراسم) ويتوقَّع القائم على تحقيقها أنَّها أقدم شرح لكتاب المراسم للفقيه الشَّيخ حمزة بن عبد العزيز الدّيلميّ (رحمة الله) الملقّب ب-(سلّار) (ت448 أو 463ﻫ).
وهذا الشّرح وإن لم يُعرَف مؤلِّفه على وجه التَّحديد بسبب ما أخنى عليه الزَّمان من آثار صروف الحدثان والنّقصان بفقد الأوراق الأولى منه، إلّا أنَّ بعض القرائن الدّاخليّة والخارجيّة - كما سيوافيك في مقدّمتها - تشير إلى أنَّ عصر الشَّارح قريب من عصر الماتن، بل يترقّى بالظَّنّ في زمن شخص الشَّارح حتّى يحصره بين تلامذة المحقّق ابن إدريس الحلي (رحمة الله) (ت 598ﻫ). ويأمل المحقّق من هذا الشّرح النّفيس أنْ يكون معيناً في تصحيح بعض العبائر في نسخة المتن المتداولة المطبوعة، كما يمكن الاعتناء به كمصدر لبعض الرِّوايات الّتي جاءت في الموسوعات الفقهيَّة مجهولة المصدر.
وفي الختام نتقدَّم بالشُّكر الخالص إلى اللَّجنة العلميَّة المشرفة على استيفاء البحوث للسلامة العلميَّة الأساسيَّة لسعيها الجاد وتعاونها مع الباحثين، كما نشكر كلّ من وضع يداً في هذا العمل ليخرج أقرب ما ساعدت عليه الظُّروف إلى الضَّبط والإتقان، وأبعد ما تعاونت عليه الأيدي عن النَّقص في التَّرتيب والتَّنظيم، وعن التَّقصير في مراعاة قواعد النَّشر، فإذا وُجِدَ فيه عيب بعد ذلك فالمرجو حسن الظَّنّ والتَّنبيه لتداركه، وما توفيقنا إلّا بالله سبحانه وتعالى عليه توكَّلنا وإليه ننيب.
إدارة المجلّة /النّجف الأشرف
شعبان المعظَّم 1437ﻫ
ص: 10
بحثٌ قرآنيٌّ أدبيٌّ, يتعلَّق بظاهرة الانتقاء القرآنيّ لبعض الألفاظ وترجيحه على بدائله اللّغويَّة - الّتي هي أحد عوامل بلاغة القرآن الكريم - حيث يتناول حالة استعمال جموع تكسير مختلفة في القرآن الكريم لمفرد واحد, ويتناول البحث عن أسبابه اللّغويَّة والبلاغيَّة بمختلف أنواعها من التّكافؤ أو الامتيازات الدّلاليَّة والصّوتيَّة.
ص: 11
ص: 12
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربِّ العالمين والصّلاة والسّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين (محمّد) وآله الطّيّبين الطّاهرين.
وبعد، فهذه رسالة حول (ظاهرة استعمال جموع تكسيرٍ مختلفة في القرآن الكريم لمفردٍ واحدٍ) ألّفتُها جواباً عمّا وقع من السّؤال عن ذلك(1). وقبل الخوض في البحث أُوصي نفسي وسائر النّاظرين والباحثين في المواضيع العلميّة بتقوى الله تعالى فإنّ العلم من أهمّ مواطن التّقوى، والتّقوى هي غاية الإنسان المثلى في الحياة الّتي أناط الله بها كرامته، فمَن اتّقى الله بارك في عمله ويسّر له أمره وهَداه.
وتتأكّد الحاجة إلى التّقوى فيما يتعلّق بالقرآن الكريم وتحليل رموزه وأسراره، إذ لا يأمن الباحث فيها مِنْ أنْ يكون ما ينسبه إلى الله تعالى كذباً وافتراءً عليه إذا سارع إلى الحكم ولم يتحرّز عن مطاوعة هواه وظنونه واستحساناته، وقد قال الله تعالى: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً](2).
ويقع الكلام في فصول ثلاثة:
ص: 13
الأوَّل: في الإشارة إلى إعجاز القرآن والظواهر القرآنية المتعلّقة به، وأهميّة البحث عنها.
الثاني: في وصف عام لأسباب ظاهرة ترجيح بعض الألفاظ على بعضٍ وفق الاقتضاءات الأدبيّة.
الثالث: في الحديث عن ظاهرة استعمال جموع تكسير مختلفة في القرآن الكريم لمفرد واحد.
ص: 14
لا شكّ في تميّز القرآن الكريم عن الكلام البشري بأعلى مراتب البلاغة البالغة حدّ الإعجاز على ما يقضي به الوجدان اللّغوي للعارفين باللّغة العربية الّذين يحسّون بمزايا الكلام ومستواه الأدبي, ولذلك عجز العرب المعاصرون لنزول القرآن الكريم عن معارضته بما يماثله في هذا المستوى الرّفيع رغم تحدّيهم بذلك في القرآن مراراً على ما ثبت في التّاريخ.
ولا شكّ في أنّ من أهمّ جوانب إعجازه، هو إعجازه من النّاحية البلاغية، إذ كان تخصيص النّبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بهذه المعجزة الخالدة يتناسب مع تفوّق العرب في البلاغة وتفنّنها في أساليبها في عصره حتى عُقِدت النّوادي وأقيمت الأسواق للمباراة في الشّعر والخطابة.
كما يؤّكد ذلك ما ورد في الحديث الشّريف عن أبي الحسن الرّضا (علیه السلام) إذ سأله ابنُ السّكّيت (ت 244ﻫ) لماذا بعث الله موسى بن عمران (علیه السلام) بالعصا ويده البيضاء وآلة السّحر؟ وبعث محمداً (صلى الله عليه وآله وعلى جميع الأنبياء) بالكلام والخطب؟ فقال أبو الحسن (علیه السلام): (إنّ الله لمّا بعث موسى (علیه السلام) كان الغالب على أهل عصره السّحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم وإنّ الله بعث عيسى (علیه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزّمانات(1)، واحتاج النّاس إلى
ص: 15
الطّبّ فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، فأحيا لهم الموتى وأبرء الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجّة عليهم.
وإنَّ الله بعث محمَّداً (صلی الله علیه و آله و سلم) في وقتٍ كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام - وأظنّه قال: الشّعر - فأتاهم من عند الله من مواعظه وحِكَمهِ ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجّة عليهم، قال فقال ابن السّكّيت: تالله ما رأيت مثلك قطّ...)(1).
ترجع بلاغة القرآن الكريم إلى محورين رئيسين هما بُعدان بمنزلة الصّورة والمادة للكلام القرآني:
الأوَّل: أسلوبه النّثريّ: فأسلوب الكلام القرآني قسم بديع من النّثر لم يُسبَق إليه، له شَبَه بالشعر من حيث توازنه، ولكنّه أمتن منه وأبلغ تأثيراً وأجمل صورة وشكلاً، وليس له وزن خاصّ يتحدّد به كما حُدِّدت الأوزان الشّعرية في علم العَروض.
الثّاني: تصريفه للمعاني والألفاظ وانتقاؤه منها: ويمثّل هذا المحور ظواهر متعدّدة في الكلام القرآني، وبالإمكان إرجاع قسم كبير منها إلى ظاهرتين رئيستين: هما ظاهرة التّحديد الكميّ والكيفيّ للكلام القرآني. وهاتان الظّاهرتان وإنْ كانتا تمثّلان جانباً من جوانب إعجازه إلّا أنّ تحليلهما بحاجة إلى دراسة دقيقة تكشف عن رموزه وأسراره كي لا يتوهم بوجود نقاط سلبية.
الظاهرة الأُولى: ظاهرة التّحديد الكمّي للكلام القرآني بمعنى الإتيان بما يصحّ
ص: 16
الاستغناء عن بعضه من غير خللٍ فيه وفي أهدافه. ولهذه الظّاهرة فروع عدّة:
الأوَّل: تكرار القصة الواحدة كقصص أنبياء بني إسرائيل في مواضع متعدّدة.
الثّاني: تكرار جملة واحدة في مواضع متقاربة كتكرار آية [فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ] كثيراً في سورة الرّحمن(1).
الثّالث: استعمال مفردات قد يُظنّ الاستغناء عنها، وهي:
تارة تكون: أدوات زائدة يُظنّ أنّها لا تعطي معنى زائداً وهي: إمّا حروف من قبيل الباء و(من)، أو أفعال ك-(كان) في مثل[كَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] (2) حيث إنّها لا تدلّ فيه على حدث ولا زمان.
وأخرى: وقد تكون كلمات ذات معانٍ ولكن لا حاجة إليها؛ لإمكانية فهم الكلام من دون ذكرها، من قبيل (إحدى) في قوله تعالى: [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى](3) حيث يصحّ أنْ يقال (فتذكرها الأخرى).
ووجه حاجة هذه الظّاهرة إلى التّفسير: أنَّ الإتيان بما يُستغنى عنه يعدّ من قبيل الإطناب في الكلام من غير حكمة، وهو منافٍ لحكمة المتكلم، وثغرة في بلاغة الكلام.
والتعرّض لتفسيرها خارج عن موضوع هذه الرّسالة.
الظاهرة الثّانية: ظاهرة التّحديد الكيفيّ بمعنى اختيار بعض الألفاظ أو المعاني دون بديلاتها في مواضع تصحّ جميع الألفاظ والمعاني فيها، وهي أيضاً ذات فروع متعدّدة
ص: 17
باعتبارات متعدّدة..
أوَّلاً: إنَّ تلك الألفاظ تارةً: تكون متّحدة المعنى.
وثانية ألفاظ متقاربة تكون متفقة في أصل المعنى ومختلفة في خصوصيّاته.
وثالثة تكون متباينة مع صحّة الإتيان بكل واحد منها، ونذكر لذلك مثالين:
الأوَّل: اختلاف أواخر الآيات في ذكر أوصافه تعالى، إذ لا يكون هناك تناسب مُلزِم للبعض المذكور بخصوصه بلحاظ موضوع الآية ظاهراً، ففي بعضها [وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] وفي بعض آخر: [عَلِيمًا قَدِيرًا] وفي ثالث [عَلِيمًا حَلِيمًا] وفي رابع [عَلِيمًا خَبِيرًا].
والآخر: قد ورد في آيات كثيرة وصف آياته تعالى في الخلق، وفي بعضها تعقيب ذلك ب- [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] وفي بعض آخر [لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] وفي ثالث [لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] وفي رابع [لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ] وفي خامس [لِأُولِي الْأَبْصَارِ] وفي سادس [لِأُولِي النُّهَى] وبعض هذه المفاهيم متقاربة. وقد أشار إلى هذا المثال الرّاغب الأصفهاني (ت بحدود 425ﻫ) في مقدمة كتاب المفردات(1).
ثانياً: إنّ تلك الألفاظ تارة تكون من مواد مختلفة. وأخرى تكون من مادة لغوية واحدة مع الاختلاف في الهيئة ك-(صبور) و(صابر) و(شكور) و(شاكر).
ثالثاً: إنّ تلك الألفاظ تارة تكون من أنواع متعددة كالمفرد والجمع، أو الجمع واسم الجمع، أو المصدر والوصف. وأخرى تكون من نوع واحد مع اختلاف الهيئة، وحينئذٍ: إمّا أنْ تكون مصادر متعددة ك-(مغفرة) و(غفران) و(رحم) و(رحمة). أو أوصافاً متعددة ك-(عليم) و(عالم) و(جهول) و(جاهل). أو تكون أفعالاً متعدّدة وإنْ
ص: 18
كان بعضها من الثّلاثي المجرّد وبعضها من المزيد مع صلاحية قيام أحدهما مكان الآخر. أو تكون أسماء أجناس متعدّدة. أو تكون جموعاً متعددة لمفردات متباينة أو متقاربة أو لمفرد واحد.
وجه الحاجة إلى تفسير هذه الظّاهرة.
ويلاحظ أنَّ هناك حاجة إلى تفسير هذه الظّاهرة - بل الظّاهرة السّابقة - من وجهين:
الأوَّل: إنَّ هذا التّفسير يجلّي وجوه إعجاز النّصّ القرآني حيث يبيّن ابتناء اختيار الألفاظ في القرآن على أساس مراعاة شؤونها المختلفة.
والآخر: إنَّه يدفع توهّم ضعف النّصّ القرآني من النّاحية البلاغيّة.
الحالات الّتي تتأكدّ الحاجة فيها إلى التّفسير.
تتأكّد الحاجة إلى التّفسير في حالات ثلاثة: الالتزام، والتّخصيص، والعدول:
الحالة الأُولى: الالتزام، ونعني به التزام لفظ معيّن من أحد لفظين أو ألفاظ صالحة لأداء المعنى في موارد كثيرة جداً، كاختيار جمع النَهْر على (الأنهار) دون (الأنهر) في (43) موضعاً من القرآن الكريم، فإنّ هذا الالتزام قد يعدّ بلا حكمة دون مزيّة لأحد اللّفظين على الآخر.
نعم، لا يكون اختيار اللّفظ في مورد أو موردين أو نحو ذلك من قبيل الالتزام به؛ لأنّه يمكن أنْ تكون حالة شبه اتّفاقيّة.
الحالة الثّانية: التّخصيص، ونعني به التّفريق بين اللّفظين باستعمال كلّ منهما في مورد خاصّ مع تكرّر استعماله في كلٍّ من الموردين في موارد متعدّدة، نظير ما زعمه الرّاغب من تخصيص الملائكة بلفظة (البررة) والنّاس بلفظة (الأبرار)، إذ لم يرد العكس في مورد.
ص: 19
وهذه الحالة تقتضي وجود نكتة معنويّة اقتضت هذه التّفرقة المتعمدّة وإلّا كان التزاماً بلا ملزم.
ومرجع التّخصيص في الحقيقة إلى انضمام التزامين مرتبطين.
وينبغي ملاحظة أنّ التّخصيص لا يتحقّق إلّا بشرطين:
الأوَّل: إحراز عدم وجود نكتة أخرى اقتضت التّفرقة على هذا النّحو، إذْ مع وجود تلك النّكتة لا يحرز استناد تلك التّفرقة إلى مناسبة معنوية لكلٍّ من اللّفظين بمورد استعماله، بل قد تكون لنكتةٍ ملازمةٍ من قبيل ما يأتي في مناقشة الرّاغب في المثال السّابق من احتمال كون التّعبير عن الملائكة بالبَرَرَة في مورده مراعاة للسجع.
والآخر: ما ذكرناه من تكرّر استعمال كل من اللّفظين في الموردين كي يزول احتمال كون استعمال اللّفظين على سبيل التّفنّن فيكون وقوع كلٍّ منهما في التّعبير عن موردٍ خاصٍ حالة اتّفاقيّة.
وقد لوحظ في كلام بعض أهل العلم التّسارع إلى استنباط التّخصيص من غير مراعاة هذا الشّرط من قبيل كلام الرّاغب في المثال السّابق، إذ ادّعى تخصيص البَرَرَة بالملائكة رغم وروده في موردٍ واحدٍ، فليلاحظ ذلك.
الحالة الثّالثة: العدول، ونعني به انتخاب أحد اللّفظين دون الآخر مع وجود نكتة مستدعية للعكس، فإنّه لا بُدَّ أنْ يكون انتخاب ذلك اللفظ مبنيّاً على نكتة أخرى أولى بالمراعاة، من قبيل ما لاحظناه من اختيار التّعبير ب-(السّجود) في جمع (ساجد) مراعاة للسجع في موضعين من القرآن الكريم مع أنَّ لفظة (سُجّد) أجمل كما اختير عليه في سائر المواضع.
ومن هذا القبيل انتخاب لفظ الجمع في مقام الإشارة إلى واحد كما في قوله تعالى:
ص: 20
[إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ](1), حيث إنَّه ورد في شأن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ولذلك تصدّى جمع من المفسّرين لتحليل هذه الجهة.
ومن ذلك يظهر أنَّ مجرّد التّفرقة بين موردين في التّعبير - وإنْ تماثلا في الملابسات - لا تقتضي وجود نكتة مستدعية لذلك(2)، من قبيل ما في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ](3) وقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ](4), حيث إنّه عكس الأمر في متعلّق (قوّامين) و(شهداء) فيهما.
حالات أخرى يظنّ تأكّد الحاجة إلى تفسيرها.
وقد يُظنّ تأكّد الحاجة إلى تفسير هذه الظّاهرة في بعض الحالات الأخرى:
الحالة الأُولى: أنْ يرد استعمال كلٍّ من اللّفظين في القرآن الكريم، فإنّ اختيار أحد اللّفظين في بعض المواضع يكون بحاجة إلى تفسير هذا الاستعمال بصورة آكد فيما إذا استعمل اللّفظ الثّاني في بعضٍ آخر من المواضع ممّا إذا لم يستعمل اللّفظ الثّاني أصلاً.
ولكنّ الصّحيح عدم تفاوت الحاجة في الحالتين؛ إذ استعمال اللّفظ الثّاني في موضعٍ آخر من القرآن لا يكسبه مزيّة خاصّة، بل غاية ما هناك دلالة استعماله في القرآن على بلوغه مستوى المفردة القرآنية في الفصاحة.
ص: 21
ومن الممكن إحراز بلوغ المفردة غير المستعملة فيه أيضاً نفس المستوى من الفصاحة؛ لأنَّ الفصاحة ليست صفة مجهولة في اللّفظ، بل هي حالة مشهودة بحسب الذّوق اللّغوي.
الحالة الثّانية: أنْ يكون أحد اللّفظين أقرب إلى اللّفظ الآخر كأنْ يكونا جميعاً من مادّة واحدة ونوع واحد كمصدرين لفعل واحد، أو جمعين لمفرد واحد، فكلّما كانا كذلك كان اختيار أحدهما دون الآخر أحوج إلى تفسير هذه الظّاهرة ممّا إذا كان أبعد منه كأنْ يختلفا في المادّة أو في النّوع فيكون أحدهما مصدراً والآخر وصفاً.
الحالة الثّالثة: أنْ تكون ملابسات اللّفظين في مورد استعمالهما متقاربة كوقوعهما وصفاً لموصوفٍ واحد فإنّ اختيار أحدهما في هذه الحالة أحوج منه لتفسير هذه الظّاهرة ممّا إذا اختلفت ملابسات الموردين:
مثلاً: اختيار التّعبير بالجمع المكسّر عن الملائكة في قوله [وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً](1) دون الجمع السّالم أشدّ إثارةً للتساؤل بعد وقوع التّعبير عنهم بالجمع السّالم في قوله [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ](2) ممّا لو لم يقع التّعبير به عنهم وإنْ كان قد وقع التّعبير به عن النّاس في عدّة آيات من قبيل [وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ](3).
ولكنَّ الصّحيح: أنَّ مثل هذه الجهات لا تُوجب شدّة الحاجة إلى تفسير هذه الظّاهرة، بل غاية ما هنالك أنّها لا تدع مجالاً لتوهّم خصوصيّة المادّة أو الموصوف في التّعبير الخاصّ كما توهم أحياناً في مواضع لم تكن كذلك.
ص: 22
وقد ظهر ممّا ذُكر أنَّ مورد سؤال السّائل هو أحد فروعٍ جزئيّة لظاهرة التّحديد الكيفيّ لمفردات القرآن الكريم، إلّا أنّ تخصيص السّائل مورد سؤاله باستعمال جموع تكسير مختلفة لموردٍ واحدٍ كأنّه نشأ عن تصوّر تأكّد السّؤال في هذه الحالة على أساس شدّة الحاجة إلى تفسير الظّاهرة في الحالتين الأوّليتين من الحالات الثّلاثة الأخيرة.
فهو (أوّلاً) فَرَضَ استعمال جموع التّكسير في القرآن على أساس الحالة الأولى من تأكّد السّؤال الّتي ذكرناها(1) مع استعمال كلٍّ من اللّفظين في الكلام القرآني.
(وثانياً): فَرَضَ الجموعَ جموع تكسير على أساس الحالة الثّانية لتكون من صنفٍ واحدٍ لتأكّد السّؤال فيه عمّا لو كان أحدهما جمع تكسير والآخر جمعاً سالماً.
إلّا أنَّا رجّحنا الإشارة - من خلال الفصل الثّاني - إلى مطلق حالة التّحديد الكيفيّ، بمعنى اختيار بعض المفردات المتماثلة في أداء المعنى على بعضٍ بملاحظة تعذّر تفسير فرع من فروع الظّاهرة بمفردها ما لم يلاحظ الأسباب العامّة الموجبة لها.
لكنْ حيث إنَّ كلّ فرعٍ من فروعها يمتاز بخصوصيات تطبيقية عقدنا بحثاً تطبيقيّاً حول تفسير اختيار بعض جموع الكلمة على بعض. ولم نحدّد ذلك بما حدّده به السّائل لتماثل الحال في الحالات الجزئيّة لهذا الفرع فلا فرق مهم بين كون جميع الجموع جموعَ تكسير وبين كون بعضها جمعاً سالماً، ولا بين استعمالها جميعاً في القرآن أو استعمال بعضها، بل مستوى الحاجة إلى تفسير الظّاهرة واحد كما تقدّم.
ولم نعمّم البحث لتفسير ظاهرة التّحديد الكمّيّ لاختلاف الظّاهرتين من ناحية أسبابها وكيفيّة حلّها كما يظهر بالتأمّل في ذلك.
ص: 23
وهي ثلاثة:
1. الذّوق الأدبيّ.
2. الضّوابط الأدبيّة كالسّجع والموازنة.
3. علامات أخرى مثل الالتزام في الكلام القرآني باستعمال أحد اللّفظين في التّعبير عن المعنى.
والأساس الأوَّل في هذه المرحلة هو الذّوق الأدبي الّذي هو منبع الإحساس بخصوصيات الكلمة، وعلى هداه وُضِعَت الضّوابط الصّناعيّة لتلك المزايا في علوم البلاغة، إلّا أنّ تلك الضّوابط ليست قادرة على استيعاب الخصوصيّات المدركة بالذّوق، كما سيأتي.
ثُمَّ يليه في الأهميّة الضّوابط الأدبيّة فإنّها تحليل للجهات المدرَكة بالذّوق فيما كان لها ضابط عامّ. وقد تعرّض لجملةٍ منها علماء البلاغة من غير استيعاب.
وحيث يتعذّر وضع قاعدة عامّة يمكن أحياناً تحصيل منبّه خارجيّ على وجود مزيّة في الكلمة المختارة من خلال ملاحظة كيفيّة انتقاء المتكلّم الحكيم للألفاظ على ضوء مجموع كلماته حيث يظهر منها عنايته باختيار كلمة خاصّة دون بديلاتها.
وينبغي هنا التّعرض لتوضيح هذه الطّرق الثّلاثة بعض الشّيء مع تعقيب ذلك بشروط سلامة الطّريق الّذي يسلكه الباحث في الموضوع.
ص: 24
وحيث إنَّا لم نطّلع على بحث عن الذّوق اللّغوي وتأثيره في استكشاف خصائص اللّغة ومزايا الكلام فلا بأس بتفصيل البحث عنه.
الذّوق في اللّغة قوّة يُدرك بها طعم الشّيء، ولكن يتعارف إطلاقه على ما يعمّ ذلك وهو يرجع إلى أمرين:
أحدهما: إطلاق الذّوق على القوى الذّهنيّة الّتي ترصد خصوصيات الأمور الّتي لا تخلو عن دقّة وخفاء فيُتاح للإنسان بفضلها أنْ يحسّ بها إحساساً وجدانيّاً وتكون في المجالات المختلفة للإدراك البشري، سواء كانت أموراً معنويّة كالحِكَم والأخلاق والآداب. أو غير معنويّة كالاجتماع والسياسة والصناعة والأدب وغيرها.
ففي الأمور المعنويّة قد تجد بعض النّاس في أعلى درجات الصّفاء النّفسي - لجهات موروثة ومكتسبة بالرّياضات المشروعة والأعمال الصّالحة والإقبال إلى الله تعالى والإعراض عمّا سواه من شؤون الدّنيا ونحوها - كالأنبياء والأوصياء والأولياء وأهل التّقوى على اختلاف مراتبهم في ذلك فيدركون بأذواقهم من الحِكَم والمعاني العالية ما لا يدركه غالب النّاس.
وكذا تجد الأمر فيما لو قارنت بين النّاس في خصائص الآداب السّامية فمنهم من يحسّ التّناسبات الخفيّة المختلفة بحسب الملابسات الّتي تقتضي تلك الآداب، فتنبعث من نفسه وتخضع لها إرادته، ومنهم من لا يحسّ بها وإن أدركها أو تكلّفها عملاً مراعاة لجهات خاصّة.
ص: 25
بل الإحساس بحسن الأعمال أو قبحها - على الصّحيح - ليس إلّا ضرباً من الذّوق والوجدان الأخلاقي.
وفي الأمور غير المعنويّة: قد تجد بعض النّاس يتميّز بذوق يترصّد دقائق الأمور الاجتماعيّة ويتمكّن من تحليل واقعها حتى كأنَّ أسبابها الّتي تغيب عنه بمشهد منه وبمرأى، رغم أنك لا تجد مثل ذلك في غيره ممّن قد يشترك معه في الثّقافة أو يزيد عليه، أو حتّى يكون له تخصّص في علوم الاجتماع والسّياسة، ولعلّك لا تعدم أمثلة لهذه الظّاهرة في القادة الاجتماعيّين في التّاريخ الماضي والواقع المعاصر فتجد هناك قادة اهتدوا بالقدرة الذّهنيّة والذّوق الاجتماعي الفائق إلى وجوه حلّ المشاكل الاجتماعية وكيفية سوق المجتمع إلى غايات معيّنة بحدس ثاقب وبصيرة نيّرة، بينما قد يكون هناك قادة آخرون أخفقوا في ذلك.
فالأمور الّتي تتراءى للإنسان بذوقه في مثل ذلك ليست أموراً وهميةً تتراءى له بالإغراق في الفكر والخيال ولا هيّ مجرّد تحليلات علميّة متأثّرة بدرجة ثقافة الشّخص، وإنّما هي أمور واقعيّة يترصّدها الإنسان ويحسّ بها إحساساً مباشراً من خلال قوّة ذهنيّة.
والآخر: إطلاق الذّوق على انطباعات نفسيّة تنشأ عن طبائع خاصّة من قبيل ذوق انتقاء الأطعمة والألبسة والعطور ونحوها، فإنّه يرجع إلى مدى انسجام اللّباس أو العطر الخاصّ مثلاً مع نفس الإنسان الّتي تتأثّر بالعوامل المختلفة من الاجتماع والجوّ والمحيط وغيرها، وكثيراً ما تختلف الأذواق في ذلك لاختلاف العوامل المؤثّرة في تكوين الانطباع النّفسي فترى أنّ قوماً يستحسنون عطراً أو لباساً ما قد يستقبحه قوم آخرون، فليس للحسن والقبح في هذه الأمور معيار واقعي فيكون أحد الحكمين باعتباره صواباً
ص: 26
والآخر خطأ وإنّما يرجع إلى مدى ملائمتها للنفوس المختلفة في خصائصها.
وقد تكون هناك موارد يختلف النّاظرون في تشخيص كون الذّوق فيها هل هو من قبيل القوى الإدراكيّة أو الانطباعات النّفسيّة؟ كما اختلف المتكلّمون والأصوليون في قضايا الحسن والقبح وإنْ كان الصّواب أنّها من قبيل الأولى.
وأمَّا الذّوق الأدبيّ فلنا أنْ نتساءل هل هو قوّة إدراكيّة تتراءى بها أمور واقعيّة؟ أو أنَّه انطباع نفسي نتيجة مدى ملائمة اللّفظ والمعنى للنفس؟
والّذي نراه أنًّه لا ينبغي الشّكّ في كونه ضرباً من القوّة الإدراكيّة يترصّد بها المزايا اللّفظيّة والمعنويّة من خلال الإحساس بالتناسبات الصّوتيّة وأوزان الكلام ونكاته.
الوجدان اللّغوي: انطباع ذهني يحصل بالأنس بالكلمة من خلال ممارسة استعمالها وتكرّر سماعها في سياقات مختلفة. وهو المعيار المباشر الوحيد في تشخيص معاني المفردات اللّغوية، ولا يكفي فيه تتبّع استعمالات الكلمة والتأمّل في خصوصياتها ما لم توجب إحساساً نفسيّاً مباشراً بمعناه؛ لأنَّ ذلك وإنْ كان يهدي إلى المراد بها إجمالاً إلّا أنّه لا يمكن التّحكّم في نوع علاقة اللّفظ بالمعنى - هل هي علاقة حقيقية أو لا؟ - في جوّ غياب الإحساس المباشر بها. مضافاً إلى أنَّه لا يتّضح بذلك الوجه التّفصيلي للمعنى, بل يبقى مستوياً بنوعٍ من الإجمال والإبهام، كما في معرفة معنى كلمةٍ من لغةٍ أجنبيةٍ لغير العارف بها عن طريق إخبار ثقة بذلك.
والفرق بين الذّوق الأدبي والوجدان اللّغوي أنَّ وظيفة الثّاني هو تشخيص أصل
ص: 27
مدلول الكلمة ومعناها دون مزاياها اللّفظيّة والمعنويّة، بل تشخيص تلك المزايا مرهون بالذّوق الأدبي.
قد ظهر ممّا سبق أنَّ الذّوق الأدبيّ ضرب من الإحساس الصّادق بالمزيّة فلا يصدق على الإدراك المحضّ ولا على الإحساس الكاذب.
فالمراد بالإدراك المحضّ استنباط النّكتة لا من خلال الإحساس بها وإنَّما بالتّدقيق الفكريّ المحضّ، كما قد يكون من هذا القبيل استنباط بعض العلماء لنكات حول مزايا الكلام القرآني لا يصدق إلّا قلّة منها، فربّما يحدس النّاظر بكون هذه القلّة الّتي أصابت الواقع إنَّما استخرجها لا بموجب الإحساس بها وإلّا لم يخطئ في الباقي، وإنَّما على أساس التّأمّل النّظري والقدرة الصّناعيّة. وقد تقدّم أنَّ معنى الذّوق هو الإحساس بالشّيء كما هو معناه الأصلي.
ونحن لا ننكر أنَّ الإحساس بالمزيّة المعنويّة أو اللّفظيّة قد يحتاج إلى نوعٍ من الدّقّة إلّا أنَّ ضرباً منها مغاير للتدقيق الفكري وهو أشبه بحالة جمع الحواس لإدراك أمرٍ حسّي كسماع صوت خفيّ أو إبصار منظر بعيد ونحو ذلك، ولا يبعد أنْ يكون كثير من مزايا الكلام القرآني ونكاته بحاجة إلى ضرب من التّفرّغ له والصّفاء القلبي.
وأمَّا الإحساس الكاذب فهو الإحساس بمزيّة أو نكتة متوهّمة، وهذه المزيّة أو النّكتة وإنْ كانت تستنبط بالإدراك النّظري في الحقيقة، إلّا أنَّ الإدراك قد يتحوّل إلى حالة إحساس بالمُدْرَك نتيجةً لشدّة الإيمان واليقين النّفسي به، أو لكون المُدْرَك محسوساً كما أنَّ الحريص على رؤية الهلال أو على سماع صوت قد يراه أو يسمعه وإنْ لم يحدث ذلك خارجاً.
ص: 28
إنَّ الإحساس بالمزايا اللّفظيّة والمعنويّة للكلمة أو الكلام هو وليد الذّوق الأدبيّ، وهو يرجع إلى مجالات عديدة تختلف حدودها بحسب مرتبة هذا الذّوق في الأشخاص ويمكن إرجاعها إلى مجالات رئيسة ثلاثة:
أوَّلها: ما يتعلّق بالألفاظ في نفسها وهي ذات فرعين:
أ. تشخيص الصّفات الصّوتيّة للكلمة من حيث الثّقل والخفّة والرقّة وغيرها، وهو ما عبّر عنه بعض الباحثين ب-(جرس الألفاظ)، وإليه يرجع الإحساس بمستوى الجمال الذّاتي للألفاظ.
ب. تشخيص وزن الكلمة أو الجملة بمعنى إيقاعهما، ثُمَّ التّمكن من المقارنة بينه وبين غيرها من الكلمات والجمل. وعلى ذلك تتفرّع معرفة أوزان الشّعر وتوازن النّثر.
ثانيها: ما يتعلّق بالمعاني في نفسها، وهو الإحساس بوقعها وخصائصها الدّقيقة والانتقال إلى ما يتمثّل فيها من الحيثيات المعنويّة الظّريفة.
ثالثها: ما يتعلّق بالارتباط بين المعاني والألفاظ كالإحساس بالتّناسب الكامن بين الموادّ والهيئات بحسب خصائصها الصّوتيّة مع معانٍ خاصّة.
وسيتّضح جملة من تفاصيل ذلك في الفصل الثّالث إنْ شاء الله تعالى.
لا شكّ في أنَّ الذّوق الأدبيّ ليس متساوياً في الأشخاص بل هو ذو مراتب مختلفة في الصّفاء والعمق ضعفاً وشدّةً بحسب اختلاف المزايا المدركة به في الخفاء والدقّة، وهذا الاختلاف في مراتب الذّوق يكون على نحوين:
أحدهما: الاختلاف في التّوليد وعدمه، فقد يشترك ذوقان في إدراك مزايا كلام
ص: 29
خاصّ، ولكنْ يختلفان في القدرة على إيجاد مثله فيكون أحدهما قادراً على ذلك ونعبّر عنه ب-(الذّوق المولِّد) ويكون الآخر عاجزاً عنه ونسمّي ذلك ب-(الذّوق المدرِك)؛ لأنَّ حدّه إدراك المزايا فحسب.
وهذه حالة مشهودة وجداناً، إذ نرى من أنفسنا الإحساس بجمال الخُطَب البليغة والأشعار الجميلة - كخُطَب الإمام علي (علیه السلام) - ولكنَّا لا نتمكن من إنشاء مثلها وإنْ استوفينا معرفة مزاياها وأسرارها، وليس ذلك إلّا لضعف (كيفيّ) في ذوقنا الأدبيّ لعدم بلوغه حدّ القدرة على (الإبداع).
وعلى هذا يتخرّج حال الإنسان بنحو عامّ مع (القرآن الكريم) حيث إنَّه وإنْ أحسّ بعظيم بلاغته إلّا أنَّه يعجز عن الإتيان بمثله.
وكأنَّه قد استعصى حلّ هذه الحالة على بعض المتكلمين(1) فظنَّوا أنَّه بعد إدراك الإنسان لمزايا القرآن الكريم لا يكون عجزه عن الإتيان بمثله إلّا لأنَّه تعالى صرفهم عن ذلك بأنْ سلبهم القدرة على إنشاء مثله، وهو القول المعبّر عنه في علم الكلام ب-(القول بالصرفة) فذهب عليهم أنَّ الذّوق المدرِك لا يجب أنْ يكون مولّداً؛ لأنَّ التّوليد بحاجة إلى قوّة زائدة على الإدراك، فليس وجه إعجاز القرآن إلّا ما اعترف به الجميع من فصاحته المفرطة ونظمه الخاصّ وأسلوبه البديع.
وما ذكرناه حول الكلام البليغ يجري في كثير من الأمور الفنيّة مثل الخط، فإنَّ من النّاس مَنْ يدرك الخط الجميل، ولكنَّه لا يملك مهارة كتابة مثله، ومنهم مَنْ يدركه ويملك هذه المهارة، وهكذا الحال في سائر النّتاجات الفنيّة مثل القصص والمصنوعات اليدوية.
ص: 30
والآخر: الاختلاف في مراتب الإدراك بأنْ يختلف الذّوقان في مدى الإحساس بمزايا الكلام لفظاً ومعنىً من وزنٍ وفصاحةٍ وتناسبٍ وامتيازٍ ونحو ذلك.
وهذا النّحو من الاختلاف أيضاً حالة مشهودة بالمقارنة بين النّاس، وقد اعترف بطرف من ذلك علماء البلاغة حيث أشاروا إلى أنَّ الذّوق على قسمين سليم وسقيم، فالذّوق السّليم: هو الذّوق الّذي يَدرك تنافر حروف الكلمة ويحسّ بأوصافها ثقلاً وخفةً، والذّوق السّقيم خلاف ذلك.
ولكن الصّحيح: أنَّ مراتب الذّوق الأدبيّ لا تنحصر في قسمين، وإنَّما هو على مستويات مختلفة في السّلامة والصّفاء، ويقلُّ مَنْ يخلو من مرتبة منها كما يقلُّ مَنْ يبلغ أقصاه من أبناء اللّغة العربية في العصور المتأخّرة، كما سيأتي.
وتنافر حروف الكلمة ذو مراتب مختلفة شدّة وضعفاً، ومن الجائز أنْ يكون هناك مَن يدرك التّنافر في بعض مراتبه دون بعض. ومجال مدركات الذّوق لا ينحصر في تنافر الحروف كما تقدّم.
يلاحظ أنَّ الذّوق الأدبيّ على ضربين: مستقيم، ومنحرف، والفرق بين انحراف الذّوق وضعفه: أنَّ الضّعيف لا يدرك ضرباً من المزايا الدّقيقة بينما الذّوق المنحرف يرى الكلام الخالي عن المزيّة واجداً لها. فالفرق بينهما كالفرق بين من يتوقّف في الطّريق المستقيم إلى مقصد - بظنّ وصوله إلى المقصد - وبين من ينحرف عن الطّريق إلى طريق آخر ولذلك كان الذّوق الضّعيف ضرباً من الذّوق المستقيم والذّوق المنحرف مقابلاً له. وظاهرة الانحراف أيضاً حالة مشهودة في بعض النّاس.
وربّما يحدث أنْ يعتقد صاحب الذّوق الضّعيف مزيّة للكلام ليس بمزيّة، أو لا يتصف
ص: 31
بها لكن لا لانحراف في الذّوق، وإنَّما لإدراك خاطئ، أو إحساس كاذب كما مرّ في الأمر الرّابع.
لا شكّ في أنَّ العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - لاسيّما القاطنين منهم بالحجاز - كانوا على مراتب عالية من الذّوق الأدبيّ، كما أنَّ تفاضل لغاتهم في الفصاحة إنَّما يرجع إلى تفاوتهم في ذلك, فحيث يقال إنَّ لغة الحجاز أفضل من لغة تميم وغيرها فلا يعني ذلك إلّا ابتناء لغتهم على سليقة أدبيّة عالية.
ومن مظاهر هذا المعنى:
1. إنَّ المتأمّل في معاني الكلمات لغةً يجد أنَّ وضعهم لبعض الموادّ والهيئات لمعاني خاصّة مبنيّة على مناسبات دقيقة ملحوظة بين نغمة الأصوات الّتي تتألّف منها وبين تلك المعاني. وربّما رجع إلى هذا المعنى ما نسب إلى بعض العلماء من القول بكون دلالة الألفاظ ذاتيّة.
2. وضع هيئات عامّة لمعانٍ نوعيّة كهيئات الصّفات والأفعال والمصادر والجموع فإنَّ هذه الهيئات لم تحدث بوضع عامّ واحد كأنْ يُقال (وضعت هيئة (أفعال) لجمع تكسير الثّلاثي)، وإنَّما جروا فيها على الوضع المماثل في الموادّ المختلفة بحسب سليقتهم اللّغوية فانتزع من خلال تجمّع الأمثلة الكثيرة هذه الهيئات العامّة.
والواقع: أنَّ جميع اللّغات تبتني في مرحلة وضعها ونموّها على ترشّحات ذوقيّة قويّة من أهلها ربّما غفل عنها المتأخّرون من أبنائها.
3. الالتزام بوضعٍ ثابت أو منظّم في أواخر الكلمات - ولو غالباً - الّذي هو مبنى قواعد البناء والإعراب المذكورة في علم النّحو، فإنَّ هذا الالتزام لم ينشأ عن وضعٍ
ص: 32
مسبقٍ عامٍّ لتلك القواعد قد راعاها العرب تعبّداً وتكلّفاً كما يراعيها المتعلّمون لها من أبناء اللّغة العربية. وإنَّما نشأ عن وجود مناسبات معيّنة اقتضت تلك الأمور كرفع العُمَد في الكلام كالمبتدأ والخبر والفاعل، ونصب الفضلة كالمفاعيل والحال والتمييز فكان التزامهم بذلك استجابة لتلك المناسبات.
4. براعتهم في تعريف المعاني بالكناية والاستعارة والتشبيه وغيرها.
5. اهتداؤهم إلى سائر النّظم البلاغية المعنويّة واللّفظيّة كالأوزان الشّعريّة ووجوه المحسّنات النّثريّة كالسّجع والموازنة، وإحساسهم بها بأدواتهم بما أتاح لهم القدرة على مراعاتها من غير حاجة إلى القواعد الصّناعيّة الّتي وضعها علماء اللّغة بعد ذلك.
وقد هبط مستوى الذّوق العربي بعد الإسلام شيئاً فشيئاً كما ينعكس ذلك في ظواهر عدّة، منها: توقّف مراعاة الظّواهر اللّغوية على انتزاع قواعد عامّة منها، والتّكلّف في العمل عليها، وفَقْد حالة الإحساس بالمناسبات الّتي اقتضتها.
وقد ترك هذا الهبوط - الّذي شمل أيضاً علماء اللّغة - ظواهر سلبيّة متعدّدة في العلوم الأدبيّة، ولعلّ بالإمكان إرجاعها إلى ظواهر رئيسة ثلاث:
الأُولى: الإفراط في تفسير الظّاهرة: بمعنى اعتبارها أكثر من مستواها لدى العرب، فقد تكون مراعاة العرب لأمر ما في مستوى التّناسب فيعتبرها علماء اللّغة قاعدة ملزمة - كما لا يبعد ذلك في القواعد الإعرابيّة كما سيأتي - .
الثّانية: التّفريط في ذلك: بمعنى إهمال ظاهرة ما ولو لعدم التّوجّه إليها كإهمال اختلاف الكلمات الفصيحة في الجمال أو اختلاف جمال الكلام بحسبها - كما سيأتي -.
الثّالثة: التّحليل الخاطئ: بمعنى عدم تحليل الظّاهرة على وجهها الواقعي، وهو
ص: 33
على وجهين:
أ. قد يرجع ذلك إلى الخطأ في ترصّد الظّاهرة ممّا يوجب عدم تماميّة القاعدة المجعولة كضابط لها، كخطأ النّحاة في اعتبار مثل صيغة (مفاعل) و(أفاعل) و(فعالل) ونحوها صيغاً متعدّدة اعتباراً بالحروف الأصليّة مع أنّها جميعاً صيغة واحدة ضابطها إضافة الألف بعد ثاني حروف الكلمة أو على ثاني حروفها، واختلاف الحروف الأصلية يرجع إلى اختلاف المفردات في نفسها ولا دخالة لجموعها في ذلك.
ب. وقد يرجع الخطأ في تحليل الظّاهرة إلى مجرّد الخطأ في معرفة فقه اللّغة وتعليل وجه بناء العرب عليها فلا يوجب الضّابط المجعول لها، ومن هذا القبيل أكثر التّعليلات النّحوية والصّرفية لقواعد هذين العلمين، ففي جوّ غياب الذّوق المنبّه على التّناسب الطّبيعي في الالتزام بالظّاهرة تكثر التّعليلات المشتبهة طبعاً عند التّعدّي لتحليلها ومعرفة أُسسها.
وقد نجمتْ عن هذه الظّواهر آثارٌ سلبية عميقة وربّما مستوعبة في مختلف العلوم الأدبية - حتّى يكاد يتغيّر أركان بعض هذه العلوم على تقدير إصلاحها - نظير ما وقع في علم الأصوات من الاعتقاد بأنَّ الألف وأختيها حروف مع أنَّها على حدّ الحركات، ورتبوا على ذلك أنَّ ما قبل الألف مفتوح، وما قبل الواو مضموم، وما قبل الياء مكسور. ولا موضوع لذلك بعد كونها من قبيل الحركات، وقد وقعت أخطاء في علم الصّرف والنحو لا يسع المقام ذكرها.
إنَّ مدركات الذّوق الأدبيّ على ثلاثة أقسام في مدى قبولها للبيان التّحليلي:
الأوَّل: ما يسهل تحليله سواء كانت مزايا معنويّة أو لفظيّة كالسّجع والموازنة.
ص: 34
الثّاني: ما يعسر تحليله فيتوقّف على قدرة ذوقيّة وقدرة تحليليّة بالغة على ضوء التّسلّط على العلوم الأدبيّة وممارسة النّصوص الأدبيّة ومزاياها، وقد يختلف العلماء في محاولة تحليل ذلك على وجوه مختلفة، وممّا يندرج تحت ذلك تحصيل الفرق في بعض المفردات المتقاربة الّتي يشهد الذّوق اللّغوي بعدم ترادفها.
الثّالث: ما يتعذّر تحليله أصلاً فهو من قبيل (ما يدرك ولا يوصف)، وهذه حالة مشهودة في النّكات المعنويّة والمزايا اللّفظيّة..
أمَّا في النّكات المعنويّة فكثيراً ما يجد الإنسان الممارس جمالاً معنويّاً في الكلام مع أحد اللّفظين دون الآخر من دون قدرة على تحليله بالتأمّل والمقارنة بين مفهوميهما. وليس ذلك من جهة خفائها وإلّا لتمكّن من بيانها صاحب الذّوق العالي الّذي يحسّ بها بوضوح وإنّما لدقّتها.
وأمَّا في المزايا اللّفظيّة فهو أوضح، فإنَّ اختلاف الألفاظ المفردة والمؤلّفة في الفصاحة وعدمها وكذلك اختلاف الفصيح منها في مستوى الرّوعة والجمال الذّاتي ممّا لا سبيل إلى تحليله؛ لأنَّه وليد مدى تناسب وانسجام الأصوات المجتمعة وكيفيّاتها - من المدّ والسّكون والحركة - وهذا التّناسب في كلّ كلمة أو كلام وليد حالة جزئيّة خاصّة، ولا سبيل إلى تحليل تلك الحالات الجزئية على ضوء صفات الحروف المجتمعة وتحصيل ضابط لذلك - كما سيتّضح أمثلة ذلك في الفصل الثّالث -.
وقد حاول بعض علماء البلاغة إعطاء ضابط لفصاحة الكلمة على وجوه متعدّدة لكنْ استقر رأي المحقّقين منهم على أنَّه لا ضابط لذلك عدا الذّوق السّليم. فعن ابن الأثير (ت 606ﻫ) في كلام له حول تنافر الحروف الّذي عُدَّ من الأمور المخلّة بفصاحة الكلمة:
(ليس التّنافر بسبب بُعد المخارج وأنَّ الانتقال من أحدهما إلى الآخر كالطفرة، ولا
ص: 35
بسبب قربها وأنَّ الانتقال من أحدهما إلى الآخر كالمشي في القيد لما نجد غير متنافر من قريب المخرج كالجيش والشجّي وفي التّنزيل [أَلَمْ أَعْهَدْ] ومن البعيدة ما هو بخلافه كملع [أي أسرع في السّير] بخلاف علم.
وليس ذلك بسبب أنَّ الإخراج عن الحلق إلى الشّفّة أيسر من إدخاله من الشّفة إلى الحلق لما نجد من حسن غلب وبلغ وحلم وملح. بل هذا أمر ذوقيّ فكل ما عدّه الذّوق الصّحيح ثقيلاً متعسر النّطق فهو متنافر سواء كان من قُرب المخارج أو بُعدها أو غير ذلك)(1).
قال التّفتازاني (ت792ﻫ) بعد نقله لهذا الكلام: (ولهذا اكتفى المصنّف بالتمثيل ولم يتعرّض لتحقيقه وبيان سببه لتعذّر ضبطه، فالأوْلى أنْ يحال إلى سلامة الذّوق)(2).
ولعلّ من أمثلة حالة تعذّر بيان المزايا المعنويّة واللفظيّة جميعاً الفارق النّوعي المحسوس بين النّصوص الأدبيّة المختلفة الصّادرة عن متكلّم عمّا صدر عن متكلّم آخر على وجهٍ يمكن أنْ يميّز به عدم صحة بعض ما كان للأوَّل فنسب إلى الثّاني وبالعكس، وليس ذلك إلّا لاختلاف القرائح والأذواق الأدبيّة المولّدة للكلام البليغ الّذي يُستشفّ من خلال مجموع كلماته وإنْ لم يكن سبيل إلى توصيفها.
وقد تمسّك بهذا المعنى ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656ﻫ) في شرحه على نهج البلاغة(3) في إبطال دعوى كون ما ورد فيه مختلقاً ومجعولاً على الإمام علي (علیه السلام) ضارباً لذلك أمثلة عديدة من خلال قصائد الشّعراء، بل القرآن الكريم نفسه.
ص: 36
يلاحظ أنَّ التّدقيق النّظري لا يكفي عن الذّوق الأدبيّ في استكشاف مزايا الكلمة والكلام حتّى فيما كانت المزيّة تقبل التّحليل والبيان؛ وذلك لأنَّ التّدقيق وإنْ كان يؤدي إلى استكشاف المزيّة أحياناً، إلّا أنَّه لا يؤدي إلى ذلك دائماً. مضافاً إلى أنَّه طريق غير مأمون، إذْ ربّما تكون النّكتة المستنبطة نكتة مبذولة لا قيمة لها ذوقاً، أو تكون منتقضة بموارد أخرى لم يطّلع عليها النّاظر، وسيأتي لذلك أمثلة في الفصل الثّالث.
الطّريق الثّاني للاهتداء إلى مزايا الكلام الضّوابط الأدبيّة الّتي هي تحليلات عامّة لجوانب من مدركات الذّوق الأدبيّ، وقد تعرّض لها أو لطرف منها في علم البلاغة - لاسيّما قسم البديع منها -:
تنقسم المزايا اللّفظيّة والمعنويّة جميعاً إلى قسمين، قسم يقبل الضّابط، وقسم لا يقبله.
أمَّا المزايا اللّفظيّة فممّا لا يقبل الضّابط منها ما يتعلّق بالجمال الذّاتي للفظ بمفرده أو بموقعه في الجملة كما تقدّم. وممّا يقبل الضّابط: مزايا عدّة مذكورة في قسم المحسّنات اللّفظيّة من علم البديع كالسّجع والموازنة.
وأمَّا المزايا المعنويّة فما لا يقبل الضّابط منها هو النّكات الجزئيّة المختلفة بحسب خصوصيات الموارد من قبيل ترجيح التّعبير ب-(أهون) على التّعبير ب-(أضعف) في قوله تعالى: [وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ](1). وما يقبل الضّابط منها جهات مذكورة
ص: 37
في المحسّنات المعنويّة من علم البديع كالطباق(1).
ومن ذلك يظهر أنَّ علم البديع هو المتكفّل للمزايا النّوعيّة المعنويّة واللّفظيّة، إلّا أنَّهم لم ينبّهوا فيها على وجود مزايا أخرى جزئيّة للكلام، بل لم أجد التّنبيه على وجود مزايا لفظيّة من حيث اختلاف الألفاظ الفصيحة في مستوى الجمال حتّى في كلماتهم المتفرّقة في غضون كتب التّفسير ونحوها.
ذكر علماء البديع طائفة من المزايا المعنويّة واللفظيّة، إلّا أنَّ جملة منها لا يخلو عن ملاحظات كالإرصاد والإدماج والجمع(2) كما أنَّ جملة منها وإنْ كانت لا تخلو عن نكتة إلّا أنَّه ممّا لا يليق بالكلام القرآني من قبيل التّورية والتوجيه(3)، بل الظّاهر أنَّه لا
ص: 38
تعلّق لشيء من المحسّنات المعنويّة بظاهرة اختيار بعض الكلمات على بعض - الّتي نحن بصدد تفسيرها - .
وأمَّا المحسّنات اللّفظيّة فأهمها:
1. الجناس اللّفظي: وهو تشابه اللّفظين: إمّا تماماً بالاتفاق في نوع الحروف وأعدادها وهيئاتها وترتيبها، أو في بعض ذلك، مع الاشتراك في أكثر من حرفين، ومن أمثلته (دوام الحال من المحال) و(الهوى مطيّة الهوان) وغير ذلك.
2. السّجع وهو توافق الفاصلتين من النّثر في الحرف الأخير.
والظّاهر أنَّه يعتبر فيه مضافاً إلى ذلك تماثل وزن آخر الكلمتين أو تقاربه بتماثل الحرفين أو الحروف الثّلاثة الأخيرة في حركاتها وسكناتها، أو تقاربها في ذلك، وينقسم إلى قسمين:
الأوَّل: السّجع المطرف: وهو أنْ تختلف الفاصلتان في الوّزن والتّقفية مثل: [أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا](1).
والآخر: السّجع المتوازي: وهو أنْ تتّفق الفاصلتان في الوزن والتّقفية جميعاً ك- [فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ](2).
ص: 39
3. الموازنة: وهي تساوي الفاصلتين في الوزن دون التّقفية نحو [وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ](1).
4. تناسب فقر الكلام (أي أوزان مجموع الجملتين) إمّا بأنْ تكون متساوية طولاً وقصراً نحو [فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ](2)، أو بأن تكون الثّانية أطول من الأولى نحو [وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى](3) ولا يحسن عكس ذلك.
5. تماثل سائر الألفاظ في الفقر المتساوية أو تقاربها من حيث الوزن، أو من حيث الحرف الأخير، أو من الجهتين معاً من قبيل: [وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ](4) و[إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ](5) وقول القائل: (هو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ويقرع الأسماع بزواجر وعظه).
وقد ذكر المزيّتين الأخيرتين علماء البلاغة في ضمن تقسيمات السّجع والموازنة، مع أنَّه لا تعلّق لهما بذلك؛ لأنَّ السّجع والموازنة إنَّما هما من شؤون فواصل الجمل وأواخرها فتناسب صدورها مزيّة مستقلة ولا يوجب جمالاً في نفس السّجع أو الموازنة كما هو ظاهر.
ص: 40
ويلاحظ أنَّ هناك مزايا لم يشر إليها علماء البلاغة، من قبيل تناسب الوصف والموصوف، أو المعطوف والمعطوف عليه في الوزن، أو الحرف الأخير، وإنْ كان المتعاطفان جزءاً من جملة واحدة وليسا جملتين مستقلتين.
الطريق الثّالث للاهتداء إلى وجود مزيّة في الكلمة تشكّل علامة خارجيّة هي: ثبوت التزام المتكلّم البليغ باستعمال كلمة ما بين بديلاتها ما لم يوجد مرجّح مقدّم عليه، فهذه الحالة تعبّر عن وجود مزيّة ما في الكلمة إنْ لم تكن معنوية فلفظيّة.
ثُمَّ في هذه الحالة: تكون الدّلالة على مراتب تبعاً لعدد استعمال الكلمة في موارد مختلفة، فكلّما تعدّدت استعمالات الكلمة كانت الدّلالة أقوى، وهي ترجع إلى مرتبتين:
الأُولى: الدّلالة النّاقصة أو (الإشعار): وهي أنْ يكون عدد موارد استعمال الكلمة على بديلاتها بحدٍّ يستشعر معه وجود مزيّة في الكلمة من غير أنْ يجزم بذلك، لاحتمال أنْ يكون ذلك على سبيل الاتفاق أو شبهه، وهي ذات مراحل متعدّدة.
وربّما لا يبلغ استعمال الكلمة في نفسه حدّاً يوجب الجزم، ولكنَّه يكون منبّهاً للإنسان على مزيّة خفيّة في بادئ النّظر فينتقل الباحث إلى تلك المزية تفصيلاً.
والأخرى: الدّلالة التّامّة: وهي أنْ يبلغ عدد موارد اختيار الكلمة حدّاً يمثّل الالتزام به في التّعبير عن المعنى فلا ينفكّ عن مزيّة بمقتضى الحكمة.
ص: 41
تمهيد في ذكر أمور عديدة..
قد عرفت فيما تقدم أنَّ هذه الظّاهرة تنتسب إلى ظاهرةٍ قرآنيةٍ كبرى في اختيار بعض الألفاظ المترادفة أو المتقاربة على بعض، ولهذه الظّاهرة فروع عدة باعتبارات متعددة:
(منها): أنَّها تارة: تكون تلك الألفاظ من موادّ مختلفة، وأخرى: تكون من مادّة لغويّة واحدة مع الاختلاف في الهيئة، كأثيم وآثم، وصبور وصابر.
(ومنها): أنَّها تارة: تكون من أنواع متعدّدة كالمفرد والجمع، أو الجمع واسم الجمع، أو المصدر والوصف، وأخرى: تكون من نوع واحد مع اختلاف الهيئة وحينئذ: فتارة: تكون مصادر متعدّدة كمغفرة وغفران، ورحم ورحمة، وأُخرى: أوصافاً متعدّدة كشكور وشاكر، وعليم وعالم، وثالثهً: أفعالاً متعدّدة ولو بأنْ يكون بعضها من الثّلاثي المجرّد، وبعضها من المزيد مع اتحاد معناهما أو قربه، ورابعةً: تكون أسماء أجناس متعدّدة، وخامسةً: تكون جموعاً متعدّدة لمفردات متقاربة أو لمفرد واحد.
وفي الحالة الأخيرة قد تكون تلك الجموع جميعاً جمعاً سالماً كاختيار (قانتين) على(قانتات) في قوله تعالى: [وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ](1)، وقد يكون بعضها جمعاً سالماً،
ص: 42
وبعض آخر جمع تكسير(1)، وقد تكون جميعاً جمع تكسير، وهو موضوع هذه الرّسالة.
والبحث عن تفسير هذه الظّاهرة محاولة لاكتناه النّواحي الفنيّة والبلاغيّة في القرآن الكريم واستكشاف البُعد البلاغي لاختيار ألفاظ خاصة حيث ثبت تميّز القرآن الكريم على الكلام البشري بالبلاغة المعجزة.
ولا بُدَّ من ذكر أمثلة هذه الظّاهرة ليتسنّى للباحث مطالعتها والتّأمّل في نكات الاختيار القرآني وعلّة ترجيح بعض الجموع على بعض, وقد سطرناها في الجدول أدناه على ما استقرأناهُ بمعونة المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم, وقد أشرنا إلى موضع ذكر الكلمات فيه ليسهل على الباحث ملاحظة الآيات الّتي حوتها كما ذكرنا عدد موارد استعمال كلّ جمع.
العدد —— المفرد —— الجمع المستعمل في القرآن —— المعجم المفهرس
1 —— أسير —— أسرى /2 - أُسارى /1 —— 33
2 —— ألف —— أُلوف/1 - آلاف /2 —— 36
3 —— الّتي —— اللاتي/10-اللائي(2)/4 —— 36
ص: 43
4 —— أَخ —— إخوة/7 – إخوان/25 —— 24
5 —— خليفة —— خلفاء/3 - خلائف(1)/4 —— 240
6 —— ذكر —— ذكور/2 – ذكران/1 —— 275
7 —— ساجد —— سجود/2 – سُجَّد —— 345
8 —— سِوار —— أسورة/1 – أساور/4 —— 370
9 —— شديد —— شداد/3 - أشدّاء/1 —— 377
10 —— شاهد —— شهود/3 – أشهاد /2 —— 389
11 —— شهر —— شهور/1 – أشهر/6 —— 390
12 —— شيعة —— شِيَع/5 – أشياع /2 —— 398
13 —— ضعيف —— ضعفاء/4 – ضعاف/1 —— 421
14 —— عبد —— عبيد/5 – عباد/116 —— 443
15 —— فاجر —— فجّار/3 – فجرة/1 —— 513
16 —— كافر —— كفّار/21(2)- كفرة /1 —— 612
17 —— ميْت —— أموات/5 – موتى /17 —— 679
18 —— نصيب(3) —— نُصُب/2 – أنصاب/1 —— 701
19 —— نعمة —— نِعَم/1 – أنعُم / 1 —— 708
20 —— نفس —— نفوس/2– أنفس/153 —— 713
ص: 44
وربَّما يظن مثل ذلك في موارد أخرى لا تصحّ بحسب الدّقة، كما في (صحف وصحاف) فإنَّ (صحف) جمع (صحيفة) و(صحاف) جمع (صفحة) بمعنى (القصعة).
ويلاحظ أنَّ كلام السّائل لم يخلُ عن ملاحظات يحسن إلفات النّظر إليها لإنارة الموضوع، وذلك أنَّه سأل عن سرّ استعمال جموع تكسير مختلفة لمفردة واحدة في القرآن الكريم من النّاحية البلاغية ممثّلاً لذلك بأمثلة ثلاثة وهي: (أبرار) و(بررة) في جمع (بارّ) و(أشهاد وشهود وشهداء) في جمع (شاهد) و(أنعام و أنعُم و نِعَم).
وهذه الملاحظات كما يلي:
من حيث تحديد موضوع السّؤال ب-(جموع تكسير مختلفة لمفرد واحد).
وهذا التّحديد ينحلّ إلى تحديدين:
أ. كون الجموع كُلّاَ ًمن قبيل جموع التّكسير.
ب. كون الجموع جميعاً مستعملة في القرآن الكريم.
ولعلّ السّائل لاحظ في التّحديد الأوَّل تأكّد السّؤال في هذه الحالة، لأنَّه كلّما كان أحد اللّفظين أقرب إلى الآخر كان اختيار أحدهما على الآخر أحوج إلى تفسيره ممّا إذا كانا متباعدين. وعليه فَرَضَ كون الجمعين من نوع واحد - هو جمع اتكسير - تحقيقاً لتقارب الكلمتين.
ويلاحظ بشأنه (أوَّلاً): إنَّ هذا التّقارب بين جموع التّكسير تقارب لفظي محضّ من حيث عدم انكسار وزن الكلمة بجمعها, ولا تأثير لمثل ذلك في تشديد حاجة الظّاهرة إلى التّفسير، فكما يرد السّؤال عن وجه اختيار (سجود وسجّد) أو (شهود وأشهاد) أو
ص: 45
(كفّار وكفرة) كذلك يرد مثله في اختيار (ساجدين وشاهدين وكافرين).
(وثانياً): إنَّه لو قدّر وجود فرق معنويّ بين نوعي الجمع لم يوجب ذلك أيضاً خفة السّؤال حول ذلك, لأنَّ السّؤال إنَّما اتّجه على أساس وجود حكمة في الانتقاء القرآني للمفردات على بديلاتها، ولا فرق فيه مع وجود فارق معنوي طفيف ومع عدم وجوده.
وأمَّا التّحديد الثّاني - وهو استعمال الجموع في القرآن - فلعلّه لاحظ فيه أيضاً تأثيره في تأكّد السّؤال، لأنَّ في استعمال الجموع في القرآن دلالة على بلوغها مستوى المفرد القرآني في الفصاحة, وهذا بخلاف ما لم يستعمل بعضها فيه فإنَّه يحتمل كون ذلك باعتبار عدم بلوغ الجمع المتروك إلى هذا المستوى.
وهذا أيضاً محلّ نظر؛ إذْ من الممكن إحراز بلوغ الجمع المتروك نفس المستوى بالذّوق اللّغوي العالي؛ إذْ الفصاحة ليست حالة مجهولة في اللّفظ، بل هي مشهودة بحسب الذّوق الأدبيّ.
وعليه، فلا فرق مهمّ هناك بين كون الجموع جميعاً جموع تكسير أو جموع سلامة أو مختلفة, ولا بين كونها جميعاً مستعملة في القرآن أو لا. ولكنّا حدّدنا موضوع الرّسالة بذلك محافظة على اختصارها، على أنَّه نموذج يظهر بالبحث عنه الحال في الحالات المماثلة.
من حيث تحديد جهة السّؤال ب-(النّاحية البلاغيّة) لهذه الظّاهرة.
فإنَّ هذا التّحديد يوحي بأنَّه لا بُدَّ من سرٍّ بلاغي لها، وهذا غير تامّ.
أمَّا أوَّلاً فلإمكان أنْ يكون السّرّ أو بعض السّرّ في ذلك جهة لغويّة, وذلك باختلاف مداليل الجموع: إمَّا في نوع المعنى، بأنْ يكون بعضها أضيق معنىً من مفرده دون بعض، كما قيل في (الأَعْرَاب) أنَّه يختصّ بأهل البادية دون مفرده وهو (العرب)، أو في استيعاب مراتب الجمع بناءً على انقسام جموع التّكسير إلى قلّة وكثرة كما هو
ص: 46
المعروف بين النّحاة, وسيأتي تفصيل ذلك.
وأمَّا ثانياً فلأنَّه على تقدير عدم وجود سرّ لغويّ لهذا الاختيار فبالإمكان أنْ يكون هذا الاختيار على أساس تكافؤ الجموع وتساويها فاختير كلّ واحد منها في موضع أو مواضع تفنّناً، ولا يتعيّن أنْ يكون ذلك على أساس تفاضلها في جهة لفظية أو معنوّية كما سيأتي أيضاً إنْ شاء الله تعالى.
ولذلك حذفنا هذا التّحديد من موضوع الرّسالة.
من حيث الأمثلة المذكورة.
أ. (أبرار) و(بررة) جمع (بار).
والصّواب في هذا المثال أنَّ (أبرار) جمع (بَرّ) و(بَررة) جمع (بارّ) كما صرّح به جماعة من اللّغويين - على ما سيأتي(1) - وإنْ ذهب بعضهم إلى عكس هذا القول كالرّاغب.
وتوضيح ذلك: أنَّ كلمة (بارّ) وصف رباعي(2) على وزن (فاعل)، و(برّ) اسم ثلاثي مضاعف.
وصيغة (فاعل) تُجمع على أوزان عدّة من جملتها هيئة (فَعَلَة) ككامل وكَمَلَة، وساحر وسَحَرَة، وكافر وكَفَرَة، وخازن وخَزَنَة، وصاحب وصَحَبَة، وجاهل وجَهَلَة، وفاجر
ص: 47
وفَجَرَة، وحامل وحَمَلَة، وكاتب وكَتَبَة... إلخ.
و(منها): وزن (فُعّال وفُعّل)، وليس من جملتها هيئة (أفعال) اللّهم إلَّا نادراً كشاهد وأشهاد.
قال المحقّق الرّضي في شرح الشّافية: (اعلم أنَّ الغالب في فاعل الوصف (فُعَّل) كشهَّد وغيَّب ونزَّل وقوَّم وصوَّم... ويكسّر أيضاً على فُعّال كزوّار وغُيّاب، وهما أصلٌ في جمع فاعل الوصف أعني فُعَّلاً وفعَّالاً، ويجيء على (فَعَلَة) أيضاً كثيراً، لكنْ لا كالأوَّلين نحو (عَجَزَة وفَسَقَة وكَفَرَة وبَرَرَة(1) وخَوَنَة وحَوَكَة...)(2).
وأمَّا (فعل) المضاعف فهو يُجمع على (أفعال)، فإنَّ (أفعال) تأتي جمعاً للكلمات الثّلاثية(3) كثوب وأثواب، وقول وأقوال.. ولا تأتي في الكلمات الرّباعيّة إلّا ندرةً وشذوذاً. ومن جملة أنواع الكلمات الثّلاثية الّتي يُجمع عليها المضاعف ك-(سرّ وأسرار، ومدّ وأمداد، ومنّ وأمنان, وسنّ وأسنان, وجَدّ وأجداد, وربّ وأرباب, ولفّ وألفاف بل ذكر المحقّق الرّضي في شرح الشّافية: أنَّه (لم يأتِ في قلّة المضاعف ولا كثرتها إلّا أفعال كأمداد وأفنان وألباب)(4) فهو يختصّ بهذا الباب.
وعليه فيتعيّن أنْ يكون (بررة) كأخواتها الّتي هي على وزن (فَعَلَة) جمعاً ل-(فاعل) وهو لفظ (بار)، و(أبرار) كأخواتها الّتي هي على وزن (أفعال) جمعاً ل-(فعل) وهو كلمة (برّ).
ص: 48
وستأتي مناقشة من ذهب إلى عكس ذلك إنْ شاء الله تعالى.
وعلى ما ذكرنا يختلف مفرد الجمعين فلا يندرج استعمالهما تحت هذه الظّاهرة.
ب. (شهود, أشهاد, شهداء) جمع (شاهد).
والصواب أنَّ (شهداء) جمع (شهيد) كما نصّ عليه اللّغويون من غير خلاف(1) وتقتضيه المقاييس الصّرفية، فإنَّ هيئة (فعلاء) ترد قياساً جمعاً لفعيل بمعنى (فاعل) - لا لنفس صيغة (فاعل) - ككريم وكرماء، وشريف وشرفاء، وحليم وحلماء، وعليم وعلماء، ورحيم ورحماء.
وأمَّا (شهود وأشهاد) فللغويين فيهما قولان(2):
الأوَّل: إنَّهما جمع (شَهْد).
والآخر: إنَّهما جمع (شاهد).
وسرّ الخلاف: أنَّ (فعول وأفعال) يردان جمعاً لكل من (فعل) و(أفعال)، وقد استعمل كل منهما في هذه المادّة.
وأمَّا ما قيل من (أنَّ الشّهداء اسم للجمع عند سيبويه، وجمع عند الأخفش) - حكاه في لسان العرب - فكأنَّه سهو، وصوابه: (الشَّهْدُ) كما في اللّسان(3)، فإنَّ الخلاف بين العلَمَين في صيغة (فعل) ك-(ركب وصحب) لا في صيغة (فعلاء) كما هو معروف.
ج. (أنعام وأنعم ونعم).
والصواب: أنَّه إنْ كان غرض السّائل أنَّ مفردها (نعمة) فلا يصح ذكر (أنعام)؛
ص: 49
لأنَّه جمع (نِعَم) بمعنى الأبل أو ما يعم البقر والغنم. وإنْ كان غرضه أنَّ مفردها (نَعَم) نفسه، فمن المعلوم أنَّ (نَعَم) و(نِعم) بكسر النّون جمعان ل-(نعمة).
وأمَّا ما قيل من أنَّ (الأنعم والنعم هما من المشتركات ولا تختصّ بالإبل فيكونان جمعاً للنعمة، كما يكونان جمعاً للنعم فيما يظهر) فليس بتامّ، بل هما ذوا معنى واحد جمعاً للنعمة. نعم، النّعمة أعمّ من النِّعَم بمعنى الإبل.
وبهذا تتم المقدمة الّتي أردنا ذكرها، فلنتحدث في أصل الموضوع حول أسباب هذه الظّاهرة.
إنَّ لهذه الظّاهرة أسباباً عديدة نذكرها تباعاً، وقد ينطبق أكثر من سبب في مورد واحد فيتكرر ذكره في تلك الأسباب بهذا الاعتبار(1).
قد يُظنّ أنَّ اختيار أحد اللّفظين المؤدّيين للمعنى على الآخر في القرآن الكريم لا بُدَّ أنْ يبتني على امتياز له على الآخر في جهة لغويّة أو بلاغيّة لفظاً أو معنىً, وقد يظهر هذا الانطباع من كلمات كثير من علماء البلاغة حيث يتعرّضون لبيان وجه اختيار أحد
ص: 50
اللّفظين على الآخر كالزّمخشري في الكشّاف وغيره, وقد جرى عليه السّائل كما تقدّم.
ولكن الصّحيح أنَّ تكافؤ اللّفظين من النّواحي اللّفظيّة ِوالمعنويّة يصلح أساساً لانتخاب أحدهما خاصّة, مع اختيار الآخر في موضع آخر تفنّناً أو بدون ذلك, إذْ لا محيص للمتكلّم في هذه الحالة عن اختيار أحدهما، ومن ذلك يظهر أنَّ مجرّد اختيار كلمة ما في موضع من القرآن لا يعني بالضّرورة وجود مرجّح لها على بديلاتها.
ولا يخفى أنَّه لا يمكن للإنسان أنْ ينفي وجود أيّة مزيّة بلاغيّة للّفظ المختار على غيره بمجرّد عدم الاطلاع عليه عادة؛ لأنّ هناك نواحياً بلاغيّةً منوطة بالذّوق البالغ في الدّقّة والصفاء ممّا لا يملكه إلّا ثلّة قليلة من أبناء اللّغة العربيّة.
نعم، لا يصلح تفسير اختيار أحد اللّفظين على الآخر بالتكافؤ في عدّة حالات: وهي (الالتزام) و(التّخصيص) و(العدول)، وقد مرّ شرحها في الفصل الأوَّل.
ولعلَّ من أمثلة تكافؤ اللّفظين هو:
1) اختيار كلمة (اللاتي) في جمع (الّتي) على (اللائي) وبالعكس في عدّة مواضع نذكرها ليتّضح للباحث قرب ملابسات استعمالهما أحياناً ويتسنّى له التّأمّل فيها.
(اللائي):
1. [وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ](1).
2. [إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ](2).
ص: 51
3. [وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ](1).
4. [فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ](2).
(اللاتي):
1. [وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ](3).
2. [وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ](4).
3. [وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ](5).
4. [مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ](6).
5. [وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ](7).
6. [فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ](8).
7. [ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ](9).
8. [وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً](10).
ص: 52
9. [إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ](1).
10. [وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ](2).
2) اختيار كلمة (خلفاء) في جمع (خليفة) على (خلائف) وبالعكس في مواضع نذكرها لنفس النّكتة.
(خلائف):
1. [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ](3).
2. [ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ](4).
3. [وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا](5).
4. [هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ](6).
(خلفاء):
1. [وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ](7)
2. [وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ](8)
ص: 53
3. [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ](1).
وتشابه بل تماثل الملابسات في الطّائفتين ظاهر.
إنَّ هيئة الجمع وإنْ لم تقتضِ إلّا الدّلالة على تعدّد معنى مفرده إلّا أنَّه قد يطرأ عليه بالاستعمالات تغيّر دلاليّ, ولذلك أمثلة متعدّدة في اللّغة..
منها: الفرق بين الأَعْرَاب والعرب، فإنَّ الأوَّل جمع الثّاني على الصّحيح، ولكنَّهما مختلفان معنىً، ففي اللّسان (فَمَن نَزَل البادية، أَو جاوَرَ البَادِينَ وظعَنَ بظَعْنِهم، وانْتَوَى بانْتِوائهِم: فهم أَعْرابٌ، ومَن نَزَلَ بلادَ الرِّيفِ واسْتَوْطَنَ المُدُنَ والقُرى العَربيةَ وغيرها ممّن يَنْتمِي إِلى العَرَب: فهم عَرَب، وإِنْ لم يكونوا فُصَحاءَ. وقول الله عزّ وجلّ: [قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا](2) فهؤلاء قوم من بوادي العرب قدموا على النّبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلّم) المدينة طمعاً في الصّدقات لا رغبةً في الإسلام فسمّاهم الله تعالى الأَعْرَاب ومثلهم الّذين ذكرهم الله في سورة التّوبة، فقال: [الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً](3) الآية. قال الأَزهري: والذي لا يَفْرِقُ بين العَرَبِ والأَعْراب والعَرَبيِّ والأَعْرابيِّ، ربما تَحامَلَ على العَرَب بما يتأَوّله في هذه الآية، وهو لا يميّز بين العَرَبِ والأَعْراب، ولا يجوز أَنْ يقال للمهاجرين والأَنصار أَعْرابٌ، إِنّما هم عَرَبٌ لأَنَّهم اسْتَوطَنُوا القُرَى العَرَبية، وسَكَنُوا المُدُنَ، وسواء منهم النّاشئ بالبَدْوِ ثُمَّ اسْتَوْطَنَ
ص: 54
القُرَى والنَّاشِىءُ بمكة ثم هاجر إِلى المدينة، فإِنْ لَحِقَتْ طائفةٌ منهم بأَهل البَدْوِ بعد هجرتهم، واقْتَنَوْا نَعَماً، ورَعَوْا مَسَاقِطَ الغَيْث بعد ما كانوا حاضِرَةً أَو مُهاجِرَةً، قيل: قد تَعَرَّبوا أَي صاروا أَعْراباً، بعد ما كانوا عَرَباً. وفي الحديث: تَمَثَّل في خُطْبتِه مُهاجِرٌ ليس بِأَعْرابيّ، جعل المُهاجِرَ ضِدَّ الأَعْرابيِّ..)(1).
وربّما ادّعى بعض اللّغويين أنَّ الأَعْراب مفرده (الأَعْرابي) وليس (العرب) بملاحظة الفارق المذكور، وهو غير متّجه، إذْ لا استبعاد في حصول الفرق بالتّطور، والأَعْرابي نسبة إلى الأَعْراب وليس مفرده لفظاً كما نسب إلى الصّحابة فقيل (صحابي) والجمع إذا أصبح رمزاً لقوم خاصّين صار بمثابة اسم الجمع وصحّت النّسبة إليه بلفظه كما في (أنصار) و(أنصاري).
(ومنها): بيوتات وأبابيت، وهما فيما قيل جمع (بيوت) و(أبيات) اللّذين هما جمع (بيت).
وقد قيل باختصاص الأوَّلين بالأشراف(2) مع أنَّ مفردهما ومفرده عامّ.
(ومنها): حكّام في جمع (حاكم)، فإنَّها ترد بمعنى القضاة بين النّاس - في وجه - ولكن (حاكم) مطلق مَنْ حَكَمَ بشيء، ويجمع على (حاكمين) بهذا المعنى. قال الله تعالى: [وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ](3), وقال تعالى: [رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ](4).
ص: 55
وربّما وجّه ذلك في كلام بعض اللّغويين بأنَّ الحاكم معنى أخصّ وهو القاضي فيجمع على الحكّام بهذا المعنى. ولا يبعد ذلك، ولكنَّ الغرض من ذكر هذه الأمثلة الاستئناس لأصل الفكرة فحسب.
ولعلّ من أمثلة هذه الحالة هو:
1) عباد وعبيد في جمع (عبد) فإنَّ الأوَّل يطلق على العباد العابدين أو المخلَصين منهم، ويطلق أيضاً على مطلق النّاس بعناية مملوكيتهم لله تعالى فيساوق العبيد.
فالعباد بالإطلاق الأوَّل أخصّ من العبد والعبيد، قال تعالى: [إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً](1), أو [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً](2).
ولو قيل مكانه (العبيد) لم يعطِ نفس المعنى كما هو ظاهر، وهذا يدلّ على أنَّ استفادة معنى العبادة لم يكن بمجرّد الإضافة.
ومن العباد بالإطلاق الثّاني - وهو الأكثر -: [وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً](3), [إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ](4), [أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ](5), [أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ
ص: 56
رَسُولٌ أَمِينٌ](1).
ومن إطلاق العبيد: [ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ](2).
وقد تنبّه إلى هذا الفرق الرّاغب في المفردات فقال: (وجمع العبد الّذي هو مسترق عبيد, وقيل عِبّداً, وجمع العبد الّذي هو العابد عباد, فالعبيد إذا أُضيف إلى الله أعمّ من العباد، ولهذا قال: [وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] فنبّه أنَّه لا يظلم من يختصّ بعبادته ومن انتسب إلى غيره من الّذين تسمّوا بعبد الشّمس وعبد اللّات ونحو ذلك)(3).
ولكن هنا ملاحظتان:
الأُولى: أنَّه لم ينتبه إلى الإطلاق الثّاني ل-(عباد) الّذي يساوق العبيد وبنى عليه تعيّن استعمال (العبيد) في مورد إرادة الأعمّ، بل عليه يتّضح وجه استعمال (عباد) في سائر مواطن استعماله، فإنَّه يكون بعناية تفهيم الدّلالة على العبادة، لكنّه غير تامّ. وعليه فورود (عباد) بمعنى العابدين إنَّما يوجّه اختياره في خصوص مواطن إرادة الدّلالة على العبادة واستعماله في غير ذلك فيستند إلى بعض الأسباب الآتية كجماله اللّفظي, وإنَّما وجه استعمال العبيد في الآية ونحوها فهو مراعاة السّجع.
والأخرى: أنَّه جعل للعباد المتضمّن لمعنى العبادة مفرداً, ولو تمّ هذا لخرج عن هذا السّبب واندرج في السّبب الرّابع الآتي، لأنَّه يتعدّد مفرد الجمعين بالدقّة معنىً, وإنَّما البحث في وجه استعمال جموع متعدّدة مع وحدة مفردها بحسب المعنى، ولكني لا
ص: 57
أحسّ بوجود هذا المعنى لمفرده(1). وقد يؤيّد ذلك قوله تعالى: [كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ](2), فإنَّ جملة (مِنْ عِبَادِنَا) مستغنى عنها لو استفيد معنى العبادة من المثنّى (عَبْدَيْنِ) لإمكان أنْ يقول (عبدين لنا) كما في قوله: [بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ](3)، إلّا أنْ يدّعى ثقل هذا التّركيب مع التّثنية والمفرد ونظير الآية قوله تعالى: [فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا](4).
فإنْ قيل: إنَّه إذا أُريد بقوله (من عبادنا) تمثيل صفة العبادة استغنى عن قوله: (صالِحَيْن)(5).
قيل: إنَّ الشّهادة بالصّلاح من الله تعالى أرفع من مجرّد العبادة ولذا تكرّر توصيف الأنبياء به أو ذكر مسألتهم الله تعالى أنْ يجعلهم من الصّالحين، قال تعالى عن يحيى:
ص: 58
[وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ](1), وعن عيسى: [وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ](2). وقال عن جملة من أنبيائه: [وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ](3). وعن يوسف: [أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ](4). وعن إبراهيم: [رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ](5). وعن يونس: [فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ](6). وعن إسحاق: [وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ](7). وعن سليمان: [وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ](8). وقال [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ](9) إلى غيرها من الآيات(10).
2) اختيار (شداد) على (أشدّاء) في مقام التّعبير عن الشّدّة الطّبيعيّة، فإنَّ الّذي أراه بحسب الوجدان اللّغوي أنَّ (أشدّاء) يختصّ بالشّدّة المتعمّدة كشدّة الإنسان المؤمن على الكافر ولا يطلق على الشّدّة الطّبيعيّة، فلا يقال (سنة شديدة وسنين أشدّاء)، أو (سواد شديد) و(ألوان أشدّاء)، أو (كلمات أشدّاء). وشداد يعمّ الأمرين قال تعالى:
ص: 59
[ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ](1), و[وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً](2) و[مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ](3) وقال: [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ](4). ولم نجد من نبّه على هذا الفرق من اللّغويين.
3) اختيار (إخوة) على (إخوان) في مقام التّعبير عن الإخوّة النَسبيّة حيث اعترف اللّغويون - كما سيأتي في السّبب الخامس - بأنَّه لم يُستعمل في مقام التّعبير عن علاقة الصّداقة ونحوها. ويساعد على ذلك تتبّع الاستعمالات، ولا شكّ أنَّ الالتزام بعدم الاستعمال ينعكس على اللّفظ فيوجب نحو اختصاص دلاليّ له بذلك وإنْ كان يظهر من بعض كلمات اللّغويين ادّعاء أنَّه مجرّد عدم استعمال.
فإنْ قيل: إنَّ معنى الإخوّة حقيقة ليس إلّا الإخوّة النّسبيّة فإطلاقها في سائر العلائق الحميمة مجاز وتنزيل، ولا فرق في ذلك بين (إخوان) و(إخوة)، ومعه يتعيّن أنْ يكون عدم استعمال (إخوة) في التّعبير عن سائر العلائق مجرّد التزام خارجي لا يرتبط بمدلول اللّفظ.
قلنا: فيه نظر، بل قد يكون استعمال (إخوان) في سائر العلائق قد صار حقيقة بالتّطوّر فصار معناه أعمّ من الإخوّة الحقيقيّة والتّنزيليّة, ولذلك كان قوله: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ](5) أبلَغ دلالة على عمق علاقة الإيمان وكونها بمثابة علاقة
ص: 60
الإخوّة، ولو قيل (إخوان) لم يدلّ على ذلك. (لاحظ ما يأتي في السّبب الخامس).
4) اختيار نفوس وأنفس في جمع (نفس)، فإنَّ النّفس تستعمل تارة: لمجرّد الدّلالة على الذّات كقولك (أعلم ما في نفسك). وأُخرى: في مقام التّركيز عليه كقولك (جاء زيد نفسه إلى البيت).
وقد أشار إلى هذا الفرق بعض اللّغويين ففي اللّسان: (قال أبو إسحاق: النَّفْس في كلام العرب يجري على ضربين: أَحدهما: قولك خَرَجَتْ نَفْس فلان أَي رُوحُه، وفي نفس فلان أَنْ يفعل كذا وكذا، أَي في رُوعِه، والضَّرْب الآخر: مَعْنى النَّفْس فيه مَعْنى جُمْلَةِ الشّيء وحقيقته، تقول: قتَل فلانٌ نَفْسَه وأَهلك نفسه، أَي أَوْقَعَ الإِهْلاك بذاته كلِّها وحقيقتِه)(1).
وقد يقال: إنّ هذين ليسا معنيين مستقلين لها فتكون الكلمة مشتركة بينهما اشتراكاً لفظيّاً، بل معناه هو الذّات دائماً، ولكن قد تستعمل في مقام التّركيز عليه كسائر الألفاظ المستعملة في التّوكيد اللّفظي المذكورة في باب التّأكيد - في علم العربية - ك-(عين, وكلّ, وجميع, وعامّة..).
وأمَّا (نفوس) و(أنفس) فالّذي أراه - بحسب الوجدان اللّغوي - أنَّ (النّفوس) تستعمل في مقام التّعبير عن مجرّد الذّات فلا يصحّ أنْ يقال: (جاء القوم نفوسهم) بل يقال (أنفسهم).
وأمَّا (أنفس) فهي تستعمل في كلا المقامين: الدّلالة على الذّات والتّركيز عليه.
وعليه فيتعيّن اختيار (أنْفس) على (نفوس) في مقام إرادة التّركيز على الذّات بصيغة الجمع.
ص: 61
نعم، صرّح بخلاف ما ذكرناه أبو إسحاق (المازني) في آخر كلامه السّابق حيث قال: (والجمع من كلّ ذلك: أنفس ونفوس). ولكن لا يبعد أنَّه جرى على القاعدة في مساوقة معنى الجمع لمعنى المفرد.
ويؤيّد ما ذكرنا أنَّ النّحاة في ذكر ألفاظ التّوكيد اللّفظي في باب التّوابع لم يذكروا إلّا (أنفس) رغم أنَّه يظهر منهم كونهم في مقام حصر تلك الألفاظ.قال ابن الحاجب في الكافية (و - التّوكيد - المعنوي بألفاظ محصورة وهي نفسه وعينه وكلاهما وكلّه وأجمع وأكتع وأبتع وأبصع فالأوَّلان يعمّان باختلاف صيغتهما وضميرهما تقول: نفسه ونفسها وأنفسهما وأنفسهم وأنفسهن).
ولم يستدرك عليه الرّضي في شرحها(1).
وقال ابن مالك في الألفيّة:
بالنفس أو بالعين الاسم أكدّا *** مع ضمير طابق المؤكّدا
واجمعهما بأفعل إنْ تبعا *** ما ليس واحداً تكن متبعا(2)
وإنْ كان هذا الحصر غير صحيح بالنسبة إلى (عين) فإنَّه يجمع بمعنى نفس الشّيء على أعيان قطعاً، بل أنكر بعض اللّغويين جمعه على عيون وأعين بالمعنى المذكور ففي اللّسان: (وعَيْنُ الشّيء: نفسه وشخصه وأَصله، والجمع أَعْيانٌ... ويقال: هو هو عَيناً، وهو هو بِعَيْنِه، وهذه أَعْيانُ دراهمِك ودراهِمُك بأَعْيانِها، عن اللّحياني، ولا يقال فيها أَعْيُنٌ ولا عيُون. ويقال: لا أَقبل إِلا درهمي بعَيْنِه، وهؤلاء إِخوتك بأَعيانهم، ولا يقال
ص: 62
فيه بأَعينهم ولا عُيونهم)(1).
ولكنْ فيما ذكره من عدم استعمال (أعين) بهذا المعنى نظر. نعم، الظّاهر عدم جمعه على عيون.
ويؤكد ما ذكرناه تتبع الاستعمالات اللّغوية لكلمتي (نفوس) و(أنفس) في القرآن الكريم ونهج البلاغة وغيرهما.
1. فالنّفوس إنَّما استعملت في مقام التّعبير عن الذّات من غير تركيز، قال تعالى: [وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ](2) و [رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ](3)، ولم تستعمل في القرآن في غير هاتين الآيتين، وفي نهج البلاغة استعملت في خمسة عشر موضعاً كلّها في ذاك المعنى: (ونستعينه على هذه النفوس البطاء عمّا أمرت به)(4)، (أيّها النّفوس المختلفة والقلوب المتشتّتة)(5)، (شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ)(6)، (فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ)(7)، ومن ذلك أيضاً: (فارحموا نفوسكم فإنّكم قد جرّبتموها)(8).
ص: 63
2. والأنفس استعمل على وجهين:
أ. فتارة في مورد التّعبير عن الذّات من غير تركيز عليه كالنفوس، قال تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ](1), [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ](2)، [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ](3), [أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَّسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَّفْسِهِ](4)، [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً](5), [لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً](6) إلى غير ذلك.
ب. وأخرى في مورد التّعبير عن الذّات مع التّركيز عليها وهو الغالب، كقوله: [وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ](7)، وغيره [قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا](8)، و[قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا](9)، [وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ](10).
ص: 64
هذا، ولكنَّ الأظهر أنَّ مفرد (نفوس) و(أنفس) مختلف بحسب المعنى؛ لأنَّ نفس ليس بمعنى الذّات بل يرد (تارة): بمعنى (روح) فيقال (خرجت نفسه)، إذْ لا معنى لأنْ يقال: (خرج ذاته). (وأخرى): بمعنى ذات الشّيء، والتّركيز خارج عن مدلوله اللّفظي وإنَّما يستفاد باقتضاء المقام كما في غيره من ألفاظ التّأكيد ك-(كلا) و(كلتا) كما أشار إليه بعض اللّغويين في كلامه المتقدّم. وعليه فيندرج في السّبب الرّابع الآتي من اختلاف الجمعين في معنى المفرد (بالدّقة).
بناءً على القاعدة النّحويّة المعروفة(1) في تقسيم الجموع إلى أقسام ثلاثة: قلَّة وكثرة ومشترك بينهما، فجمع القلّة ما يدل على إرادة الثّلاثة إلى العشرة، وجمع الكثرة ما يدلّ على إرادة العشرة فما فوق، والمشترك بينهما ما يدلّ على إرادة الثّلاثة فما فوق.
وقد عُدّ الجمع السّالم مشتركاً بين القسمين، وقُسّمت جموع التّكسير إلى قسمين: قلّة وكثرة.
وذُكر أنَّ جمع القلّة هو أربعة أوزان، وهي: وزن (أفعْال) و(أفعلة) و(أفْعُل) و(فِعْلة)، وما عداها فجموع الكثرة, وقد يستعمل أحدهما مكان الآخر تجوّزاً.
وجموع القلّة في الأمثلة السّابقة (آلاف) و(إخوة) و(أسورة) و(أشهاد) و(أشهر) و(أشياع) و(أموات) و(أنصاب) و(أنعم) و(أنفس) فهي تمثّل أحد الجمعين في عشرة
ص: 65
من الأمثلة العشرين السّابقة، والباقي هي جموع كثرة. كما أنَّ كلمة (أبرار) و(أنعام) ممّا ذكره السّائل جمع قلّة، والباقي ك-(بررة) و(شهداء) جمع كثرة.
فعلى هذه القاعدة: قد يبرر اختيار بعض جموع الكلمة على بعض في الأمثلة العشرة بالفارق المعنوي بينها فإنْ كان معنى الجمع مراداً - بأنْ أُريد القلّة بجمع القلّة والكثرة بجمع الكثرة - فتكون نكتة اختيار بعضها المعيّن لغويّة, وإنْ لم يرد معنى الجمع - بأنْ استُعمل جمع القلّة في موضع إرادة الكثرة أو العكس - كانت نكتة هذا الاختيار نكتة بلاغيّة حيث يكون هذا الاستعمال مجازياً، والمجاز يزيد الكلام رونقاً وجمالاً.
ويُلاحَظ أنَّ هذا هو الفارق الوحيد الّذي اطلعنا عليه بين معاني الجموع في كلمات علماء اللّغة وإنْ كان هناك جمعٌ منهم ينكرون ظاهرة التّرادف في لغة واحدة ممّا يقتضي تفريقهم بين الجموع المتعدّدة لمفردٍ واحد - فيما لم تختلف في القلّة والكثرة - لأنَّ إنكارهم لها يشمل الهيئات العامّة كما يشمل الموادّ، بل الهيئات أوْلى بذلك وفق انطباعهم من كون وضع عدّة ألفاظ لمعنى مخالفاً للحكمة؛ لأنَّها تولّد كلمات مترادفة كثيرة، إلّا أنَّا لم نعثر على تفسير لهم للفرق بين مثل هذه الجموع بما لاحظناه من كتبهم, ككتاب الفروق لأبي هلال العسكري، وكذا بما اطلعنا عليه في مطاوي الكتب اللّغويّة, ولعلّ الباحث يجد بعض ما يُشير إلى ذلك بالتّتبع الزّائد إنْ لم يكونوا قد غفلوا عن هذه النّاحية من ظاهرة التّرادف الّتي هي من أهم نواحيها.
ولكن في أصل تماميّة تلك القاعدة، ثُمَّ في صلاحيتها لتفسير هذه الظّاهرة من النّاحية اللّغويّة والبلاغيّة نظر ومناقشة.
ص: 66
النّاحية الأُولى - وهي فيما يتعلّق بأصل القاعدة -: الصّحيح أنَّ أوزان الجموع جميعاً إنَّما تعبّر عن معنى الاجتماع أو الاجتماع الثّلاثي فما فوق(1) فحسب، ولا دلالة لشيءٍ منها على التّحديد المذكور على ما يقضي به الوجدان اللّغوي، إذْ لا ينساق من شيءٍ منها مفهوم العشرة كي تدلّ على كونها نهاية للجمع أو بداية له كما هو ظاهر.
ولذلك لا نجد في إطلاق ما يسمّى بجمع القلّة على أكثر من عشرة، أو ما يسمّى بجمع الكثرة على أقلّ منها أيّة عناية، مع أنَّ إطلاق الكلمة على غير معناها بحاجة إلى عناية محسوسة، من قبيل إطلاق الشّمس على الوجه الحسن، أو الأسد على الرّجل الشّجاع وغير ذلك.
ويؤكد ذلك أمور:
إنَّه لو صحّ ذلك لم يجز استعمال جمع القلّة في أكثر من عشرة، ولا جمع الكثرة في أقلّ منها - ولو تجوّزاً -، مع أنَّه لا شكّ في صحّة استعمالهما كذلك، كما هو واقع بكثرة في الاستعمالات القرآنية وغيرها، وقد اعترف به النّحاة صريحاً.
والوجه في ذلك: أنَّ صحّة التّجوّز مبني على وجود علاقة مصحّحة للمجاز، وليس هناك شيء من العلائق المذكورة في علم البلاغة في المورد, مع عدم صحّة أكثرها
ص: 67
في نفسها.
ولذلك تجد أنَّه لا يصحّ إطلاق بعض الأعداد وإرادة عدد آخر لغةً بأنْ تقول (جاء عشرة) وأنت تريد (ألفاً) أو تريد (ثلاثة)، ومن المعلوم أنَّ استعمال جموع القلّة والكثرة بعضها مكان بعض من قبيل استعمال بعض الأعداد مكان بعض، لأنَّها على القاعدة المذكورة تستبطن التّحديد بعدد معيّن.
على تقدير صحّة هذا التّجوز - بوجود العلاقة المصحّحة - فلا تفسير له من النّاحية البلاغيّة؛ لأنَّ هذا التّجوّز ممّا لا يتضمّن خيالاً وإثارة، ولا يزيد الكلام رونقاً وبهاءً حسب شهادة الذّوق الأدبيّ. ومن المعلوم أنَّه لا بُدَّ في حسن استعمال المجاز من قبل الحكيم من وجود مصحّح بلاغيّ موجب لاختياره على الحقيقة - مضافاً إلى المصحّح اللّغويّ(1) -، لأنَّ العدول عن التّعبير الحقيقي وإنْ كان يصحّ لغةً من دون نكتةٍ بعد وجود العلاقة، إلّا أنَّه ربّما كان مقتضى البلاغة اختيار التّعبير الصّريح في أداء المعنى ما لم يوجد دافع لاستعمال التّعبير المجازيّ.
إنَّه لو كان الأمر كذلك لكان المناسب أنْ توضع في اللّغة صيغتان، لكلّ مفرد صيغة قلّة وصيغة كثرة للحاجة الاستعماليّة الماسّة إلى التّعبير عن معنى
ص: 68
الجمع بلفظٍ في جميع مراتبه في كلّ مادّة من الموّاد، لكن الّذي تقضي به ملاحظة مفردات هيئات الجموع - الّتي ذكرت في علم الصّرف - عدم وضع جمعين مطّردين لكلّ هيئة، بل لغالب الهيئات جمع واحد: إمَّا قلّة، أو كثرة(1).
ولذلك ادّعى النّحاة أنَّه قد يستغنى بوضع أحد الجمعين في بعض المفردات عن وضع الآخر, ولكن ليس هناك من داعٍ إلى وضع اللّفظ لمعنىً محدود مع ضرورة إهمال الحدّ في مرحلة الاستعمال باستعماله في غير موضع تواجد الحدّ, بل هذا تكلّف لا يليق ولا يقع عادة في اللّغة - الّتي هي ظاهرة من الظّواهر الطّبيعيّة للتجمّع البشري - .
إنَّا لا نجد أي تقيّد في استعمالات جموع التّكسير في اللّغة - بما لا نشهد مثله في أي استعمال مجازي آخر - بمعنى أنَّه يستعمل كلّ منهما في مكان الآخر مع توفّره من غير علّة ظاهرة.
ويكفي مثلاً على ذلك: أنَّك لو لاحظت الأمثلة التّسعة المتعلّقة بهذه الظّاهرة الّتي كان أحد جمْعَيها جمع قلّة، والآخر جمع كثرة، وجدتَ أنَّ انتخاب أحد الجمعين على الآخر، أو على سائر جموع الكلمة إنَّما يدور مدار مزيّة لفظيّة أو معنويّة من غير اكتراث بكون الجمع قلّة أو كثرة(2)، وهذا أمر يُدرك بالذّوق الأدبيّ إجمالاً ويتضح تفصيله بعض الشّيء من خلال الأسباب الآتية. وكذا الحال في سائر تلك الأمثلة بالنّسبة إلى جموع القلّة لمفرداتها الّتي لم تستعمل في القرآن الكريم, بل وكذا سائر الأمثلة الّتي لم يستعمل لها في
ص: 69
القرآن إلّا جمعٌ واحدٌ إمَّا قلّة أو كثرة ولعلّها تنوف على مائة لفظة, وهذا الأمر بحاجة إلى وضع جداول للمفردات وجموعها في القرآن كي يتسنّى للباحث مطالعة استعمالاتها، إلّا أنَّ الوقت لا يتّسع لذلك. على أنَّي لا أظنّ حاجة إلى ذلك في إبطال هذه الفكرة.
هذا، وقد بلغ من شيوع استعمال أحد الجمعين مكان الآخر أنْ اعترف به النّحاة والصرفيون رغم أنَّه ليس من عادتهم التّعرّض للاستعمالات المجازيّة.
لو قيل: إنَّه لو فرض انقسام الجمع في اللّغة إلى قسمين ابتداءً إلّا أنَّها أصبحت للقلّة والكثرة جميعاً بالتطوّر الحاصل بالاستعمالات الهائلة لم يكن ذلك غلوّاً ومجازفةً, بل مثل هذا الانقسام ممّا يستحيل عادةً أنْ يبقى ظاهرة دائمة في اللّغة بعد أنْ لم يكن يوافق حاجةً استعماليةً كما لم نشهد مثله في شيءٍ من اللّغات الأخرى.
اختلافهم في حدّ الجمع في كلٍّ من القسمين وكذا في مصاديقهما اختلافاً معتدّاً به من غير حسمٍ للنزاع بحجّة، إلّا ما يدلّ على فساد أصل المبنى ككلّ.
أمَّا من جهة حدّ الجمع فالمعروف بين النّحاة أنَّ جمع الكثرة يبتدئ بالعشرة، وربّما سمّي بهذا الاعتبار بجمع الكثرة، ولكن عن السّعد التّفتازاني أنَّه يبتدئ من ثلاثة(1) فيكون الفرق بينهما من ناحية النّهاية فقط, ولعلّ قوله هذا يوافق كلمات الأصوليين الّذين بحثوا في أنَّ أقلّ الجمع اثنان أو ثلاثة من غير تفريق بين الجموع في ذلك.
وأمَّا من جهة مصاديق القسمين فالمعروف - كما تقدّم - انحصار جمع القلّة في أربعة أوزان من جموع التّكسير, ولكنْ أضاف بعضهم الجمع السّالم فقال إنَّه من قبيل جمع القلّة(2).
ص: 70
وأنكر الزّجّاج ذلك محتجّاً بمثل قوله تعالى: [وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ](1), وقوله: [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ](2).
لكنَّه قال: إنَّ القليل أغلب عليه لشبهه بالتّثنية(3)، إلّا أنَّ مثل هذه الحجّة قائمة في جموع التّكسير، بل لا يحرز فيها غلبة استعمالها في القليل الّذي اعترف به في الجمع السّالم.
وأضاف آخرون عدّة أوزان أخرى من جموع التّكسير وهي (فُعَل) ك-(سُرَر) و(فَعَلة) ك-(بَرَرة) و(أفعلاء) ك-(أصدقاء) و(فِعَل) ك-(نِحَل) وبذلك يكون المجموع مع جمعي السّالم عشرة.
فما هو المقياس في تشخيص حقّ هذه الأقوال وباطلها!
إنَّ لازم ما ذكروه أنْ يكون هناك جموع لا تطلق على أقلّ من ثلاثين أو مائة، وذلك فيما إذا جمع كثرة على جمع قلّة أو مشترك بين القلّة والكثرة ك-(بيوت) على (بيوتات) فإنَّ مفرده لا يطلق على أقلّ من عشرة، وحيث إنَّ أقلّ الجمع على المعروف ثلاثة فيكون أقلّ الجمع ثلاثين، وإذا جُمع جمع الكثرة على جمع كثرة كان أقلّه مائة؛ لأنَّ أقل ما يطلق عليه مفرده عشرة، كما أنَّ العدد الّذي يقتضيه هو عشرة وضرب عشرة في مثلها يساوق مائة، وهذا ظاهر الفساد بحسب أي وجدان لغويّ.
لكن قاعدة (جمع الجمع) عندنا غير تامّة في نفسها(4).
ص: 71
فظهر بذلك: أنَّ الصّحيح اشتراك جميع الجموع بين القلّة والكثرة.
ويلاحظ أنّا لم نطّلع إلّا على أمرين ممّا يمكن أنْ يكون منشأ لقول النّحاة بهذا التّقييم:
(الأوَّل): تناسب بعض الجموع للدلالة على القلّة، كوزن (أفعلة)، أو الكثرة كوزن (أفاعل) - كما يأتي مثال ذلك في السّبب الخامس - لكن مجرّد التّناسب لا يوجب اختلاف المعنى اللّغوي - كما سيأتي - بل يكون استعمال كلٍّ فيما هو أنسب ضرباً من الجمال المعنوي للكلام فحسب.
(والآخر): قضيّة تنقل عن الخنساء تتضمّن اعتبارها الجمع المؤنّث السّالم وبعض جموع التّكسير جموع قلّة، ففيها أنَّها قالت لحسّان - في قصّة محكيّة - (ما أجود بيت في قصيدتك الّتي عرضتها آنفاً؟
قال: قولي:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فقالت: ضَعَّفتَ افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع في بيتك هذا.
قال: وكيف؟
ص: 72
قالت:
1. قلتَ (الجفنات) والجفنات ما دون العشر، ولو قلتَ (الجفان) لكان أكثر.
2. وقلتَ (الغرّ) و(الغرّة) بياض يكون في الجبهة، ولو قلتَ (البيض) لكان أكثر اتّساعاً.
3. وقلتَ (يلمعن) واللّمع شيء يأتي بعد شيء مضى، ولو قلتَ (يشرقن) لكان أكثر؛ لأنَّ الإشراق أدوم من اللّمعان.
4. وقلتَ (بالضّحى)، ولو قلتَ (بالدّجى) لكان أكثر إشراقاً.
5. وقلتَ (وأسيافنا) والأسياف ما دون العشر، ولو قلتَ (سيوفنا) كان أكثر.
6. وقلتَ (يقطرن)، ولو قلتَ (يسلن) كان أكثر.
7. وقلتَ (من نجدة)، والنّجدة باللام أكثر.
8. وقلتَ (دماً)، والدماء أكثر من الدم. فلم يحر جواباً)(1).
ولكن الظّاهر أنَّ الخبر من وَضْعِ بعض الأدباء المولعين بمثل هذه الحكايات الأدبيّة كما نقل عن الزّجّاج(2) إنكاره له قائلاً إنَّه موضوع, ومضمونه كافٍ في الحكم بوضعه، لضعف الانتقادات المذكورة، بل وضوح ضعف بعضها جدّاً بما يطول توضيحه، ولو لم يكن فيها إلّا إثبات كون الجمع المؤنث السّالم وصيغة (أسياف) جمع كثرة لكفى بعد مخالفته للوجدان اللّغويّ.
ص: 73
(النّاحية الأخرى): عدم جدوى التّقسيم المذكور في حلّ هذه الظّاهرة، لا في حالة استعمال جمع القلّة في القلّة والكثرة في الكثرة كنكتةٍ لغويّة، ولا في حالة العكس كنكتةٍ بلاغيّةٍ.
أمَّا في الحالة الثّانية فلِما تقدَّم من أنَّ هذا المجاز لا يوجب زيادة الكلام رونقاً وجمالاً من النّاحية المعنويّة ليصح تفسيراً لاختياره على الحقيقة، فيكون استعماله بنفسه بحاجة إلى تفسير بلاغيّ, أو أنَّه يزيد الحاجة إلى ذلك.
وأمَّا في الحالة الأُولى فلأنَّ استعمال جمع القلّة في موضع جمع الكثرة وبالعكس إذا كان مجازاً يزيد رونق الكلام كما فرض في توجيه الحالة الثّانية فيتّجه السّؤال عن سّر عدم اختياره في موارد استعمال كلّ ِقسم في موضعه ليزداد الكلام بلاغةً وبهاءً، فلا بُدَّ هناك من تفسير للتفكيك بين الموارد في استعمال هذا المجاز وعدمه.
فظهر بذلك كلّه: عدم صلاح تقسيم الجمع إلى قلّة وكثرة في تفسير هذه الظّاهرة.
فإنَّه قد يكون لمفردٍ ما معنيان يجمع كليهما على وزنٍ، ويختصّ أحدهما بوزن آخر، فيتعيّن استعمال الوزن الأوَّل في التّعبير عن المعنى الّذي يختصّ جمعه به، فيجمع كل واحد بهيئة غير ما يجمع عليه الآخر، مثل جمع (عين) بمعنى الباصرة على (أعين)، ويجمع على (عيون) بكل من معنييها (العين الباصرة والجارية).
ومن أمثلة ذلك:
1) كلمة (كافر) حيث تطلق على الكافر في مقابل المؤمن، وعلى الزّرّاع، ويُجمع
ص: 74
بكلا المعنيين على الكفّار، ولكنْ لم يأتِ جمعه بمعنى الزّرّاع على (كفرة)، فيختصّ به المعنى الأوَّل فمتى أُريد التّعبير عن جمع الزّرّاع تعيّن استعمال الكفّار، كما في قوله تعالى: [كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً](1), وهذا على أحد الاحتمالين قال الرّاغب: (قيل: عنى بالكفّار الزّرّاع؛ لأنَّهم يغطّون البذر في التّراب. ستر الكفّار حقّ الله تعالى بدلالة قوله (يعجب الزّرّاع ليغيظ بهم الكفّار) ولأنَّ الكافر لا اختصاص له بذلك. وقيل: بل عنى الكفّار، وخصّهم بكونهم معجبين بالدّنيا وزخارفها وراكنين إليها)(2).
والاحتمال الأوَّل أظهر، فإنَّه لا تناسب في تلك الآية لإرادة الكفّار في مقابل المؤمنين كما يشهد لذلك ما في الآية الثّانية [يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ](3), وإنْ كان الاجتناب عن التّعبير بالكفّار فيها أمكن أنْ يكون كراهة له بعد وقوع التّعبير في الآية بالكفّار مرّتين بما يقابل المؤمنين وإنْ عدّ مثل ذلك في علم البديع من المحسنات البديعيّة وسُمّي طباقاً، إلّا أنَّ حسنه في كلّ حالٍ غير واضح.
وقد ورد الكفّار في اللّغة بمعنى الزّرّاع ففي اللّسان: (وكل من ستر شيئاً، فقد كَفَرَه وكَفَّره. والكافر الزّرَّاعُ لستره البذرَ بالتراب. والكُفَّارُ: الزُّرَّاعُ. وتقول العرب للزَّرَّاعِ: كافر؛ لأَنَّه يَكْفُر البَذْر المَبْذورَ بتراب الأَرض المُثارة إِذا أَمَرّ عليها مالَقَه)(4).
نعم، لو لم يرد إطلاق الكافر والكفّار على الزّرّاع لغةً وإنَّما كان مجرّد تخريج على
ص: 75
معناه العامّ (أي السّتر والتّغطية) ربّما رجح الاحتمال الثّاني، وكأنَّ هذا الاحتمال (الثّاني) نشأ عن الأُنس الشديد للغويّين والمفسّرين بالمفاهيم الدّينيّة حتّى بالغوا في تفسير الألفاظ بها ولو أُريدت بها معانٍ لغويّة أخرى.
2) نفوس وأنفس في جمع (نفس)، بناءً على ما مضى في السّبب الأوَّل من أنَّ النّفس بمعنى الذّات يجمع على (أنفس)، وبمعنى الرّوح يجمع على (النّفوس) و(الأنفس)(1). وقد مضى توضيح شواهد ذلك هناك. وعليه فيتعيّن استعمال (الأنفس) في التّعبير عن الذّات. وما ذكره بعض اللّغوييّن من استعمال النّفوس جمعاً لنفس بمعنى الذّات لا شاهد عليه كما مّر.
وإنَّما يتّجه اندراجه في السّبب الأوَّل بناءً على أنَّ مفرده ذو معنىً واحد: إمَّا بمعنى الرّوح كما قد يستفاد من كلام الرّاغب(2) حيث لم يذكر غيره، وإنْ لم يمثّل له بما يناسب الذّات. أو بناءً على أنَّه بمعنى الذّات مطلقاً. وكلاهما باطل كما يظهر ممّا مرّ.
3) عباد وعبيد في جمع (عبد)، بناءً على ما مرّ عن الرّاغب في السّبب الأوَّل من كون مفرد الأوَّل العبد العابد، وفي الثّاني العبد بمعنى مطلق المملوك إذا ضمّ إلى ما ذكرناه من مجيئ العباد جمعاً للعبد بمعنى مطلق المملوك، فإذا أُريد التّعبير عن العباد العابدون جمعاً تعيّن التّعبير بالعباد، وقد سبق ما يتعلّق بذلك.
ص: 76
4) أشياع وشِيَع جمعاً ل-(شيعة) فإنَّه يظهر من بعض اللّغويين كونهما بمعنى واحد, قال الرّاغب: (والشيعة من يتقوّى بهم الإنسان وينتشرون عنه، ومنه قيل للشجاع مشيع، يقال (شيعة وشيع وأشياع)(1). ثمّ ساق الآيات الّتي تضمنت استعمال الجمعين.
ولكن قد يقال بالفرق بينهما على ضوء كلمات بعض اللّغويين ولو في الاستعمال القرآني، فإنَّ (شِيَع) لم يرد فيها إلّا بمعنى الفِرَق جمعاً للشيعة بمعنى الفرقة، وذلك في آيات خمسة يشهد سياقها بذلك، أو يتعيّن ذلك فيها لا محالة، وهي: [أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ](2), [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ](3), [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ](4)، [مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ](5)، وكذا في [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ](6)، فإنَّ إرادة الأنصار ونحوه بعيد فيه، وإنَّما الأقرب أنْ يراد (فرق الأوَّلين).
وأمَّا الأشياع فقد استعمل في موردين يناسب إرادة الأمثال كما فُسِّر به في كلمات المفسرين واللغويين(7)، وهما: [وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ](8)، [وَحِيلَ
ص: 77
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ](1)، وإرادة الأنصار فيها بعيد(2)، بل الظّاهر أنَّه جمع (شيع) بمعنى المثل ففي اللّسان: (يقال: هذا شَيْعُ هذا. أَي مِثْله)(3)، أو جمع شيعة بمعنى (قوم يَرَوْنَ رأْيَ غيرهم) كما عدّه في معانيها(4).
نعم، ذكر اللّغويون أنَّ (شيع وأشياع) يأتي جمعاً ل-(شيعة)(5) معاً بمعنى الأنصار، ولكنَّه غير مراد، ولم يذكروا مجيء أشياع بمعنى الفِرَق، ولا الشيع بمعنى الأمثال، فلاحظ(6).
5) ويلحق بذلك صيغتا (أبرار) و(بررة) بناءً على تعليل ذكره الرّاغب، فإنَّ مفرد اللّفظين وإنْ كان مختلفاً - كما مرّ - فيخرج بذلك عن هذه الظّاهرة، إلَّا أنَّه ناسب التّعرض لهما من جهة ذكرهما في كلام السّائل.
ويلاحظ: أنَّ صيغتي (بررة) وردت في مورد واحد وهو قوله تعالى في وصف الملائكة: [كِرَامٍ بَرَرَةٍ](7)، وكلمة (أبرار) وردت وصفاً للناس المؤمنين في ستة مواضع:
1. [رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ](8).
ص: 78
2. [لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ](1).
3. [إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا](2).
4. [إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ](3).
5. [كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ](4).
6. [إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ](5).
والسّبب الأقرب في هذه التّفرقة عندي هو أنَّ كلمة (أبرار) أجمل من كلمة (بررة) ذاتاً فاختيرت عليها إلَّا في تلك الآية مراعاة فيها للسجع، أو الموازنة(6).
كما يأتي نظيره في السّبب السّادس من الأسباب الآتية: وقد أكّد اختيار (أبرار) في الآيتين الأوليتين تحقيقه فيهما للسجع والموازنة(7) أيضاً.
ص: 79
ولكنْ علّل هذه التّفرقة الرّاغب الأصفهاني بما يشبه السّبب المذكور، فقال: (وجمع البارّ أبرار وبررة، قال تعالى: [إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ] وقال: [كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ]، وقال في صفة الملائكة: [كِرَامٍ بَرَرَةٍ] فبَرَرَة خصّ بها الملائكة في القرآن من حيث إنَّه أبلغ من (أبرار) فإنَّه جمع (برّ)، و(أبرار) جمع (بارّ)، و(برّ) أبلغ من (بارّ)، كما أنَّ عدلاً أبلغ من عادل)(1).
وقد تبعه على ذلك الفيروز آبادي صاحب القاموس في كتابه البصائر على ما نقله في تاج العروس(2) حيث حكى عنه أنَّه قال: (وخُصَّ المَلائِكَةُ بالبَرَرَةِ، من حيثُ إنَّه أبلغُ من الأبرار...) إلى آخر عبارة الرّاغب، ولم يعلّق الزبيدي على ذلك.
وهذا التّعليل يبتني على دعائم أربعة، لا يتمّ شيء منها:
الأُولى: دعامة قرآنيّة، وهي تخصيص الملائكة في القرآن بلفظ (بَرَرَة)، والنّاس بلفظ (الأبرار).
الثّانية: دعامة لغويّة، وهي كون (برّ) أبلغ من (بارّ) بحسب المعنى.
الثّالثة: دعامة صرفيّة، وهي كون (بَرَرَة) جمع (برّ) و(أبرار) جمع (بار).
الرابعة: دعامة بلاغيّة، وهي أنَّ مقتضى البلاغة التّعبير عن الملائكة ب-(البَرَرَة) وعن النّاس ب-(الأبرار) لفضيلة الملائكة على النّاس.
أمَّا الدّعامة الأُولى (القرآنية) - وهي تخصيص كلٌّ من النّاس والملائكة بلفظ - فهي لو تمّت لاقتضت ضرورة وجود نكتة معنويّة مستدعية للتفريق بين الصّنفين في التّعبير،
ص: 80
كما مرّ ذلك في البحث عن السّبب الأوَّل، وهذا بدوره يقوّي احتمال مراعاة النّكتة المعنويّة الّتي ذكرت كدعامة بلاغيّة.
ولكنَّ الصّحيح عدم تماميّة ذلك لعدّة جهات:
إنَّ بالإمكان أنْ يكون التّعبير ب-(البَرَرَة) في المورد المذكور لا من جهة وقوعه وصفاً للملائكة، بل مراعاة لمزيّة لفظيّة وهي تماثل الآية مع طرفيها على نحو السّجع أو الموازنة - كما مرّ بيان ذلك - وقيام هذا الاحتمال كافٍ في عدم صحّة ادعاء التّخصيص كما تقدّم.
وقوع التّعبير ب-(البَرّ) - المفرد - عن الإنسان ولكن مخصّصا ًب-(الأبوين) في قوله تعالى عن (يحيى): [وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّا](1), وبالأُم في قوله عن (قول عيسى): [وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً](2).
والبرّ بالأبوين جزء من الإيمان وخصلة من خصاله، فالتعبير به عن الإنسان ينفي تخصيص الملائكة بوصف (البَرَرَة)، إذْ لا فرق بين المفرد والجمع.
وكذلك ينفي ذلك ما ورد من التّعبير ب-(البِرّ) - بكسر الباء - عن النّاس؛ إذْ لا فرق بينه وبين (البَرّ) بالفتح، إذْ كون (البَرّ) بالفتح أبلغ من البارّ إنْ كان من جهة كونه مصدراً، والتوصيف بالمصدر أبلغ من التّوصيف بالوصف فالبِرّ بالكسر مصدر أيضاً دون إشكال. وإنْ كان من جهة كونه وصفاً مصوغاً للمبالغة فلا يقصر التَّوصيف بالمصدر عنه في ذلك.
وقد ورد التّعبير بالبِرّ - بالكسر - عن المؤمنين في موضعين من القرآن الكريم، قال
ص: 81
تعالى: [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ](1). وقال: [وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا](2).
الجهة الرّابعة: مع غضّ النّظر عن ذلك، فإنَّ تخصيص الملائكة بلفظ (البَرَرَة) إنَّما يتحقّق فيما لو كانت موارد التّعبير عنهم بذلك متعدّدة حتّى لا يحتمل أنْ يكون على سبيل التّفنّن في اختيار الألفاظ المتماثلة المعنى، فلا يكفي وقوع التّعبير عنهم بذلك في مورد واحد.
وأمَّا الدعامة الثّانية (اللّغويّة) - وهي كون (بَرّ) أبلغ من (بارّ) بحسب المعنى - فيلاحَظ عليه: أنَّ ذلك إنْ كان على أساس كون صيغة (البَرّ) صيغة مبالغة فهو مردود بوضوح، فإنَّه لم يعدّ أحد من النّحاة صيغة (فعل) من أوزان المبالغة.
وإنْ كان على أساس قياسه ب-(عدل) كما أشار إليه، فهو محلّ نظر من عدّة جهات:
إنَّ (عدل) إنَّما كان أبلغ من (عادل) على ما صرّح به اللّغويون والنحاة(3) حيث يكون مصدراً؛ لأنَّه يقتضي تجسّد العدالة في الموصوف بمعنى أنَّه كلّه
ص: 82
عدالة، وأمَّا (البَرّ) - بالفتح - بمعنى الإحسان فلم يذكر أحدٌ من اللّغويين ولا الرّاغب وروده مصدراً. نعم، يرد مصدراً من (بَرّ يمينه) إذا صدقها ووفى بها، وهو غير مراد في الآيات.
إنَّه لو قدّر وروده مصدراً فلا دليل على اختصاصه بالمعنى المصدريّ، بل من الجائز اشتراكه - ولو بالتّطوّر(1)- بين المعنى المصدريّ والوصفيّ، كما لا يبعد الالتزام به في عدّة ألفاظ ك-(ضيف) و(عدل) و(خصم) ونحو ذلك، وعليه فحيث إنَّ إرادة المعنى المصدريّ يكون تجوّزاً ولا قرينة عليه فيُحمل على إرادة المعنى الوصفيّ.
إنَّ نفس جمع (برّ) قد يكون قرينة على أنَّ المراد به المعنى الوصفيّ دون المصدريّ، فإنَّ الجمع منه لا يستعمل حيث يراد به المصدر حقيقة - كما اعترف به اللّغويون في أمثاله كعدل - لكنْ يظهر من كلماتهم دعوى صحّة استعماله فيما لو أُطلق المصدر على الذّات مبالغةً فيقال (عدلان) و(عدول)، إلّا أنَّ الأظهر عدم تماميّة ما ذكروه - لاسيّما على القول بأنَّ المجاز ليس استعمالاً للّفظ في غير معناه، وإنَّما ينزّل غير
ص: 83
المعنى منزلة المعنى فإذا قيل: (جاء الأسد) وأُريد الرّجل الشّجاع لم يستعمل الأسد في الرّجل الشّجاع كمعنى للّفظ، وإنَّما استعمل في نفس الحيوان المفترس، ولكن نزّل الرّجل الشّجاع منزلة الأسد كما عليه السّكّاكي (ت 626ﻫ) - وعلى هذا القول تكون هناك ملازمة واضحة بين صحّة جمع المصدر حيث يراد به المصدر حقيقة وحيث يراد به الذّات مجازاً, فالصحيح فيما يعدّ جمعاً للمصدر ك-(عدول) و(ضيوف) و(أضياف) و(خصوم) أنَّه جمع للمعنى الوصفيّ بما أنَّه معنى حقيقي للكلمة، كما يشهد به الوجدان اللّغويّ.
نعم، هناك فرق بين مدلول (بارّ) و(برّ) لغة فيما نراه، فإنَّ مدلول (برّ) صفة ثابتة في الشّخص، فلا يطلق على الشّخص بمجرّد صدور البرّ منه مرة واحدة، وأمَّا (البارّ) فهو ذو وجهين: فتارة يستعمل كذلك، وأخرى يستعمل للدّلالة على فعل حادث للشخص فيقال: (إنَّي بارّ بك غداً) كما تقول: (إنَّي سأبرّك غداً) ولعلَّ إلى هذا الفرق أشار الخليل (ت 175ﻫ) أو تلميذه اللّيث في العين بقوله: (تقول: ليس ببرّ وهو بارّ غداً)(1)، أي يصدق نفي صفة البرّ عمّن سوف يبرّ غداً حيث يكون برّه هذا حالة مفردة أو شبه مفردة لا حالة عامّة. وأمَّا سائر اللّغويين فجعلوا اللّفظين ككلمتين مترادفتين.
وأمَّا الدّعامة الثّالثة - وهي كون (بررة) جمع (برّ)، و(أبرار) جمع (بارّ) - فيلاحظ عليها أمور:
إنَّ الصّحيح في الموضوع هو العكس بمعنى أنَّ (أبرار) جمع (برّ) و(بررة) جمع (بارّ) - فإنَّه مقتضى المقاييس العامّة المذكورة في علم الصّرف بملاحظة الفارق اللّفظي بين الكلمتين، ولا حجّة في قول اللّغويين على خلافها - ولو فُرض
ص: 84
اتفاقهم على ذلك -؛ لأنَّ الموضوع أربط بتطبيق القواعد العامّة المبنيّة على تتبع الأمثلة واستقرائها من مداليل لغويّة خاصّة يُعتمد فيها على أقوال آحاد اللّغويين.
وتوضيح ذلك: أنَّ كلمة (بارّ) وصف رباعي على وزن (فاعل) و(برّ) اسم ثلاثي مضاعف.
وصيغة (فاعل) تُجمع على أوزان عدّة من جملتها هيئة (فَعَلَة) ك-(كامل وكملة، وساحر وسحرة، وكافر وكفرة، وصاحب وصحبة، وجاهل وجهلة، وحامل وحملة، وحافظ وحفظة، وكاتب وكتبة).
(ومنها): وزن فُعّال وفُعّل، وليس من جملتها هيئة (أفعال).
قال المحقّق الرّضي في شرح الشّافية: (اعلم أنَّ الغالب في فاعل الوصف فُعّل كشُهّد وغُيّب ونُزّل وقُوّم وصُوّم... ويُكسّر أيضاً على فُعّال كزُوّار وغيّاب. وهما أصل في جمع فاعل الوصف أعني فُعَّلاً وفعّالاً. ويجيء على فعلة أيضاً كثيراً لكنْ لا كالأوَّلي نحو عجزة وفسقة وكفرة وبررة وخونة وحركة...)(1).
وقد صرّح في كلامه بكون (بررة) جمع (بارّ) كما ترى.
وأمَّا (فعل) المضاعف فهو يُجمع على (أفْعال)، فإنَّ (أفعال) تأتي جمعاً للكلمات الثّلاثية(2) ك-(ثوب) و(أثواب) و(قول) و(أقوال).. ولا تأتي في الكلمات الرّباعية إلّا ندرة وشذوذاً كشاهد وأشهاد. ومن جملة أنواع الكلمات الثّلاثية الّتي يُجمع عليها المضاعف ك-(سرّ وأسرار، ومدّ وأمداد، ومنّ وأمنان، وسنّ وأسنان، وجدّ وأجداد،
ص: 85
وربّ وأرباب... الخ)، بل ذكر المحقّق الرّضي في شرح الشّافية(1) أنَّه (لم يأتِ في قلّة المضاعف ولا كثرته إلّا أفعال كأمداد وأفنان وألباب) فهو يختصّ بهذا الباب.
وعليه فيتعيّن أنْ يكون (بررة) كأخواتها الّتي هي على وزن (فعلة) جمعاً ل-(فاعل) - وهو كلمة (بارّ) - . و(أبرار) كأخواتها الّتي هي على وزن أفعال جمعاً ل-(فعل) - وهو كلمة (برّ) - .
وقد يؤيّد ذلك: بانعكاس الفرق المعنوي السّابق بين المفردين في هذين الجمعين حسب ما يشهد به الوجدان اللّغوي الدّقيق.
إنَّه لو قُدّر أنَّ قول اللّغوي حجّة في الموضوع كان قول الرّاغب والفيروزآبادي في ذلك معارَضاً بقول جماعة أُخرى من اللّغويين حيث صرّحوا بما ذكرناه، كما في مواضع متعددة من لسان العرب(2):
1. ففي موضع: (ورجل برّ من قوم أبرار، وبارّ من قوم بررة).
2. وفي موضع ثانٍ: (وجمع البرّ الأبرار، وجمع البارّ البررة).
3. وفي موضع ثالث (وجمع البرّ الأبرار).
ومثل هذا التّكرار الواقع في اللّسان كثيراً ينشأ عن أنَّه جَمعَ عدّة كتب لغوية على ما ذكره في مقدّمته(3) من غير حذف مكرّراتها، وعليه فهو يُمثّل بتكراره قول عدّة من
ص: 86
اللّغويين. والظّاهر أنّ العبارة المتوسطة هي لابن الأثير في النّهاية(1)، ولا يبعد أنْ يكون الباقي للجوهري (ت 393ﻫ) في الصِّحاح، أو الأزهري (ت 370ﻫ) في تهذيب اللّغة.
وقول هؤلاء أرجح لأنَّهم أكثر عدداً، ولأنَّ قولهم أقرب إلى الاسترسال من قول الرّاغب والفيروزآبادي؛ لأنَّهم كانوا في صدد تشخيص الموضوع بنحو طبيعي، وأمَّا العلمان فهما أقرب إلى الانحياز إلى جهة معيّنة، حيث كانا بصدد تبرير ما ظنّاه من تخصيص الملائكة بلفظ البررة في القرآن الكريم.
ويلاحظ أنَّ هناك قسماً آخر من كلمات اللّغويين مجملة المعنى فلا يمكن استظهار ما اُعتبر جمعاً ل-(برّ) و(بارّ) من اللّفظين استظهاراً جازماً(2).
ص: 87
إنَّ قول الرّاغب في ذلك متناقض صدراً وذيلاً فبينا صرّح في صدر كلامه بكون اللّفظين جمعاً ل-(بارّ) إذا به فرّق بينهما في ذيله فجعل (البررة) جمعاً ل-(برّ). إلّا أنْ يكون هناك نقصٌ في النّسخة المطبوعة، والصواب: (وجمع البارّ والبَرّ: أبرار وبررة)، أو تكون هذه الجملة برمتها زيادةً لكونها تكراراً لما ذكر بعدها في مقام بيان النّكتة البلاغية، أو يكون هناك تحريف على وجه آخر كما لا يخلو المطبوع من الكتاب عن بعض التّحريفات الغريبة(1).
إنَّ الوجدان اللّغوي لا يشهد بوجود فارق معنويّ بين الجمعين على وفق ما ادُّعي في المفردين من كون (برّ) أبلغ من (بارّ)، مع أنَّ الفرق المعنوي بين المفردين ينعكس على جمعهما لا محالة طبيعة.
لو قُدّر أنَّه ليس هناك أيّ فارق لفظيّ أو معنويّ أو حجّة أُخرى
ص: 88
على كون أحد اللّفظين جمعاً لإحدى الكلمتين بخصوصها تساوت الاحتمالات الموجودة في ذلك وهي خمسة:
1. أنْ يكون (أبرار) جمع (برّ) و(بررة) جمع (بارّ) كما اخترناه.
2. أنْ يكون الأمر بالعكس كما اختاره الرّاغب.
3. أنْ يكونا جميعاً جمعاً ل-(بارّ) كما ذكره السّائل.
4. أو ل-(برّ) فيكونوا قد استغنوا بجمع إحدى الكلمتين عن جمع الأُخرى، كما رُبّما يقع الاستغناء في اللّغة ببناء هيئة من كلمة ببنائها من أُخرى.
5. أو يكونا جمعاً للفظين معاً كما قد تُجمع الكلمة الواحدة بلغاتها المتعددة على وزن واحد كاسمٍ - بلغاته الخمس - على (أسماء)، ولا يمتنع أنْ يُجمع لفظين على هيئة واحدة.
بل قد يكون هذا الاحتمال الأخير هو المتعيّن بعد فرض فقدان أيّة مزيّة معنويّة أو لفظيّة تُعيِّن أحد الجمعين لإحدى الكلمتين. نعم، لا يبعد أنَّ الواضع لأحد الجمعين أو كليهما قد لاحظ (برّ) أو (بارّ) بخصوصه، إلّا أنَّ مجرّد لحاظ الواضع لا تأثير له في تعيين ذلك ما لم ينعكس ذلك على المدلول الوضعيّ للكلمة، كما هو ظاهر.
والحاصل: أنَّا لم نجد أيُّ وجه لما ذهب إليه الرّاغب في ما ذكره في جمع الكلمتين.
والذي نظنّه أنَّه تأثّر في ذلك بما رآه من تشابه لفظة (بارّ) و(أبرار) في احتوائهما على الألف، وتماثل لفظة (برّ) و(بررة) في خلّوهما عنها مع قربهما من جمع المضاعف في مثل (حجّة وحجج) و(صرّة وصرر).
وإذا صدق هذا الظّنّ - من ناحية عدم وجود أيّة قاعدة صرفيّة أو جهة معنويّة تقتضي ما ذكره - فإنَّه قد أخطأ في ذلك:
أوَّلاً: بعدم تفطّنه؛ لأنَّ ألف (أبرار) إنَّما هو ألف جمع لا ألف مفرد، ويختلف عنه
ص: 89
بأنَّه بعد الرّاء (عين الفعل) وألف المفرد بعد الباء (فاء الفعل)، فلو جمع (فاعل) على (أفعال) كما في (شاهد) و(أشهاد) - على رأي - وجب الالتزام بحذف ألفه.
وثانياً: بأنَّ سُنّة لغة العرب لم تجرِ على جعل الجمع أقرب إلى المفرد مهما أمكن، بل أنَّها جرت في مثل هذه الجموع المكسّرة على بُعد الجمع عن المفرد، فترى أنَّ (أفعالاً) جمعٌ مطّردٌ في الثّلاثي (الخالي عن الألف) عادةً. مثل (فُعّل) و(فعلة) جمع ل-(فاعل) المقتضي لحذف ألفه.
وأيّاً كان: فعلى ما ذكر ينهدم أساس النّكتة المذكورة، بل تنقلب إلى نكتة سلبية مؤكِّدة للتساؤل السّابق، فإنَّه إذا كان التّعبير ب-(البرّ) عن الملائكة أنسب فلماذا عبّر عنهم بلفظة (بررة) الّتي هي جمع (بارّ) - على ما ظهر - واستعمل في التّعبير عن النّاس لفظة (الأبرار) الذي هو جمع (برّ) مع أنَّ مقتضى التّناسب هو العكس!
وأمَّا الدّعامّة الرّابعة - وهي أنَّ مقتضى البلاغة التّعبير عن النّاس الأحياء بلفظ (الأبرار)، وعن الملائكة بلفظ (البررة) الّتي هي أبلغ من الأبرار؛ نظراً إلى كون الملائكة أفضل من النّاس - فهو غير تامّ أيضاً.
فإنَّ الآيات الّتي تضمّنت كلمة (أبرار) على صنفين:
أ. ما كان بصدد توصيفه تعالى لمنزلة الأبرار وجزائهم، وهي آيات خمسة:
1. [لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ](1).
2. [إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا](2).
ص: 90
3. [إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ](1).
4.[كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ](2).
5. [إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ](3).
ب. ما ورد فيه استخدام هذه الكلمة في سياق طلب المؤمنين أنْ يجعلهم تعالى مع الأبرار وهو قوله تعالى: - (في ذكره دعاء أولي الألباب) -: [رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ](4).
والنّكتة المذكورة غير تامّة في شيء من الصّنفين لجهات مشتركة ومختصّة:
إنَّ هذه النّكتة لا تنسجم مع التّعبير ب-(البِرّ) - بالكسر - عن المؤمنين في بعض الآيات - كما تقدّم -؛ إذْ مقتضاها التّعبير عنهم فيها ب-(البارّ) بدلاً عن ذلك، كما لا ينسجم مع التّعبير ب-(البَرّ) - بالفتح - بالنسبة إلى الوالدين - في بعضها الآخر - وقد تقدّم أيضاً، إذْ البرّ بالأبوين خصلة من خصال الإيمان، فإذا ناسب التّعبير عن المؤمن بلحاظ هذا الجزء كان التّعبير به بلحاظ مجموع إحسانه وإيمانه أشدّ مناسبة وأوْلى فلا تكون تلك النّكتة مطّردة.
إنَّه على تقدير كون البرّ أبلغ كان تناسب التّعبير به في الصّنف الأوَّل محفوظاً؛ لأنَّ مضمونها إشادة بمقام الأبرار عند الله تعالى بنحو عامّ، فلو عبّر بالبرّ لدلّ ذلك على اعتبار مزيد الإحسان والتقوى في الكرامة عند الله تعالى ونيل ثوابه.
ص: 91
فتُخرَّج بذلك مخرَج سائر الآيات الّتي جعلت الكرامة لأبلغ مراتب التّقوى والصلاح الّتي يندر تحققّها في النّاس من قبيل قوله تعالى: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ](1)، وقوله:[قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ](2) وقوله: [وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ](3) إلى غير ذلك من الآيات.
يضاف إلى ذلك أنَّ قوله تعالى في سورة الإنسان: [إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا](4) وإنْ كان توصيفاً لمنزلة الأبرار بنحو عامّ إلّا أنَّه على ما ورد في شأن نزولها ناظر إلى أهل البيت (علیهم السلام)، حيث إنَّ علياً وفاطمة (علیهما السلام) كانا قد نذرا صيام أيام ثلاثة، فصاموها على الماء وقد أعطوا فطورهم فيها لمسكين ويتيم وأسير فوردت في شأنهم هذه السّورة(5). وأهل البيت على الرّأي المعروف للشيعة الإماميّة
ص: 92
أفضل من الملائكة - كما ذكر ذلك في علم الكلام -.
وعليه فكان بالإمكان استعمال كلمة (الأبرار) لمكان النّظر إليهم في المورد وإنْ كان لسان الآية لساناً عامّاً، كما رُبّما وقع مثله في مواضع أخرى من القرآن الكريم.
الجهة الرّابعة: على تقدير تماميّة تلك النّكتة في الآيات الخمسة الّتي كانت في مقام الإشادة بمقام الأبرار عند الله تعالى، إلّا أنَّه لا يتم في الآية السّادسة الّتي وردت فيها في سياق طلب المؤمنين أنْ يجعلهم الله تعالى مع الأبرار، وهو قوله: [رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ](1)، بل ربّما كان الأوْلى في هذا المقام أنْ يسأل الإنسان أنْ يحشره الله تعالى مع البررة.
فظهر عدم تماميّة التّعليل الّذي ذكره الرّاغب من جهات كثيرة تفوق خمس عشرة جهة، وفي ذلك عظة واعتبار للناظر في عدم التّسارع إلى الجزم بما يتراءى له بدواً من التّعليلات في حلّ مثل هذه الظّاهرة، ومذكّر له بمراعاة تقوى الله تعالى مخافة أنْ يكون ممّن افترى على الله كذباً وقد قال تعالى: [فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا](2).
لا شكّ في تفاوت الألفاظ بخصوصياتها الصّوتيّة في درجة تمثيلها للمعنى وتعبيرها عن بعض ملامحه، فيكون اللّفظ الشّديد أوفى تصويراً للمعنى الشّديد وأوْلى بالاختيار في مقام التّركيز على شدّته، وهكذا اللّفظ السّهل الرّقيق في التّعبير عن المعنى
ص: 93
السّهل، واللّفظ الثّقيل المتنافر الحروف في التّعبير عن المعنى القبيح لإيجاد النّفرة عن المعنى, ولعلّه لذلك اختير لفظ (ضيزى) في قوله تعالى: [أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى](1).
بل اعتبر علماء البلاغة تنافر حروف الكلمة حاجزاً دون فصاحتها. ولكنَّ الصّحيح أنَّه لا بُدَّ من قياس اللّفظ على المعنى, وإنَّما يمنع التّنافر من فصاحة الكلمة حيث يقع في لفظ يعبّر عن معنى لا تحدث الحاجة إلى تصويره قبيحاً مستهجناً كلفظ (البعاق) في التّعبير عن (السّحاب)، وأمَّا إذا كان في لفظ يمثّل معنى قبيحاً كان حسناً، وكذا إذا دلّ على معنى قد يتعلّق الغرض بتصوير كونه قبيحاً فإنَّه لا يمنع عن فصاحة الكلمة، لكنْ إذا استعمل في غير مورد تعلّق الغرض بتصوير قبحه فربّما يمنع عن بلاغة الكلام لعدم مطابقته لمقتضى الحال.
وأيّاً كان فقد تنبّه الباحثون المعاصرون إلى (الدّلالة الصّوتيّة)(2), إلّا أنَّ الأمثلة المذكورة لها لا تخلو غالباً من مناقشة: إمَّا من حيث الإفراط، أو التّفريط.
(فمنها): ما كانت دعوى (الدّلالة الصّوتيّة) مبنيّة على ضرب من الخيال والوهم، بمعنى أنَّ اللّفظ لم يكن هو الّذي يوحي بالمعنى، وإنَّما التّفكر والتعمّق في ذات المعنى وصورته وتجسيده في الذّهن هو الّذي أوجب الانتقال إلى تلك المعاني, وربّما كان الاستغراق في انتزاع تناسب بين اللّفظ والمعنى هو الّذي خيّل تحقّق هذا التّناسب واقعاً كما أنَّ مَنْ أصرّ على رؤية الهلال ربمّا تراءى له - كما يحدث ذلك خارجاً كثيراً - وهذه الحالة هي الّتي عبّرنا عنها بالإفراط.
ص: 94
ولعلَّ من أمثلة ذلك: ما ذكر عن الفاء العاطفة في كلّ من اختلط وأصبح في قوله تعالى: [وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ](1), فقيل إنَّ فيها ترتيباً وتعقيباً يصكّ السّمع في دلالة وقوع الأمر دون حائل وبلا فاصل تعبيراً عن الخسران النّهائي والحرمان المتواصل دفعة واحدة(2).
والواقع: أنَّه لا تزيد دلالة الفاء في الآية على معناها الوضعي اللّغوي من العطف والتّرتيب, وأروعيّتها بالنّسبة إلى (ثُمّ) إنَّما هي من جهة دلالة (ثُمّ) على الفصل بين الحدثين, وهو يقلّل من بلاغة الكلام وليس من جهة دلالة الفاء على التّعقيب.
(ومنها): ما كانت الدّلالة تستند إلى مادّة اللّفظ، أي طبيعة المعنى ولم تكن لمزيّة صوتيّة محضة, فلم يعرف استناد الدّلالة إلى عمق مفاد اللّفظ وهذه الحالة هي الّتي عبّرنا عنها ب-(التفريط).
ولعلّ من أمثلة ذلك: ما ذكر في ترجيح كلمة (أهون) على كلمة (أضعف) في قوله تعالى: [وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ](3), حيث قيل إنَّ كلمة (أوهن) تُشعر بالضّعف المتناهي لا بمجرّد الضّعف من ناحية طبيعة حروفها وخواصّها الصّوتيّة.
والواقع أنَّ الوهن ليس مرادفاً للضعف لغة وإنْ كانا متشابهين وإنَّما هو ضدّ الاستحكام فهو يتعلّق بانحلال أصل الشّيء وبنيته، والضعف إنَّما يعني الهبوط في مستواه وكيفيّته، ولذلك يوصف البناء والعظم ونحوهما بالوهن دون الضّعف فيقال (بناء
ص: 95
موهون) وقال تعالى: [قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي](1) وتوصيف بيت العنكبوت بالوهن من هذا الباب, فهو إنَّما كان أبلغ من الضّعف؛ لأنَّ انحلال أصل الشّيء أشدّ من مجرّد الضّعف فيه, وليس لإشعاره بالضّعف المتناهي وإلّا لكان الأنسب اختياره في كلّ مورد أُريد التّعبير عن الضّعف البالغ في القرآن الكريم وغيره، ولم يقع ذلك.
ولعلّ لما ذكرنا ذكر الوهن والضّعف معاً في قوله تعالى: [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا](2) فذكر عدم الوهن أوَّلاً ثُمَّ عطف عليه عدم الضّعف لكون الأوَّل أعمق من الثّاني.
ويلاحظ أنَّ سمة الدّلالة الصّوتيّة أنَّها دلالة ناقصة في مستوى الإشعار، وإنَّما ينتبه إليها الإنسان في حالة جذب المعنى بحسب الملابسات لها ويحتاج إلى نوع تفرّغ وتأمل في الكلام كي يحسّ به الإنسان بما تعنيه نبرات الألفاظ من معانٍ, كما لا بُدَّ فيه من ذوق رهيف وحسٍ أدبي عالٍ.
ومن أمثلته في غير هذه الظّاهرة: أفضلية (بُكيّاً) في جمع (باكٍ) من(بكاة) في قوله تعالى: [إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا](3) فإن (بُكيّ) من حيث تشديد الياء فيه أروع تصويراً فيما أرى لحالة البكاء من (بكاة).
ونظير ذلك: أفضليّة (جِثِّي) من (جُثِّي) في جمع (جاثٍ) في قوله تعالى: [فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا](4)، وقوله تعالى: [ثُمَّ نُنَجِّي
ص: 96
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا](1) فإنَّ كسر الجيم يجعل الكلمة أروع تصويراً لحالة
الجثو على الرّكبة من ضمّها.
ولعلّ من أمثلة ذلك الموارد التّالية:
أفضليّة (أُسارى) في جمع (أسير) من (أسرى) في قوله تعالى: [وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُم](2) فإنَّه من جهة ضمّ أوَّله وزيادة الألف في ثالثه أروع تصويراً لحالة الأسر من (أسرى)، وقد اقتضى السّياق تمثيل تلك الحالة لوقوع الكلمة حالاً. ولكن اختير(أسرى) في موضعين آخرين لم يقتضِ الكلام العناية بذلك - لاسيّما أنَّه أخصر من (أسارى) - وهما:
1. [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ](3).
2. [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى](4).
أفضليّة (أساور) من (أسورة) في جمع (سوار) في تمثيله للكثرة، كما يؤيّد ذلك عدّ النّحاة الأوَّل من جموع الكثرة الّتي قيل إنَّ أقلّها عشرة، والثّاني من جموع القلّة الّتي قيل إنَّ أقصاها عشرة كما سبق.
ولعلّه لذلك اختير (أسورة) في بيان ما طلبه المشركون من النّبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في قوله تعالى:
ص: 97
[فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ](1).
واختير (أساور) في مقام بيان حُليّ أهل الجنّة في جميع المواضع الأربعة الّتي تتعلّق بهم، وهي:
1. [يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا] (2).
2. [يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ] (3).
3. [يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ] (4).
4. [وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا] (5).
هذا، وكأنّ الرّاغب قد تراءت له نكتة أخرى في هذه التّفرقة فقال: (قال (أسورة من ذهب. أساور من فضّة) واستعمال الأسورة في الذّهب وتخصيصها بقوله (ألقى) واستعمال (أساور) في الفضّة وتخصيصه بقوله: (حلّوا) فائدة تختصّ بغير هذا الكتاب)(6).
ولكنّه وإنْ لم يذكر النّكتة الّتي تراءت له إلّا أنّه يظهر أنَّ أساسها اختصاص استعمال (أسورة) بالذهب و(أساور) بالفضّة, ولكن قد عرفت استعمال (أساور) في الذّهب في ثلاثة مواضع أخرى فكأنَّه لم يستوعب تلك الآيات. ومثل ذلك يتكرّر في
ص: 98
كلماته حيث يذكر نكتة أو تفسيراً يبتني على عدم استيعاب الآيات كما مرّ في تفرقته بين (عباد) و(عبيد) في جمع (عبد) في السّبب الثّاني.
أفضليّة (شهود) من (أشهاد) و(شهداء) في جمع (شاهد) في تمثيل دقّة الشّهادة واستيعابها لخصوصيّات المشهود لتناسب ذلك مع ما يحتوي عليه من ضمتين متتابعتين ومتبوعتين بالواو. ولعلّه لذلك استعمل دونهما في الإشارة إليه تعالى في قوله: [وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ](1). واستعمل في موضعين آخرين يأتي تحليلهما في الأسباب الآتية.
أفضليّة (أُلوف) من (آلاف) في جمع (ألف) تمثيل الكثرة - كما يؤيّده عدّ النّحاة الأوّل جمع كثرة، والثّاني جمع قلّة - وذلك من جهة تناسبه مع الكثرة بضمتين متتابعتين ومتبوعتين بالواو.
ولعلّه لذلك اختير (أُلوف) حيث لم يذكر تحديد للعدد في قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ](2) كما اختير (آلاف) حيث ذكر العدد في موضعين هما:
1. [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ](3).
2. [يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ](4).
ص: 99
أفضليّة (إخوان) من (إخوة) في جمع (أخ) في تمثيل الأُخوّة بما اشتمل عليه من فخامة بالألف والنون, ولذلك يستعمل (إخوان) غالباً في علاقة الصّداقة ونحوها ويستعمل (الإخوة) في تمثيل العلاقة النّسبيّة حتى قال أبو حاتم: (قال أَهلُ البَصْرة أَجمعون: الإِخْوة في النّسَب، والإِخْوان في الصداقة. تقول: قال رجل من إِخواني وأَصْدِقائي، فإِذا كان أَخاه في النّسَب قالوا إِخْوَتي)(1).
ولكنّه خطأ كما ذكر الأزهري, حيث قال: (يقال للأَصْدِقاء وغير الأَصْدِقاء إِخْوة وإِخْوان. قال الله عزّ وجلّ: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ](2)، ولم يعنِ النّسب، وقال: [أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ](3)، وهذا في النّسَب، وقال: [فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ](4))(5).
وفي لسان العرب: (وقولهم: إِخْوان العَزاء وإِخْوان العَمل وما أَشبه ذلك إِنَّما يريدون أَصحابه ومُلازِمِيه، وقد يجوز أَنْ يَعْنوا به أَنَّهم إِخْوانه أَي إِخْوَتُه الّذين وُلِدُوا معه، وإِنْ لم يُولَد العَزاء ولا العمَل ولا غير ذلك من الأَغْراض، غير أَنَّا لم نسمعهم يقولون إِخْوة العَزاء ولا إِخْوة العمَل ولا غيرهما، إِنَّما هو إِخْوان، ولو قالوه لجَاز، وكل ذلك على المثَل، قال لبيد: (إِنَّما يَنْجَحُ إِخْوان العَمَلْ) يعني مَنْ دَأَبَ وتحرَّك ولم يُقِمْ، قال الرّاعي: (على الشَّوْقِ إِخْوان العَزاء هَيُوجُ) أَي الّذين يَصْبِرُون فلا يَجْزَعون ولا يَخْشعون والذين هم أَشِقَّاء العمَل والعَزاء. وقالوا: الرُّمْح أَخوك وربّما خانَك. وأَكثرُ ما يستعمل
ص: 100
الإِخْوانُ في الأَصْدِقاء والإِخْوةُ في الوِلادة)(1).
ويؤكّد ما ذكرنا عدم استعمال جمع (أخ) على إخوة في القرآن لتمثيل علاقة معنويّة بل استعمل إخوان دائماً، قال تعالى: [إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ](2)، [وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ](3)، [فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا](4)، [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ](5)، [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ](6)، [لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ](7)، [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا](8)، [وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ](9)، [وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ](10)، [قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا](11)، [أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا](12).
ص: 101
نعم، ورد في مورد واحد استعمال الإخوة لنكتة معنوية وهو قوله تعالى: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ](1). وتلك النّكتة هي تنزيل علاقة الإيمان منزلة علاقة الإخوة النّسبية؛ لأنّ (إخوة) إنّما يتعارف استعماله في النّسب - كما مرّ عن اللّسان - فهو دالّ على ذلك طبعاً.
نعم، استعمل (إخوان) في مقام بيان العلاقة النّسبيّة في عدة آيات مراعاة لتوازنه مع المعطوف والمعطوف عليه ونحو ذلك ممّا يأتي في السّبب التّاسع، ولم يستعمل (إخوة) في القرآن إلّا لبيان العلاقة النّسبيّة، إلّا في آية الحجرات المتقدّمة على سبيل المبالغة في تمثيل عمق علاقة الإيمان.
هذا، ولكن لا يبعد القول بعموم إخوان لسائر العلائق الحميمة الّتي يصحّ تنزيلها منزلة علاقة الإخوة النّسبيّة لما مرّ في السّبب الأوّل. وعليه فيندرج هذا المثال في السّبب الرّابع من اختلاف معنى المفردين بالدّقة إذا التزمنا بأنّ ل-(إخوان) مفرداً بمعناه، وإنْ خصصنا (أخ) المفرد بعلاقة الإخوّة النّسبيّة كان مرجعه إلى كون إخوان أعمّ معنى من مفرده وهو ضرب من السّبب الأوّل غير الأمثلة المذكورة فيه، فإنّ تلك الأمثلة كانت من صيرورة أحد الجمعين أخصّ معنىً من مفرده، فلاحظ وتأملّ.
أفضلية (ضعاف) في الدّلالة على شدّة الضّعف من (ضعفاء) باعتبار الانسجام الصّوتي مع كسرة الضّاد, ولعلّه لذلك اختير في قوله تعالى: [وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ](2) حيث كان الموضوع يقتضي التّركيز على حالة الضّعف بخلاف المواضع الثّلاثة الّتي استعملت.
ص: 102
حقيقة ما يدعى من الدّلالة الاجتماعية والإيحائية.
ذكر بعض المُحْدَثين(1) ضربين آخرين من الدّلالة للألفاظ..
الضرب الأوَّل: الدّلالة الاجتماعية. وفسّرت بالدّلالة الّتي تستقل بها الكلمة عمّا سواها بما توحيه من فهم معيّن خاصّ بها.
الضرب الآخر: الدّلالة الإيحائية. وفسّرت بالدّلالة الّتي يوحي بها اللّفظ بالأصداء والمؤثّرات في النّفس فيكون له وقع خاصّ يسيطر على النّفس, لا يوحيه لفظ يوازيه لغة, فهو مجال الانفعالات النّفسيّة والتّأثّر الدّاخلي للإنسان.
ولكن لا تتضمّن هذه الكلمات ونحوها ممّا قيل في بيانهما ذكراً لمنبع هاتين الدّلالتين، فإنْ كان هو اللّفظ أو الصّوت رجعتا إلى الدّلالة الوضعيّة أو الصّوتية, وإلّا فما هو؟ والأمثلة المذكورة لهما على أقسام: بين ما لا دلالة مضافة للّفظ فيه أصلاً, أو الدّلالة صوتية، أو وضعيّة، أو هناك نكتة معنويّة اقتضتها.
ونحن نذكر بعض أمثلة هاتين الدّلالتين ليتّضح للباحث حال أصل الدّلالة وحال الباقي.
فمن أمثلة الدّلالة الاجتماعية..
1. اختيار كلمة (ظمآن) في قوله تعالى: [وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ](2) فإنّها ذات دلالة خاصّة لا تفي بها كلمة (الرائي) في ذلك. قال أبو هلال العسكري: (فلو قال
ص: 103
يحسبه الرّائي ماءً لم يقع موقع قوله (الظمآن)؛ لأنّ الظّمآن أشدّ فاقة إليه وأعظم حرصاً عليه).
أقول: إنّ في تخصيص (الظمآن) بالذّكر - وهو بمعنى الّذي عطش عطشاً شديداً - والعدول عن التّعبير ب-(العطشان) و(الرائي) نكتتين معنويتين:
الأُولى: إنَّ السّراب إنَّما يحسبه ماء مَنْ اشتدّ به العطش، فكان حرصه على الماء حاجزاً عن الحدس بواقع كونه سراباً؛ لأنَّ الإنسان إذا حرص على شيء ربّما تراءى له وصدّق بوجوده، كمن بالغ في طلب الهلال في ناحية من السّماء فإنّه يراه ويصدّق بوجوده ولو كان في غير مكانه كما يتّفق ذلك خارجاً.
الأخرى: إنّه ربّما كان الغرض من الآية - مضافاً إلى تشبيه أعمال الكفّار بالسّراب - تشبيه حالة نفس الكفّار يوم القيامة بالظمآن حيث يعلّقون أملاً كبيراً على أعمالهم الّتي يظنّونها حسنة كالصّدقات الّتي منع جحودهم وكفرهم من قبولها فإذا حضر الحساب لم يجدوها شيئاً ووجدوا الله عنده.. فلو جيء بلفظ (الرّائي) لم تتضمّن الآية هذا التّشبيه، كما أنَّه لو جيء بلفظ (العطشان) لم يكن له بلاغة لفظة (الظمآن) الّتي بدلالتها على شدّة العطش تشير إلى عظيم الفقر والحاجة. والكلام السّابق عن أبي هلال لا يتضمّن ذكر النّكتة الّتي اقتضت تمثيل شدّة الفاقة وعظيم الفقر.
2. استعمال كلمة (امرأة) بدل (زوج) بالنسبة لامرأتي نوح ولوط وهما زوجتان لهما, وبالنسبة لامرأة فرعون وهي زوجته دون ريب في كلٍّ من قوله تعالى: [اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ](1) وقوله: [اِمْرَأتَ فِرْعَوْنَ](2) فهذا الاستعمال الدّقيق ذو دلالة اجتماعية
ص: 104
رائعة، وهي أنّ كلمة (زوج) تأتي حيث تكون الزّوجة هي مناط الموقف حكمة وآية، أو تشريعاً وحكماً [وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً](1) فاذا تعطّلت آيتها من السّكن والمودّة والرّحمة بخيانة أو تباين في العقيدة فامرأة لا زوج، فبالخيانة الدّينيّة الّتي أحدثتها امرأتا نوح ولوط قد انفصلت عرى الزّوجيّة وعاد كلّ زوج منهما امرأة فحسب، كما تعطّلت آية الزّوجيّة في امرأة فرعون بكفره وإيمانها فعادا حقيقتين مختلفتين لا تربطهما رابطة من سكن ولا صلة من مودّة فعادت زوجته امرأة.
(أقول): هذا التّعليل خاطئ جدّاً من جهات..
الجهة الأُولى: إنَّ في الآية ما يقتضي العناية بتفهيم معنى الزّوجيّة؛ لأنَّ الغرض منها بيان أنّ مصير المرأة الخائنة لا يتأثر بصلاح زوجها كما يظهر بملاحظة جميع الآية، قال تعالى: [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأتَ نُوحٍ وَاِمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﲎ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ](2).
ويؤكّد ذلك أنَّ في طيّ هذين التّمثيلين - كما قال الزّمخشري(3)- تعريضاً بزوجتي النّبي (صلی الله علیه و آله و سلم) المذكورتين في أوّل السّورة (عائشة وحفصة) وما فرط منهما من التّظاهر على
ص: 105
رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بما كرهه وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه.. وأنْ لا تتكّلا على أنّهما زوجا رسول الله, فإنَّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلّا مع كونهما مخلصتين, قال: (وأسرار التّنزيل ورموزه في كلّ باب بالغة من اللّطف والخفاء حدّاً يدقّ عن تفطّن العالم ويزلّ عن تبصره).
الجهة الثّانية: إنّ علاقة الزّوجيّة مفادة في الآية الأولى بقوله: [كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا] وفي الآية الثّانية بعطفها على الأولى فاستغنى فيها عن أنْ يقال (..كانت تحت كافر مستكبر..)، بل الظّاهر أنَّ نفس إضافة (امرأة) إلى رجل تستبطن علاقة الزّوجيّة بينهما وتدلّ عليها، كما أنَّ إضافة الرّجل إلى المرأة كذلك, وهذه العلاقة لا تنشأ عن مجرّد الإضافة، إذ يكفي في الإضافة أدنى ملابسة فيصحّ إطلاق (امرأة الرّجل) على غير زوجته ممّن له بها علاقة كأُخته وأُمّه، ولكن الدّلالة على الزّوجيّة هنا معنى تستبطنه الكلمة ذاتها لا لمجردّ الإضافة.
الجهة الثّالثة: إنَّا لم نجد ملاحظة هذه النّكتة في الاستعمالات القرآنية: فعبّر ب-(زوج) مع فرض خيانة ونحوها كما في قوله تعالى: [إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ](1), ورُبّما يعدّ من ذلك قوله: [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ](2), وقوله: [وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ](3), بناءً على كون (من) بيانيّة.
الجهة الرّابعة: إنّه قد جاء التّعبير ب-(امرأة) في مواضع لا تقتضي تلك النّكتة اعتبار
ص: 106
الزّوجيّة كأنْ لم تكن، كما في امرأة أبي لهب [وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ](1) وامرأة زكريا [وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ](2) ونحوها [وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيّاً](3)، وامرأة العزيز [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ](4), ونحوها قوله تعالى: [وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ](5)، وقوله تعالى: [وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِّصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ](6)، وأيضاً قوله تعالى: [وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً](7) إلى غير ذلك.
والحقّ: أنّ سرّ اختيار التّعبير ب-(امرأة) على (زوجة) أجمليتها منها لفظاً على ما يدرك بالذوق الأدبيّ، وسيأتي بيان الجمال اللّفظي في السّبب السّادس.
ومن أمثلة الدّلالة الإيحائيّة - فيما قيل -:
ص: 107
1. (كلمة (أشدّاء) في قوله تعالى: [أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ](1) فإنّها تحمل إلى الذّهن كلّ معاني الغلظة والثّبات والمجاهدة، وتوحي بأبعاد الصبر واليقظة والحذر، لا الشّدّة في مقابل الضّعف فحسب، بل تذهب إلى أكثر من هذا فتشير إيحائياً لتحرّك النّفوس وتهزّ الضّمائر إلى التّفاني في ذات الله وإلى التّشدّد في أحكام الله وإلى التّنفيذ لأوامر الله، فلا لومة لائم ولا غضب عاتب).
والحقّ أنّه لا دلالة لكلمة (أشدّاء) إلّا على معنى الغلظة والشّدّة. وباقي المعاني إنّما استفيد بالإغراق في التّأمّل في المعنى وشؤونه ولا تعلّق لذلك باللّفظ.
2. كلمة (القانتين) في قوله تعالى عن مريم: [وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ](2) قيل: أفاد منها الزّركشي دلالة ايحائيّة برفع مستوى مريم فيها إلى مصافّ الرّجال ممّن وصفوا بالجدّ والصبر والمثابرة على أسمى مراتب العبادة (إيذاناً بأنّ وضعها في العباد جدّاً واجتهاداً وعلماً وتبصّراً ورفعة من الله لدرجاتها في أوصاف الرّجال القانتين وطريقهم)(3).
والحقّ أنّ هذه الدّلالة موهومة، فإنّ صيغة الجمع المذكر تطلق على المذكر والمؤنث مختلطين كما تطلق على المذكر خاصة. ولا يبعد أنْ تكون كلمة (المؤمنين) ونحوها في القرآن الكريم شاملةً لهما ما لم يذكر معها الجمع المؤنث ك-(المؤمنات)، واختيار هذه الصيغة في هذه الآية مراعاة للسجع لا غير.
وعلى تقدير صحّة تلك النّكتة فمرجعها إلى التّشبيه والتّنزيل، فهل موارد التّشبيه جميعاً مندرجة في الدّلالة الإيحائيّة؟!
ص: 108
وإنّما ذكرنا هاتين الدّلالتين هنا لكي يكون الباحث على بصيرة من ذلك عسى أنْ يجد لهما تفسيراً ومعنى ويتمكّن من تفسير جانب من هذه الظّاهرة لهما كما احتملنا تفسير جانب منها بالدّلالة الصّوتيّة.
لا شكّ عند مَنْ ملك الذّوق الأدبي في أنّ بعض الألفاظ أجمل من بعض في حدّ ذاتها وإنْ تساوت مداليلها الوضعيّة والصّوتيّة, ولكن هذه النّقطة من أدق النّقاط الّتي لا ينتبه لها إلّا بالحسّ المرهف والذّوق العالي, ولعلّ من هذه الجهة لم نجد من نبّه عليها من علماء البلاغة واللّغة من قدامى ومُحدَثين.
نعم، تعرّض علماء البلاغة لكون الألفاظ مختلفة بحسب حروفها من حيث الفصاحة وعدمها، ولكن هذا الاختلاف راجع إلى تفاوتها في أصل الحسن والقبح، وهذا غير تفاوت الألفاظ الفصيحة الحسنة في درجة الجمال الذّاتي فهما مستويان مختلفان.
والظّاهر أنّه لا سبيل إلى إعطاء ضابط معيّن لجمال الكلمة من حيث حروفها وحركاتها؛ لأنّه وليد مدى تناسب وانسجام الأصوات المجتمعة وكيفياتها من المدّ والسّكون والحركة مقاسةً بالمعنى، وهذا التّناسب في كلّ كلمة أو كلام وليد حالة جزئيّة خاصّة لا جامع بينها وبين غيرها.
كما قد استقرّ رأي المحقّقين من علماء البلاغة على عدم ضابط لفصاحة الكلمة وعدمها وإنْ كان قد تناول بعضهم إعطاء ضابط لها, فعن ابن الأثير من كلام له حول تنافر الحروف الّذي عدّ من الأمور المخلّة بفصاحة الكلمة - مشيراً إلى بعض تلك المحاولات وتفنيدها -: (ليس التّنافر بسبب بُعد المخارج وأنَّ الانتقال من أحدهما إلى
ص: 109
الآخر كالطفرة، ولا بسبب قربها وأنَّ الانتقال من أحدهما إلى الآخر كالمشي في القيد لما نجد غير متنافر من قريب المخرج كالجيش والشجيّ, وفي التّنزيل [أَلَمْ أَعْهَدْ]، ومن البعيدة ما هو بخلافه ك- (ملع) [أي أسرع في السّير] بخلاف (علم). وليس ذلك بسبب أنّ الإخراج عن الحلق إلى الشّفة أيسر من إدخاله من الشّفة إلى الحلق لما نجد من حُسن (غلب, وبلغ) و(حلم, وملح)، بل هذا أمر ذوقيّ، فكلّ ما عدّه الذّوق الصّحيح ثقيلاً متعسّر النّطق فهو متنافر سواء كان من قُرب المخارج أو بُعدها أو غير ذلك) (1).
وإذا كان الأمر كذلك في الفصاحة فهو بعينه الحال في الجمال اللّفظي؛ لأنَّهما مستويان من حقيقة واحدة وإنْ كان مستوى الجمال أدقّ وأعلى(2).
فالمناط في تشخيص كل منهما الذّوق الأدبيّ العالي, وقد تقدّم في المقدّمة أنَّ ضرباً من المزايا اللّفظيّة ممّا يدرك ولا يوصف.
إلّا أنَّ علماء البلاغة جعلوا الذّوق على مرتبتين: سليم يدرك تنافر حروف الكلمة ويحسّ بأوصافها ثقلاً وخفّةً، وسقيم لا يحسّ بذلك.
ولكن الصّحيح أنّ الذّوق الأدبيّ ذو مراتب متعدّدة تختلف في السّلامة والصّفاء, وقلَّ مَنْ يخلو عن مرتبة منها كما يقلّ من أبناء اللّغة العربيّة في العصور المتأخّرة.
ولا يبعد أنْ تندرج جملة من أمثلة هذه الظّاهرة تحت تلك الحالة: فيرجح أحد الجمعين على الآخر لأجمليته منه لفظاً، إلّا فيما اقتضت مزيّة أوْلى بالمراعاة كالسّجع
ص: 110
والموازنة انتخاب ذاك الآخر, لأنّ السّجع ونحوه ممّا يرجع إلى جمال الكلام ككلّ وهو أوْلى بالمراعاة من جمال كلمة في حدّ ذاتها. فمن ذلك:
1) أجمليّة كلمة (سجّد) في جمع (ساجد) من السّجود من جهة تكرّر الجيم فيه، والجيم حرف جميل في حدّ ذاته.
ولعلّه لذلك اختير (سُجّد) في جمعه كلّما وقع في أثناء الآية وهو أحد عشر موضعاً(1)، وإنّما اختير (سجود) في آيتين مراعاة لآخر الآية، وهما:
1. [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ](2).
2. [وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ](3).
ص: 111
ووجه أولويّة السّجود بآخر الآية..
أوَّلاً: يحقّق انحداراً طبيعيّاً لما قبلها إلى آخرها كأنَّه تنزّل من الأعلى إلى الأدنى، فتأمّل جيداً في الآيتين تجد روعة ذكر الجمعين المتضمّنين للألف أوَّلاً ثم ذكر (الرّكّع) ثُمَّ (السّجود). ولو جيء ب-(السّجّد) المماثل ل-(الرّكّع) في الوزن لم يتحقّق هذا الانحدار.
وثانياً: أنَّه يوجب تقارب آخر الآيتين مع آخر باقي الآيات في الوزن فأواخر ما بعد الآية الأولى: (المصير, الرّحيم, الحكيم, الصّالحين)، وأواخر طرفي الآية الثّانية من أوّل السّورة (عظيم, شديد, مريد, السّعير, بهيج, قدير, القبور, منير, الحريق, العبيد, المبين, البعيد, العشير, يريد, يغيظ, يريد, شهيد, (يشاء), الحميم, الجلود, حديد, الحريق, حرير, الحميد, أليم, السّجود, عميق, الفقير, العتيق ..) وهكذا إلى آخر السّورة.
بل في رأيي أنَّ كلمة (سجّد) أجمل من (ساجدين) الّذي هو جمع سالم كما لم يرد اختياره إلّا في أواخر الآيات مراعاة لها في تسعة مواضع(1)، وفي موضع آخر رعاية لما عطف عليه من الطّرفين(2).
2) أجمليّة (عباد) في جمع (عبد) من (عبيد) - في حالة تساويهما في المعنى - ولذلك اختير في 116مورداً أُريد بمعظمها ما يساوق العبيد وببعضها ما يتضمّن معنى العبادة كما مرّ في السّبب الثّاني, ولم يرد اختيار العبيد إلّا في خمسة مواضع في أواخر الآيات من
ص: 112
قبيل قوله تعالى: [وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ](1)، [ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ](2)، [ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ](3)، وقريب منها [مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ](4)، [مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ](5).
وقد مرّ في السّبب الثّاني ذكر أنَّ الرّاغب علّل اختيار العبيد بكونه أعمّ من العباد لتضمّنها معنى العبادة، لكنْ ذكرنا أنَّ ل-(عباد) إطلاقين أحدهما - وهو الغالب - لا يتضمّن هذا المعنى.
3) أجمليّة (فجّار) في جمع (فاجر) من (فجرة). ولعلّه لذلك اختير في أثناء الآيات وأواخرها في مواضع ثلاثة:
1. [أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ](6).
2. [إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ](7).
3. [كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ](8).
ص: 113
واختير (فجرة) في موضع واحد مراعاة لآخِر الآية حيث قال تعالى: [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ](1) فكلمة (الفجرة) في الآية الأخيرة تحقّق لها مع الآيات الأربعة سجعاً لطيفاً, كما تحقّق لها مع ما قبلها من الآيات قرباً وتشابهاً, ولو جيء بدلها بكلمة (الفجّار) لم يكن لها وَقع.
4) أجمليّة (كفّار) في جمع (كافر) من (كفرة)، ولذلك اختير في عشرين موضعاً(2) وقع فيها في أثناء الكلام من غير تناسب مُلزِم، ولم يقع (كفرة) إلّا في موضعٍ واحدٍ وهو قوله تعالى: [أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ](3) رعاية لتماثلها في الوزن مع الوصف الثّاني لموصوفه وهو لفظ (الفجرة)، فلو قيل بدله (الكفّار الفجرة) لم يكن مناسباً.
5) ولعلّ من ذلك كلمة (أنفُس) في جمع نفس بالنسبة إلى (نفوس) بناءً على تماثلها في المعنى، فإنّه لا يبعد أجمليتها منه، ولذلك اختيرت عليه في 153مورداً(4) ولم يرد استعمال (نفوس) إلّا في موردين:
1. [وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ](5).
2. [رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ](6).
ص: 114
ولعلّ هناك مزيّة أوْلى بالمراعاة في الموردين اقتضت ترجيح كلمة (نفوس) - من المزايا الآتية في الأسباب اللّاحقة - وإلّا يبعد اختيار (أنفس) عليه في ذاك العدد الكثير مع مختلف الملابسات من غير مزيّة؛ لأنَّه نوع من الالتزام بالكلمة فلاحظ. هذا فيما يتعلّق بأمثلة هذه الظّاهرة.
6) ويُلحق بها كلمة (أبرار) جمع (بِرّ) بالنسبة إلى كلمة (بررة) جمع بارّ - وهو مثال ذكره السّائل - فإنّهما وإنْ كانا متقاربين لفظاً، لكنّ الأُولى أجمل من الأخرى؛ ولذلك اختيرت عليها في أثناء الكلام وأواخره في مواضع شتى من القرآن الكريم ولم تُختر صيغة (بررة) إلّا في آية واحدة مراعاةً للسجع كما مرّ تفصيل ذلك في السّبب الرّابع، كما مرّ هناك أنَّ الرّاغب علّل التّفرقة بين الجمعين بما يرجع إلى تأثير اختلاف معنى مفرديهما في ذلك، وتعرّضنا لنقده تفصيلاً.
7) وقد يُلحق بها كلمة (شهداء) جمع (شهيد) بالنسبة إلى صيغتي شهود وأشهاد حيث اختيرت عليهما في عشرين مورداً(1) مع مختلف الملابسات واختير (شهود) في مواضع ثلاثة وَقعَ في اثنين(2) منها في آخر الآية لحفظ تناسبها مع ما اقترن بها من الآيات، ووقع الثّالث في قوله تعالى: [وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ
ص: 115
تُفِيضُونَ فِيهِ](1), وقد سبق في السّبب الخامس احتمال استناد اختياره فيها إلى أروعيّة تصويره لدقّة الشّهادة في المورد, واختير (أشهاد) في موضعين وقع في أحدهما في آخر الآية(2)، ورُبّما كان اختياره في الموضع الآخر(3) لنكتة ما أوْلى بالمراعاة من قبيل ما يأتي في السّبب السّابع.
ولكن في ذلك نظر وتأمّل؛ لاحتمال استناد اختياره في تلك المواضع إلى السّبب العاشر الآتي.
لا شكّ في أنَّ تقارب آخر الجملتين زينة للكلام يزداد به رونقاً وجمالاً، وقد تنبّه إلى أصل هذا المعنى علماء البلاغة حيث عَدّوا من جملة المحسِّنات اللّفظيّة في علم البديع السّجع والموازنة:
1. فالسّجع - فيما قالوا - توافق الفاصلتين من النّثر في الحرف الأخير. والصحيح أنَّه يعتبر فيه أو في حسنه نحو تماثل بينهما - في الحرفين أو الحروف الثّلاثة الأخيرة - في الوزن على النّحو التّالي:
أ. فإنْ كان ما قبل الحرف الأخير حرف علة(4): فإنْ كان ألفاً وجب تماثلهما في
ص: 116
ذلك فلا يحسُن (فِعال) مع (فعول) أو (فعيل). وإنْ كان واواً أو ياءً كان تماثلها أوْلى ك-(بعيد) و(شهيد) و(شهود) و(سجود)، وإنْ جاز أنْ يكون أحدهما واواً والآخر ياءً ك-(شهيد) و(شهود)؛ وذلك لتقارب الواو والياء وبُعدهما عن الألف.
ب. وإنْ كان ما قبل الحرف الأخير غير حروف العلة: فإنْ كان أحدهما ساكناً وجب أنْ يكون الآخر كذلك، فلا يحسُن (فَعْل) مع (فعل) بالحركات الثّلاثة في عينها ك-(عدل) مع (بطل) و(مُقُل).
وإنْ كان متحركاً كان التّماثل في نوع الحركة أوْلى، ولكن يجوز الاختلاف فيها، ومع الاختلاف يكون الاختلاف بالفتح والكسر أو بالفتح والضمّ أوْلى من الاختلاف بالكسر والضمّ؛ لأنَّ الفتحة أقرب إلى الضّمّة والكسرة من إحداهما إلى الأخرى.
ج. وإنْ كان ما قبل الحرف الأخير في أحدهما حرف علّة لم يجز أنْ يكون في الآخر حرفاً صحيحاً فلا يحسُن (بالَ) أو (فول) أو (فيل) مع (عدل).
د. وإنْ كان هناك حرف علّة قبل حرفين من الأخير في إحدى الفاصلتين لم يحسن أنْ يكون في الآخر حرف صحيح ك-(عادل) و(بطل)، بل إنْ كان ألفاً وجب كون الآخر كذلك ك-(عادل) و(فاضل). وإنْ كان واواً أو ياءً كان التّماثل أوْلى وإنْ جاز الاختلاف.
ثُمّ تقارب الكلمتين في السّجع يكون على مستويين:
الأوَّل: أنْ تكونا مختلفتين في الوزن نظير قوله تعالى: [أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا](1) ويسمى ذلك بالسّجع المطرّف.
والآخر: أنْ تكون متفقتين في الوزن تماماً نظير قوله تعالى: [فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ *
ص: 117
وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ](1) ويسمى ذلك ب-(السّجع المتوازي).
وأضاف علماء البلاغة قسماً ثالثاً لاحظوا فيه توافق مجموع كلمات الجملتين وسموه ب-(السّجع المرصّع) نظير قول القائل: (هو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه)(2). ولكن توافق سائر كلمات الجملتين - غير الكلمة الأخيرة - في الحقيقة مزيّة مستقلة لا تعلّق لها بالسّجع؛ فإنَّه من أوصاف أواخر الجمل، ولا تأثير لتماثل صدر الجملتين في زيادة جمال أواخرهما كما هو ظاهر.
وهناك نكتةٌ أُخرى في الموضوع هي: أنَّه قد يفرض اختلاف وزن الكلمتين في السّجع المطرّف إلّا أنَّ للاختلاف درجاتٍ ومراتب وكلما كان الاختلاف أقلّ والأوزان أقرب كان السّجع أكثر جمالاً، فليس الاختلاف الجزئي في الوزن مانعاً عن حسن الكلام بمزيد القُرب.
كما أنّه متى ما كانت حروف الكلمتين متساوية كان السّجع أكثر جمالاً من حالة اختلافهما بالزيادة والنقصان.
وهذا كلّه ممّا يشهد به الذّوق الأدبيّ.
2. وأمَّا الموازنة فهي فيما قالوا: تساوي الفاصلتين في الوزن دون التّقفية نحو [وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ﲫ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ](3)، ورُبّما قسّموها إلى قسمين بلحاظ مدى تماثل أو تقارب مجموع كلمات الجملتين كما في قوله تعالى: [وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ﳈ
ص: 118
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ](1). ولكن هذا خلط بين مزيّتين؛ لأنَّ تماثل باقي أجزاء الجملتين مزيّة أُخرى كما مضى مثل ذلك في السّجع.
فهاتان مزيّتان تتعلقان بآخر الجمل المتعاطفة قد ذكرها علماء البلاغة.
3. ويُضاف إلى ذلك: تقارب الفاصلتين في الوزن، فإنّه مزيّة بلاغيّة وإنْ لم تتساويا فيه على ما اعتبروه في الموازنة.
وهذه الحالة كثيرة التّحقّق في القرآن الكريم، ففي سورة الحجّ مثلاً جاء في آخر الآيات (7-23) هكذا (القبور, منير, الحريق, العبيد, المبين, البعيد, العشير, يريد, يغيظ, يريد, شهيد, يشاء, الحميم, الجلود, حديد, الحريق)، ومن المعلوم وجود نحو انسجام بينها وإنْ اختلف (المبين) وزناً مع طرفيه وكذلك (يريد)، إلّا أنّهما أوْلى ممّا لو كان بديلهما (الجبار) أو (السجّد) أو نحو ذلك.
والواقع أنَّ هذا ضربٌ من الموازنة لم يتنبّهوا له، ولكنّها موازنة ناقصة.
وبذلك تكون الموازنة مطلق تقارب الفاصلتين في الوزن، ولكنّها على مرتبتين: تامّة، وناقصة. والناقصة منها على درجات ووجوه، لكنْ يعتبر فيها ما اعتبرناه في السّجع من التّقارب في الحرفين الأخيرين، أو الحروف الثّلاثة الأخيرة, بل هي أوْلى بذلك؛ لأنَّ حسنها يرتكز على الوزن فحسب دون الاشتراك في الحرف الأخير كما كان في السّجع.
وليس الغرض في المقام استكناه المزايا البلاغيّة ولكنْ بيان هذا المقدار ممّا اقتضاه الموضوع.
ص: 119
ولهذه الحالة موارد كثيرة في أمثلة هذه الظّاهرة اقتضى مراعاة السّجع أو الموازنة اختيار أحد الجمعين, ورُبّما كان هناك عامل أو عوامل أُخرى أيضاً موجبة لاختيار هذا الجمع, كما رُبّما كان مراعاة السّجع أو الموازنة تقديماً لهما على مزيّة أخرى.
ويمكن تقسيم تلك الأمثلة(1) إلى قسمين:
الجموع الّتي لم ترد إلّا في آخر الآية، وفي هذا القسم لم نستبعد أنْ يكون اختيار تلك الجموع مراعاةً للسّجع أو الموازنة؛ تقديماً لها على مزيّة أُخرى - كالجمال اللّفظيّ - وهي ثلاثة:
1. (سجود) في جمع (ساجد) ورد في موضعين (البقرة: 125، والحجّ: 26)(2)، واختير (سُجّد) في أحد عشر موضعاً آخر كما مَرّ تفصيل ذلك في السّبب السّادس.
2. (عبيد) في جمع (عبد) ورد في خمسة مواضع واختير (عباد) في (116) مورداً آخر كما مَرّ هناك, وتوقف السّجع والموازنة على صيغة (عبيد) ممّا يظهر بمراجعة تلك الآيات وطرفيها.
3. (فجرة) في جمع (فاجر) ورد في مورد واحد واختير عليه (فجّار) في ثلاثة
ص: 120
مواضع كما مَرّ تفصيل القول فيه هناك أيضاً.
ويلحق بها اختيار (بررة) على (أبرار) في موضع واحد، وقد اختير (أبرار) في ستة مواضع كما سبقت الإشارة إليه هناك، ومضى تفصيل القول فيه في أوّل السّبب الرّابع.
الجموع الّتي وردت في آخر الآية تارة، وفي أثنائها أخرى، والغالب فيها وجود مزيّة أُخرى مقتضية لترجيحها على بديلاتها, إلّا ما احتملناه في (أشهاد) و(شهود) - في آخر البحث عن السّبب السّادس - و هي كما يلي:
1. (الذّكور) في جمع (ذكر) ورد في موضعين:
أحدهما: [يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ](1).
والآخر: [وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا](2).
وهو في الموضع الأوّل يناسب جميع آيات تلك السّورة عدا ست آيات هي: الآية (25 و36 - 40)(3) وأواخرها من رقم (41) إلى آخر السّورة (سبيل, أليم, الأمور, سبيل, مقيم, سبيل, نكير, كفور, الذّكور, قدير, حكيم, مستقيم, الأمور) فهذه الكلمة تحقّق للآية سجعاً وموازنة بالنسبة إلى سائر تلك الآيات - على اختلاف مستوياتهما - .وأمّا في الموضع الآخر فرُبّما كان اختياره مستنداً إلى السّبب العاشر الآتي.
وقد اختير عليه كلمة ذكران في موضعين(4) في الأثناء، كما سيأتي ما يحتمل في وجهه في السّببين التّاسع والعاشر.
ص: 121
2. (شهود) في جمع (شاهد) ورد في مواضع ثلاثة اثنان منها في آخر الآية..
الأوّل: [وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ](1).
وأواخر آيات السّورة: (البروج, الموعود, مشهود, الأخدود, الوقود, قعود, (شهود), الحميد, شهيد, الحريق, الكبير, لشديد, يعيد, الودود, المجيد, يريد, الجنود, ثمود, تكذيب, محيط, مجيد, محفوظ).
الثّاني: [وَبَنِينَ شُهُوداً](2).
وأواخر بعض طرفيها من الآيات: (النّاقور, عسير, يسير, وحيداً, ممدوداً, شهوداً, تمهيداً, أَزِيد, عنيداً, صعوداً).
الثّالث: [وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ](3).
فاختيار (شهود) في الموضعين الأوَّلين ممّا يتوقّف عليه السّجع والموازنة وإنْ كان مشتركاً مع (أشهاد) في الحرف الأخير؛ لأنَّهما لا يتحقّقان إلَّا بين ما يكون قبل آخره ألفاً وبين ما كان قبل آخره واواً، أو ياءً كما تقدّم.
وأمَّا في الموضع الثّالث فقد سبق ما يحتمل في وجهه في السّبب الخامس.
3. وورد (أشهاد) في جمع (شاهد) في موردين:
الأوَّل: [وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ](4).
ص: 122
الآخر: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ](1). وأواخر بعض طرفيها من الآيات (النّار, الغفار, النّار, العباد, العذاب, العذاب, النّار, العباد, العذاب, ضلال, الأشهاد, الدّار, الكتاب, الألباب, الإبكار) فهو في الآية الثّانية يحقّق لها موازنة وسجعاً بالنسبة إلى طرفيها ولا تحقّق ذلك كلمة (شهود) لما تقدّم.
وأمَّا اختياره في الموضع الأوّل فرُبّما كان مستنداً إلى السّبب العاشر الآتي.
4. (أموات) في جمع (ميت) ورد في خمسة مواضع(2) وقع في أحدها في آخر الآية وهو قوله تعالى: [أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً](3) وطرفيها [أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً](4) و[وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً](5)، ولو اختير (موتى) لم يتحقّق السّجع في ذلك.
وأمَّا اختياره في سائر المواضع فرُبّما كان مستنداً إلى بعض الأسباب الآتية.
5. واختير (موتى) في (17) موضعاً كان في أحدها في آخر الآية, وهو قوله تعالى في آخر سورة القيامة: [أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى](6), وأواخر ما قبلها (صلّى, تولّى, يتمطّى, فأوْلى, فأوْلى, سدى, يمنى, فسوّى, الأنثى) فلو اختير (أموات) لم يتحقّق التّماثل بين أواخر الآيات.
ص: 123
وأمَّا اختياره في سائر المواضع فقد يستند إلى بعض الأسباب الآتية.
6. (عباد) في جمع (عبد) ورد في (116) موضعاً وقع في ثمانية مواضع في آخر الآية(1). وقد تقدَّم وجه اختياره على (عبيد) في السّبب الأوّل والسّادس.
7. (شداد) في جمع (شديد) فإنّه ورد في مواضع ثلاثة: وقع في أحدها(2) في آخر الآية وهو قوله تعالى: [وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً](3)، وهو قريب من سائر الكلمات الواقعة في أواخر آيات السّورة فمن طرفيها (مهاداً, أوتاداً, أزواجاً, سباتاً, لباساً, معاشاً, (شداداً) وهّاجاً, ثجّاجاً).
8. ويلحق بها (أبرار) في جمع (برّ) فإنَّه ورد في ستّة مواضع وقع في اثنين منها في آخر الآية، كما تقدّم في البحث عن السّبب الرّابع.
لا شك في أنّ تماثل وزن الجملتين المتعاطفتين أو تقارب وزنهما مزيّةٌ لفظيّةٌ في الكلام. وقد تنبّه لذلك علماء البلاغة إلّا أنّهم لم يذكروا ذلك كمزيّة مستقلّة وإنّما ذكروها في أقسام السّجع والموازنة.
1. ذكروا في أقسام الجمع أنّ منها السّجع المطرف، وهو ما تساوت جميع ألفاظ الجملتين فيه، وذكر ابن الأثير(4) أنّ السّجع ثلاثة أقسام:
ص: 124
الأوَّل: أنْ تكون الفاصلتان متساويتين كقوله تعالى: [فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ](1).
الثّاني: أنْ يكون الثّاني أطول من الأوّل، لا طولاً يخرجه عن الاعتدال كثيراً، وإلّا كان قبيحاً.
الثّالث: أنْ يكون الآخر أقصر من الأوّل وهو عندي عيب فاحش؛ لأنّ السّمع قد استوفى أمده في الأوّل بطوله فإذا جاء الثّاني قصيراً يبقى الإنسان عند سماعه كمن يريد الانتهاء إلى غاية فيعثر دونها.
2. وذكر بعضهم في أقسام الموازنة تماثل جميع ألفاظ الجملتين(2) أو تقاربها من حيث الوزن من غير اختصاص بالكلمة الأخيرة من قبيل قوله: [وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ](3).
وقد سبق أنّ هذه المزيّة مزيّة مستقلّة لا تعلّق لها بالسّجع والموازنة.
وأيّاً كان فقد يخرّج على هذا السّبب بعض موارد الأمثلة السّابقة, منها:
1. اختيار (النّفوس) على (الأنفس) في قوله تعالى: [إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ](4).
فإنّ (نفوس) هو المناسب مع (النجوم) و(الوحوش)، بل مع (البحار) و(الجبال)
ص: 125
لكون ما قبل الآخر في كلّ منهما حرف علّة وإنْ كان أحدهما واواً والآخر ألفاً، إلّا أنّ أحدهما إلى الآخر أقرب منهما إلى الحرف الصّحيح.
ويلاحظ: أنّه لا يمكن أنْ يعلّل بهذا السّبب ما أمكن فيه تغيير الجملة المعطوفة على وجه يتناسبان حتّى مع الجمع الآخر وزناً كما في قوله تعالى:[إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ](1)، فإنّه لا يصحّ تعليل اختيار (الأبرار) على (البررة) بوجود (الفجّار)، أو تعليل اختيار (الفجّار) على (الفجرة) بالّتناسب مع (الأبرار) لإمكان تغييرهما معاً فيقال: (إنَّ البررة لفي نعيم. وإنَّ الفجرة لفي جحيم).
وممّا قد يُفسّر بهذا السّبب اختيار كلمة (أبرار) على (بررة) في قوله: [إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ](2)؛ لأنّها تجعل صدر الآية الأولى كالثانية محتوياً على الألف.
ملاحظة: قد ذكر علماء البديع طائفةً من المزايا المعنويّة واللّفظيّة في الكلام إلّا أنّ جملة منها لا تخلو في أصلها عن ملاحظات كما يسمّى بالإرصاد والإدماج والجمع(3).
كما أنّ جملة أخرى منها وإنْ لم تخلُ عن نكتة إلّا أنّه ممّا لا يليق بالكلام القرآني من قبيل التّورية والتّوجيه(4). ولم نجد في باقيها ما يمكن أنْ يُفسّر به جانب من هذه الظّاهرة
- عدا السّجع والموازنة الّذين سبقا في السّبب السّابع - فلاحظ.
ص: 126
وهذه أيضاً مزيّة لفظيّة ظاهرة بالذّوق الأدبيّ, بل هي في داخل الجملة كالسّجع والموازنة في آخرها، وإنْ لم نطّلع على ذكر علماء البلاغة لها, وهي تكون على أنحاء..
أنْ يكون لتناسب الموصوف والوصف، والمقصود بهما ما يعمّ الوصف في المصطلح النّحوي فيعمّ الحال والخبر ونحو ذلك, ومن أمثلة ذلك في غير هذه الظّاهرة اختيار (الباقيات) على (البواقي) في جمع (باقية) في قوله تعالى: [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا](1)، [وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا](2)، ولم أطّلع على مثال لهذا النّحو في هذه الظّاهرة.
1، 2. اختيار (أشدّاء) دون (شداد) في جمع (شديد) لتناسبه مع (رحماء) في قوله تعالى: [مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ](3). وعكس ذلك لتناسب (شداد) مع غلاظ في [مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ](4).
3. اختيار(صُحُف) دون (أصحاف) في جمع صحيفة لتوصيفه بوصف لم تتوسّطه
ص: 127
الألف لِتناسب السّجع في عدة آيات كقوله تعالى: [بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً](1)، [رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُّطَهَّرَةً](2)، [إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى](3) وغير ذلك.
4. اختيار (أموات) على (موتى) في جمع (ميّت) لتناسبه مع الأحياء في قوله: [أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ](4).
ومن أمثلته في غير هذه الظّاهرة اختيار الجمع السّالم ل-(ساجد) و(راكع) على جموع التّكسير في قوله تعالى: [التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ](5).
1. اختيار (إخوان) لِتناسبه مع (آباء) و(أبناء) و(أزواج) و(أمّهات) وغيرها باعتبار احتوائها على الألف، على صيغة (إخوة) في عدة آيات..
(منها): [لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ](6)، [قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ](7)، [أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
ص: 128
إِخْوَانِكُمْ](1)، [فَإِنْ لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ](2)، [وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ](3)، [لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ](4).
2. اختيار (ذُكران) على (ذكور) في جمع (ذَكر) لمماثلته مع (إناث) في احتوائهما على ألف قبل الآخر في قوله تعالى: [أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً](5).
3. اختيار (صحاف) على (صُحُف) في جمع (صحيفة) لمماثلته مع (أكواب) في احتواء الألف في الوسط في قوله تعالى [يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ](6)، وقد مرّ القول فيهما في السّبب الخامس.
4. اختيار (عباد) على (عبيد) في جمع (عبد) لمماثلته مع (إماء) وزناً في قوله تعالى: [وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ](7).
5. اختيار (أموات) على (موتى) في جمع (ميّت) لمناسبته مع الأحياء في [وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ](8)، و[وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ
ص: 129
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ](1)، [وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ](2)، [أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً](3).
6. اختيار (أنفس) على (نفوس) لمناسبته مع (أموال) أو(أهلي) في ابتداء كل منها بالهمزة نحو: [ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ](4)، [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ](5)، [قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ](6).
1. اختيار (كفّار) على (كفرة) في جمع (كافر) في قوله: [وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ](7)، لتناسبه مع (الدّار) دون كفرة.
2. ونظير ذلك قوله تعالى: [أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ](8)، لتناسبه مع كلمة (رحماء).
3. وكذلك قوله: [أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ](9)، لتناسبه مع (أولئكم).
ومن أمثلته في غير هذه الظّاهرة اختيار لفظ (بريئون) في جمع (بريء) على جموع
ص: 130
تكسيره - وهي (بِراء وبُراء وأبراء وأبرياء) - في قوله تعالى: [فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ](1)؛ لأنّ لفظ الجمع السّالم أنسب مع (بريء) من جهة انحفاظ هيئة المفرد فيه بخلاف الجمع المكسّر.
هذا، ولا يصحّ تعليل هذه الظّاهرة بهذا السّبب فيما إذا اقترن الجمع المختار بما يناسبه وبما يناسب الجمع الآخر جميعاً من قبيل (إخوان) في قوله تعالى: [وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ](2)، إذ لو قيل (إخوتهم) مكانه لناسب (عشيرتهم) كما يناسب (إخوانهم) كلمتي (آبائهم وأبنائهم)، ولعلّ من ذلك اختيار كلمة (أنصاب) على (نُصُب) في قوله تعالى: [إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ](3)، فإنّ صيغة (أنصاب) وإنْ ناسبت (الأزلام) لكن (النُصُب) يناسب الخمر والميسر، إلّا أنْ يكون التّناسب المذكور أشدّ من جهة تماثل الأزلام والأنصاب في الوزن تماماً، واختلاف (النصب) مع (الخمر والميسر) اختلافاً تامّاً فلو جيء ب-(نُصُب) كان نمطاً آخر, أو يكون التّناسب بين الأزلام والأنصاب أولى بالمراعاة من جهة انفراد (الأزلام) بحسب وزنه في الجملة. وأمّا (الخمر والميسر) فهما اثنان، وهذا ليس ببعيد وإلّا رُبّما تعيّن اختيار (النُصُب) مراعاة لاختصاره اللّفظي.
وكذلك لا يصحّ تعليلها بذلك مع إمكان تغيير في الجملة بما يناسب الجمع الآخر كاختيار (سُجَّد) في قوله: [تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً](4)، فإنّه وإنْ كان مناسباً بتماثله مع
ص: 131
(ركّع) دون (سجود) إلّا أنّ بالإمكان تبديل (ركّع) نفسه إلى (ركوع) فإنّه وارد في اللّغة وإنْ لم يستعمل في القرآن الكريم فيتماثلان أيضاً.
لا تتحقّق الأجملية بحصول تماثل وتوازن بين كلمتين فيها - كما مرّ في السّبب التّاسع - وإنّما لحصول نحو آخر من الانسجام بينها. وهذا النّحو - في الجملة - يماثل الجمال اللّفظي في الكلمة - الّذي مضى في السّبب السّادس - فكما أنّ ذاك وليد اجتماع حروف خاصّة بكيفيات خاصّة مقاسة بالمعنى، فكذلك حال هذا النّحو في الكلام وليس الفرق بينهما إلّا في أنّ موطن هذا هو الجملة وموطن ذاك هو الكلمة المفردة.
ومن ذلك يظهر أنّ المعيار في تشخيصه هو الذّوق الأدبي الرّفيع - كما في الجمال اللّفظي للكلمة - ولا سبيل إلى استخراج ضابط له؛ لأنّه في كلّ مورد وليد حالة جزئيّة تختصّ به، فرُبّما كان الموضع في الجملة يتطلّب كلمة قصيرة وأخرى كلمة طويلة, كما قد تتطلّب كلمة تحتوي على ارتفاع بالألف أو نزول بالواو أو هبوط بالياء، وقد تتطلّب كلمة أُدغم أحد حرفيها في الآخر، أو كلمة لم يقع فيها ذلك(1) إلى غير ذلك ممّا يدرك بالذّوق الأدبيّ.
وهذه النّقطة أيضاً من أخفى النّواحي الفنية الّتي لم أجد من نبّه عليها من الباحثين من قدامى ومحدَثين رغم أنّها في رأيي من أهمّ العوامل الموجبة لاختيار بعض الكلمات
ص: 132
على بعض في الكلام القرآني، ولكنْ قلَّ مَنْ يدركه من أبناء اللّغة العربية في العصور المتأخّرة.
والعامل الّذي يدور عليه هذا النّحو من الجمال هو مدى تناسب وزن الكلمة مع وزن ما يحيط بها في الجملة، فإنّ لأوزان الجملة الواحدة تداخلاً خاصّاً، ومن أمثلة هذه الحالة - في غير هذه الظاهرة - استعمال كلمة (أبناء) و(بنين) في القرآن الكريم في حالة الإضافة فنجد أنّه كلّما أضيف إلى كلمة (إسرائيل)، كما في (41) مورداً استعمل كلمة (بني)، وكذا حيث أضيف إلى (آدم) كما في (7) موارد، وحيث أضيف إلى (إخوان) في موردين.
نعم، في موارد ثلاثة أضيف (أبناء) إلى (إخوان) مراعاة للتوازن بين المعطوف والمعطوف عليه كما مرّ في السّبب السّابق. وحيث أضيف إلى كلمة (الله والذين) استعمل (أبناء) فكأنّهما يتطلّبان مضافاً طويلاً ولا يناسب مضافاً مختصراً ك-(بني) على ما هو محسوس وجداناً.
وعلى عكس ذلك حيث أضيف إلى الضّمير فإنّه اختير (أبناء) سواء أكان الضّمير (هم) أو (نا) أو (كم) أو (هم) إلّا ياء المتكلّم في مقام النّداء ونحوه فإنّه قيل (بنيّ) لجمالها مع (بني) دون (أبناء)، وهذا المثال ممّا يوضح مدى دقّة الانتقاء القرآني في ملاحظة انسجام أوزان الكلمات كما يبيّن مدى عدم قبول هذا المعنى لضابطة عامّة.
فكثيراً ما يبدو للإنسان اعتبارات يظنها علّة في حسن وقع الكلمة في الجملة فيجد مواضع أخرى توجد فيها نفس العلّة ولا يحسن فيها الكلمة ذاتها - كما يظهر بالممارسة والتتبع - ومن ذلك أنّه قد يتراءى للإنسان أنّ المضاف كلّما كان أخف كان أولى؛ لأنّ الإضافة تجعل الكلمتين قريبتين من كلمة واحدة فيجتمع ثقلهما، وتخفيف هذا الثّقل مع
ص: 133
إمكانه مزيّة بلاغيّة؛ ولذلك عدّ علماء البلاغة تتابع الإضافات مخلّا ً بفصاحة الكلام كقول القائل(1): (حمامَةَ جَرعا حَوْمَةِ الجَنْدَلِ اسْجَعي)، ولذلك تجد أنّه اختير (بنو) على (أبناء) كلما أضيف إلى (إسرائيل) كما تقدّم.
لكن بالتتبع يظهر أنّ هناك حالات لا يحسن فيها تخفيف المضاف كما عرفت في إضافة (بني) إلى (الله والذين) وما شابههما ك-(الّذي) و(الّتي) و(اللّات) ونحو ذلك. وكذا الحال مع الإضافة إلى الضّمير إلّا في ضمير المتكلم، ولذلك ينبغي أن يكون ذكر العلّة على سبيل التّقريب والتوضيح فقط، لا على سبيل العلّة المنطقية الّتي تمثّل السّبب الواقعي ويكون مطّرداً لا محالة.
ويلاحظ أنّ جانباً كبيراً من إعجاز القرآن في رأيي مدلول لهذا الضّرب من التّناسق الوزني بين الكلمات في الجملة القرآنية فتأمّل جيداً قوله تعالى: [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ترى حسناً عظيماً في جمال وزن الجملة حيث ابتدأ بكلمة خالية عن الألف، ثُمَّ بكلمتين تتوسّطهما الألف، ثُمَّ استراح إلى كلمة ما قبل آخرها ياء حتى يخيّل إلى الباحث أنّ اللفظ ينطلق من نقطة فيرتفع ثُمَّ ينحدر ثانياً كالخط التّالي ( ) فإنّ الألف تمثّل حالة ارتفاع، والياء حالة انحدار ونزول، ولو قلبت الكلمات فيها - بغض النّظر عن المعنى - فقلت (بسم الله الرّحيم الرّحمن) وجدت ارتباك وزن الجملة فإنّ ذكر (الرّحمن) بعد (الرّحيم) قيام بعد استراحة في آخر الجملة. ولو حذفت لفظ (الرّحمن) وجدت قصراً غير مناسب في وزنها، ولو حذفت لفظ (الرّحيم) وجدت الجملة كأنّها مبتورة وزناً في حدّ ذاتها، ومن أمعن النّظر حقّه وأنصف وكان له ذوق في ذلك لوجد منه أمراً
ص: 134
عجيباً جدّاً، لاسيّما أنّ هذه المرحلة من مراعاة وزن الجملة وموسيقاه لم يكن عن تنازل عن شيء ممّا يقتضيه المعنى، بل المعاني المختارة إنّما اختيرت أيضاً على أعلى أسس الانتقاء في مراعاة النّكات والتّناسبات، فمن نظر إلى ألفاظ القرآن ومعانيه وجد أنّ كُلّا ً منها كأنّه اختير في حالة من الحريّة بالنسبة إلى الآخر للمحافظة على أعلى درجات الانتقاء والاصطفاء في كلتا المرحلتين ممّا مثّل الإعجاز في أوضح معانيه في النّصّ القرآني.
ولذلك ليس من العجيب أنْ تجد اجتماع هذا السّبب مع الأسباب السّابقة في مقتضياتها، بمعنى أنّ الكلمة الّتي اقتضت الأسباب المعنوية واللّفظية اختيارها كانت في نفس الحالة أمراً ضرورياً في وزن الجملة حتى يعجب الباحث في أنّه كيف اجتمعت الخصال المختلفة في تلك الكلمة فكان اختيارها استجابة لجميع المناسبات.
وفي رأيي أنَّ أغلب موارد تلك الأمثلة كان اختيار الجمعين متأثّراً بهذا السّبب ونحن نتعرض لعدة أمثلة مقرّبةً وجه اقتضاء وزن الجملة لأحد الجمعين دون الآخر، ثُمَّ نذكر مثالاً للباقي من غير توضيح.
1. اختيار (ذُكْرَان) على (ذُكُور) في قوله تعالى: [أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ](1)، فإنّه يحقّق للجملة وزناً مناسباً بطوله، بينما لو بدّل ب-(ذكور) سقط وزن الجملة كما يدركه الذّوق الأدبيّ. ولا شكّ أنّ للجملة في نفسها أوزاناً مناسبة وأوزاناً غير مناسبة وإنْ لم يمكن تحديد ذلك، وأوزان الكلام القرآني - الّتي هي ضرب بديع من النّثر لم يسبق إليه - أوزان متناسبة وإنْ اختلفت طولاً وقصراً.
فإنْ قيل: إنّه لو استعمل لفظ (الذّكور) لكان وزن الجملة أقصر، وهو لا يوجب
ص: 135
إشكالاً.
قلنا: إنّ القصر على نوعين: (فتارة): يكون قصراً في نوع الوزن وذاته، وهو غير قادح، بل غالب الأوزان الحسنة قصيرة؛ لأنّ الوزن أكثر تمثّلاً في الجملة القصيرة منه في الجملة الطّويلة. (وأخرى): يكون قصراً في الجملة عن لحوق الوزن الطّويل أو القصير المناسب، وهو مخلّ ببلاغة الكلام، والفرق بين النّوعين لا يُدرَك إلّا بضرب من الذّوق الأدبيّ الدّقيق.
2. اختيار (شِيَع) على (أشياع) في قوله تعالى: [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ](1)، فإنّه لمكان قصره أنسب باختياره في مقام الإضافة إلى كلمة طويلة ك-(الأوّلين) وقد اختير (أشياع) في موردين آخرين أُضيف فيها إلى الضّمير؛ نظراً إلى قصر لفظ الضّمير، وهما قوله تعالى: [وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ](2)، وقوله تعالى: [وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ](3).
وقد يعلّل بمثل هذا السّبب عدّة موارد من غير هذه الظّاهرة - فيما يدور الأمر فيه بين اختيار الجمع السّالم أو جمع التّكسير - فإنّ الجمع السّالم بحذف نونه في حالة الإضافة يكون أخفّ..
(منها): اختيار (أهلون) على (أهال) و(آهال) في جمع (أهل) في مواضع ستّة من القرآن الكريم أُضيف فيها جميعاً فحذفت نونه كقوله تعالى: [الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
ص: 136
وَأَهْلِيهِمْ](1)، ونظيره: [وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ](2)، [مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ](3)، [سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا](4), [بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ](5)، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ](6).
(ومنها): اختيار (بنين) على (أبناء) في مواضع كثيرة(7) أُضيف فيها فإنّه وإنْ كان أخفّ منه - حيث ينقصه بحرف - لكنّ حذف النّون بالإضافة يجعل الفصل بينهما أكثر, وقد اختير صيغة (بَنين) في القرآن الكريم كلّما أُضيف جمع (ابن) إلى الظّاهر، فأُضيف إلى (إسرائيل) في (41) مورداً وإلى (آدم) في (7) موارد، وإلى (إخوان) في موردين ممّا يشير إلى أنّ اختياره لطلب الخفّة. ولم يرد (أبناء) مضافاً إلى الظّاهر إلّا إلى كلمات أربعة:
كلمة (الله) في قوله: [وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ](8)، وقد اقتضاه فيها التّناسب مع الأحبّاء. وكلمة (الّذين) في قوله: [قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ](9)، وقد يُفسّر ذلك باقتضائه التّناسب مع (نساء)، لكن
ص: 137
يمكن تبديلها ب-(النّسوة) المستعملة في القرآن الكريم. وكلمة (إخْوَانِهِنَّ) و(أخَوَاتِهِنَّ) في موارد ثلاثة(1)، ورُبّما أوجب تكافؤ (أبناء) فيها مع (بنين) ذِكرُه من قبله فكان تكراره موجباً لضرب من التّماثل بين الكلمات المتعاطفة. والظاهر أنّ اختيار (أبناء) مع (الله) و(الّذين) من جهة ضرب من أنسبيّته معهما، فإنّ الموضع قد يتطلَّب كلمة طويلة.
وقد اختيرت كلمة (أبناء) كلما أُضيف جمع (ابن) إلى الضّمائر (كم, نا, هن, هم) ممّا يشير إلى أنّ المضاف إلى الضّمير يحسن أنْ يكون طويلاً في الجملة لقصر لفظ الضّمير.
نعم، كلّما أضيف إلى ياء المتكلم اختيرت (بنون) فقيل (بَنيّ) - كما في مواضع أربعة - ولعلّه لجمالها معه مطلقاً أو في مقام النّداء كما في قوله تعالى: [يا بَنيّ](2)، وعلى الثّاني يكون اختياره في [وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ](3)، مراعاة للتناسب مع لفظ (اجنبني) الخالي عن الألف.
3. اختيار كلمة (السُّجود) على (السُّجَّد) في قوله تعالى: [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ](4)، وقريب منها [وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ](5)، فإنّ كلمة (الرُّكّع) ثُمّ (السُّجود) بعد (العاكفين) تُحقّق انحداراً طبيعياً للكلام من الأعلى إلى الأدنى لترتيبها في الوزن، فكلمة (عاكفين) كانت الأثقل بطولها ومدّها (بالألف)، ثُمّ كلمة (ركّع) بتشديدها, ثُمّ استراح الكلام إلى كلمة (السُّجود) الحاوية في آخرها للمدّ الواويّ. ولو قيل مكان (الرُّكَّع) (الرُّكوع) على وزن (السُّجود)
ص: 138
لرُبّما كان الانتقال إليه من (العاكفين) كالسُّقوط من الأعلى، وكان الانتقال منه إلى السُّجود بعد كمال انحدار الوزن انتقالاً لم يقتضه الوزن، ولو اختير مكان (السُّجود) كلمة (السُّجَّد) لم يتحقّق انحداراً من (الرُّكّع) إليه، بل كان الانتقال إليه بعد كمال الوزن، ولكن كلمة (السُّجود) أوجبت انحدارَ الوزن إليه، فإنّ في اختيار الكلمة المحتوية في أواخرها على الواو والياء في آخر الجملة انحداراً طبيعيّاً لها؛ ولذلك كان وقوع مثل هذه الكلمة في آخر الكلام يحقّق له توازناً خاصّاً، كما يكثر ذلك في القرآن الكريم.
وقد مرّت الإشارة إلى هذه النّكتة في السّبب السّادس.
4. وعلى عكس ذلك اختيار (سُجَّد) على (سجود) في قوله تعالى: [وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً](1)، فإنّه لثقله بالتشديد كان أوْلى قبل (قياماً)؛ فإنّ اللّفظة الّتي تحتوي على الألف من قبيل اللّفظ القائم، والانتقال إليها انتقال إلى ارتفاع - بملاحظة طبيعة المدّ الألفيّ -، كما أنّ اللّفظة الّتي تحتوي على الواو قبل آخرها من قبيل اللّفظ القاعد، واللّفظة الّتي تحتوي على الياء من قبيل اللّفظ المضطجع بتناسب طبيعة المدّ الواوي واليائي.
وعليه: فاختيار لفظ (سُجّد) قبل (قياماً) كان يُحقّق الارتفاع الطّبيعي لوزن الجملة ولو اختير لفظ (سجود) كان الارتفاع غير طبيعي؛ لخفّة هذا اللّفظ وتناسبه للاستراحة به، فيكون الارتفاع بعده مخلاً بوزن الجملة. وهذا كلُّه ظاهر بالذّوق الأدبيّ.
وأمّا عدم اختيار (سجود) على (سُجَّد) في قوله تعالى: [تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً](2)؛ فلأنّه وإنْ كان يحقّق انحداراً للكلام لكن لم يكن بحاجة إليه، لأنّه في وسط الكلام, بل
ص: 139
كانت رعاية التّماثل مع رُّكّع - بعد اختياره - أوْلى.
وأمّا عدم تبديل (رُّكَّع وسُجَّد) جميعاً إلى (ركوع وسجود) في الآية فرُبّما كان من جهة تناسب الموضع مع اللّفظ الثّقيل، فإنّه لا حاجة إلى انحدار الوزن في وسط الجملة, وهذا يُنبّه الباحث على أنّ أيّة مزيّة ليست مزيّة مطلقة، بل لكلٍّ منها موضع، وللتزاحم بينها أحكام.
فهذه أمثلة أربعة أوضحنا خلالها نكات نوعيّة تقريباً.
وفيما يأتي أمثلة أخرى قد يصعب تحليل النّكتة فيها - اللهمّ إلّا بمزيد من الممارسة والتتبع - وإنّما نذكرها إيكالاً لمعرفة السّبب فيه إلى الذّوق الأدبيّ، فعلى النّاظر أنْ يستبدل أحد الجمعين المستعمل فيها إلى الجمع الآخر فيختبر فيها تفاضل جمال الكلام في الحالين.
1. أفضليّة (إخوة) من (إخوان) بتركيبه الخفيف في أكثر موارد انتخابه [وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ](1)، [لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ](2)، [مِنْ بَعْدِ أَنْ نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي](3)، [وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً](4).
2. أفضليّة (إخوان) بتركيبه الثّقيل في أكثر موارد انتخابه كقوله: [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ](5)، [فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً](6)،
ص: 140
[وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ](1)... الخ.
3. أفضليّة (أسرى) من (أُسارى) بتركيبه الخفيف في [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ](2)، [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِّمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِّنْ الأَسْرَى](3).
4. أفضليّة (آلاف) من (ألوف) بتركيبه الممدود بالألف في [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ](4), [ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ](5).
5. وعكس ذلك بأفضليّة (ألوف) بتركيبه الواوي في [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ](6).
6. أفضليّة (ذكور) بتركيبه الواويّ من (ذُكران) بتركيبه الألفيّ في قوله: [يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ](7)، ولعلّ وجهه انحدار التّركيب الواويّ بعد تركيب (يشاء) الألفيّ كما قد يظهر ممّا سبق أوّلاً.
7. وأفضليّته أيضاً في قوله: [وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا](8) رغم تناسب (أزواجنا) (ذُكراننا)، ولعلّ وجهها تكرّر النّون بالإضافة
ص: 141
فيما لو استخدم (ذكران).
8. أفضليّة (سُجَّد) بتركيبه الثّقيل بالتشديد من (سجود) في أكثر مواضع انتخابه كقوله: [فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً](1)، [وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً](2).
9. أفضليّة (شهود) - بتركيبه الخفيف - في قوله تعالى: [وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ](3).
10. وعكس ذلك في غالب المواضع حيث كان الأفضل كلمة أطول إمّا (أشهاد) أو (شهداء) الممتاز بتركيبه الطّويل الممدود كما في قوله: [وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ](4)، [وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ](5)، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ](6)، [وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ](7).
وليرجع الباحث في ملاحظة باقي الأمثلة إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
ص: 142
وهذا الأمر يتمّ بقلّة حروفه فإنّ اختياره حينئذ يكون ضرباً من الإيجاز الّذي تقتضيه الحكمة، لكن هذه النّقطة إنّما توجب اختيار إحدى الكلمتين في حالة التّكافؤ من حيث المزايا اللّفظيّة والمعنويّة, فهي مزيّة حيث لا مزيّة أخرى - ولذا ناسب ذكرها في آخرها - .
ورُبّما يُناَقش في أصل كونه مزيّة فيقال: بأنّ المتكلّم مختار بين اللّفظين المتكافئين وإنْ اختلفا طولاً وقصراً؛ استناداً إلى وقوع ذلك في الاستعمالات القرآنيّة، فمن ذلك اختيار (أبناء) على (بَني) في قوله تعالى: [لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ](1)، والشاهد في المضاف إلى [إخْوَانِهِنَّ وَأخَوَاتِهِنَّ] فإنّه كان يَصحّ أنْ يقال (بني إخوانهن)، كما ورد ذلك في قوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ](2)، ولفظة (أبناء) في تلك الآية وإنْ كان يحقّق التّناسب مع الجموع السّابقة عليها، ولكنّ رجحان لفظة (بني) من جهة اختصارها أوجب تكافؤهما على أقلّ تقدير ولذلك اختيرت (بني) في الآية الثّانية, فلو كان يجب اختيار اللّفظ الأخصر مع التّكافؤ وجب اختيار (بني) على (أبناء) في آية الأحزاب.
ولكنَّ الصّحيح عدم اتّجاه هذه المناقشة؛ لأنَّ اقتضاء الحكمة والبلاغة لمراعاة
ص: 143
الإيجاز أصل محكم لا غبار عليه، كما ذكره علماء البلاغة في علم المعاني, ولا شكّ في أنّ الإيجاز كما يتحقّق بقلّة الكلمات مع كثرة المعنى: إمَّا بدون حذف - ويسمى إيجاز القصر - كما قيل في قوله تعالى: [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ](1)، وإمَّا مع الحذف لجملة أو لكلمة أو لحرف كما قالوا في [وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً](2)، فإنَّه كذلك يتحقّق مع اختيار اللّفظ الأخصر.
بل هذا ضرب من إيجاز القصر؛ إذْ لا حذف فيه من الكلمة وإنْ كان أشبه بحالة حذف الحرف من إيجاز الحذف؛ لأنّ الإيجاز يحصل فيهما بقلّة الحروف. فإذا كان حذف الحرف الواحد ضرباً من الإيجاز كما ذكره علماء البلاغة فإنّ الإتيان بلفظٍ أقلّ حروفاً أوْلى بذلك, بل يمكن القول بأنّ أخفيّة الكلمة يوجب لها ضرباً من الجمال الزّائد.
وأمّا الأمثلة الّتي قد يتوهم فيها اختيار اللّفظ الأطول في القرآن الكريم فهي ليست من قبيل حالة التّكافؤ بالتّحرّي والدّقّة, ففي المثال المتقدم إنّما اختيرت لفظة (أبناء) مضافة إلى الإخوان والأخوات في آية الأحزاب انسجاماً مع الجموع الثّلاثة الّتي قبلها وهي (آباء) و(أبناء) و(إخوان)، وكلمتي (نساء) و(أيمانهن) بعدها مضافاً إلى لفظتي (إخوان) و(أخوات) المضاف إليهما فهي كلمات سبعة متماثلة، فكان اختيار (أبناء) على (بني) جرياً على القاعدة السّابقة من تقديم كلّ مزيّة على الإيجاز اللّفظي، وهذا من شواهد تلك القاعدة.
وأمّا في آية النّور فإنّما عُدِل عن لفظ (أبناء) إلى (بني) لا لمجرد الاختصار، بل بملاحظة مجموع جهات ثلاثة.
فمن جهةٍ كانت الألفاظ المماثلة فيها كثيرة جداً، فقد سبقت موضع تلك الكلمة
ص: 144
جموع خمسة (آباء, آباء, أبناء, أبناء, إخوان) ولحقها جمعان (نساء) و(أيمان) فكان المجموع مضافاً إلى لفظتي (إخوان) و(أخوات) - المضاف إليهما - ألفاظاً تسعة.
ثُمَّ إنّ كلمة (أبناء) بعينها كانت قد ذكرت مرتين قبل ذكر المضاف إلى (إخوان) و(أخوات) كما أنّ كلمة (آباء) المماثلة معها في الحروف والوزن كانت قد ذكرت مرتين فكان تكرار (أبناء) مرتين أُخريين يوجب الملل من ناحية عدد الجموع المتماثلة؛ إذْ يصبح في حالة اختيار لفظة (أبناء) إحدى عشرة لفظة، ومن ناحية التّماثل التّام أو شبه التّام بين كثير منها إذْ تتكرر لفظة (أبناء) مرات أربعة، وبإضافة لفظ (آباء) المتكرر تكون ستة, فكان اختيار (بني) يقلّل عدد الجموع المتماثلة إلى تسعة ويَنقص من حالة التّماثل التّام كلمتين. مضافاً إلى أنّه كان يوجب تنوّع الكلمات في الجملة الّتي تماثل كثيرٌ من مفرداتها.
ومن جهة ثانية: لم يكن يتوقف تماثل جملة [بَنِي إِخْوَانِهِنَّ وَبَنِي أَخَوَاتِهِنَّ] على استعمال لفظ (الأبناء) لكفاية عجزهما وهو كلمتي (إخوان، أخوات) في إيجاد التّماثل بينها وما عطف عليهما أو عُطفتا عليه.
ومن جهة ثالثة: فإنّ كلمة (بني) كانت ذات مزايا في الموضع؛ لأنّها أخصر في ذاتها، ولأنّها أنسبُ بالإضافة إلى (إخوان وأخوات) لأنّ المضاف كلما خَفّ كان أوْلى كما تقدّم في السّبب السّابق، ولذا اختيرت (بني) على (أبناء) في جميع الموارد الكثيرة الّتي أضيفت فيها إلى اسم ظاهر عدا خمسة موارد تمثّل الآية موردين منها لأسبابٍ خاصّة كما مرّ.
فبملاحظة مجموع هذه الجهات كان اختيار (بني) على (أبناء) أوْلى في هذه الآية, فلا تتماثل الحال في آيتي الأحزاب والنّور حتى كأنْ يكون اختيار (أبناء) في الأُولى دليلاً
ص: 145
على جواز انتخاب الأطول مع وجود الأخصر واجداً لنفس المزايا.
وفي الواقع إنّ هذه الآية تضرب مثلاً رائعاً في عمق مستوى التّدقيق في مرحلة الانتقاء القرآني للكلمات, بل تعطي هذا التّعمق رقماً قياسياً لم يحضرني مثيل له فعلاً.
ثُمَّ إنّ هناك نقطة نختلف فيها مع اللّغويين تؤثّر في تشخيص عدد حروف الكلمة وهي حرفيّة الألف, والياء، والواو في مثل (شهيد وسجود) فالمعروف لديهم حرفيّة الثّلاثة وقد عدّوها ساكنة واعتبروا ما قبل الألف مفتوحاً، وما قبل الياء مكسوراً، وما قبل الواو مضموماً.
ولكنّا لا نرى حرفيّتها وإنّما نراها بحسب الوجدان الدّقيق كيفيّات على الحروف الّتي قبلها، فإنّ الفرق بين الحرف وكيفيّته حسبما قد يتراءى من كلمات الأدباء أنّ الحرف ذا جوهر خاصّ، والكيفيّة - كالسكون والحركات الثّلاثة - أنحاء تشكّل ذاك الجوهر، وكأنّه لأجل ذلك يضعون الحركات على الحروف(1). وهذه الثّلاثة لا جوهر لها بحسب الحسّ الوجداني، بل هي كيفيّات مختلفة على الحروف في مقابل السّكون والحركات الثّلاثة، فالألف نحو ارتفاع وامتداد للحروف إلى الأعلى، والياء نحو انخفاض لها، والواو نحو ثالث.
وفي رأيي أنّه يسهل تشخيص ذلك بالتأمّل فيها: لاسيّما في الواو والياء؛ فإنّ صوت (و) و(ي) غير متحقِّق في مثل (شهيد وسجود) بداهة وإنّما يتحقّق في (وعد) و(يسر) والفرق بينهما شاسع, ومن علائم ذلك:
ص: 146
أوَّلاً: إنّا لا نجد حركة على ما قبلها بالدّقّة، فتأمّل (بَ) و(با) فهل تجد في الثّاني فتحة كما في الأوَّل أو امتداداً على الباء؟ ثم تأمّل في (بُ) و(بُو) و(بِ) و(بي) فهل تجد في الثّاني منهما ضمّة وكسرة كما في الأول أو حالة أخرى أشدّ من الحركتين؟
وثانياً: أنّه لو كانت حروفاً فكيف وجبت حركات خاصّة فيما قبلها! فإنّه لا تأثير لحرف في تحقّق حرف آخر، فهذا مُنّبه على أنّها حالات يظن لها نحو تسانخ مع الحركات الثّلاث فاعتبرت تلك الحركات على ما عُدّ قبلها لوضوح عدم قبول ما قبلها لحركات مباينة.
وثالثاً: أنّها لو كانت حروفاً فكيف لزمها السّكون، مع أنّ جوهر الحرف لا يُعيِّن الكيفيّة الّتي يُنطَق عليها، فإنّ أيَّ نوع من الأصوات لا يأبى النُّطق به على أنحاء متعدّدة.
ويؤكد هاتين العلامتين في الواو والياء قبولهما وما قبلهما السّكون والحركات الثّلاثة جميعاً في مثل (ظبي ودلو) ممّا يدلّ على تباين ذاتي بينهما في ذلك، في مثل (شهيد وشهود).
ورابعاً: أنّ كلّ حرف يمكن النّطق به بمفرده على نحو صوت شبه ممدود وهو غير ممكن في هذه الثّلاثة، ولو كانت حروفاً صلحت لذلك - حتى لو قُدِّر أنّها ساكنة - فإنّ الابتداء بالساكن إنْ كان محالاً في النّطق بحرفين فإنّه لا شكّ في إمكان إيجاد الصوت الحرفيّ من غير حركة. فهذه منبِّهات على أنّ الثّلاثة ليست بحروف.
ولا بُدَّ لتوضيح تأثير هذا السّبب في تفسير تلك الظّاهرة من المقارنة بين الجموع الماضية في أمثلتها في جدول، ثمَّ الإشارة إلى بعض الموارد الّتي يصحّ أو يحتمل استنادها إليه.
وفيما يلي هذا الجدول - مع الإشارة فيه إلى الفرق بين رأينا ورأي اللّغويين - في حرفيّة الثّلاثة:
ص: 147
1. إخوة —— أقلّ من —— إخوان —— بحرف على رأي اللّغويين وبحالة(1) على رأينا
2. أسرى —— أقلّ من —— أُسارى —— بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا
3. أُلوف —— أقلّ من —— آلاف —— بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا
4. اللاتي —— مساوية —— اللاتي —— في الحروف والحالات
5. خلفاء —— مساوية —— خلائف —— في الحروف والحالات
6. ذكور —— أقلّ من —— ذُكران —— بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا
7. سجود —— أقلّ من —— سُجّد —— بحرف على رأينا وتزيد عليه بحالة.
8. أساور —— أقلّ من —— أسورة —— بحرف على رأينا وتزيد عليه بحالة.
9. شداد —— أقلّ من —— أشداء —— بحرفين
10. شهود —— مساوٍ مع —— أشهاد —— في الحروف والحالات
11. شهور —— أقلّ من —— أشهر —— بحرف على رأينا وتزيد عليه بحالة
12. شِيعَ —— أقلّ من —— أشياع —— بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا
13. صحف —— أقلّ من —— صِحاف —— بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا
14. ضِعاف —— أقلّ من —— ضعفاء —— بحرف
15. عبيد —— مساوٍ مع —— عباد —— في الحرف والحالات
16. فجرة —— أقلّ من —— فجّار —— بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا
17. كفرة —— أقلّ من —— كفّار —— بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا
18. موتى —— أقلّ من —— أموات —— بحرف
19. نُصب —— أقلّ من —— أنصاب —— بحرفين على رأي اللّغويين وبحرف وحالة على
ص: 148
رأينا
20. نِعَم —— أقلّ من —— أنعم —— بحرف
21. نفوس —— أقلّ من —— أنفس —— بحرف على رأينا ويزيد عليه بحالة
ويلاحظ: أنّ العامل في خفّة الكلمة ليس مجرّد قلّة حروفها، بل لكيفيّاتها تأثير في ذلك، فالحالات الثّلاثة عندنا أثقل من الحركات الثّلاثة، والسكون وإنْ كان ثقلها دون ثقل الحروف. وقد يقال بأنّ الكسرة أثقل من الضّمّة، وهما من الفتحة، والثّلاثة من السّكون، وكذا الياء من الواو، وهما من الألف، بل الحروف ذاتها بعضها أثقل من بعض، ولكن زيادة حروف الكلمة تُعدُّ من أهمّ عوامل الثّقل وأبرزها.
ويلاحظ أنّ خفّة الكلمة يصلح أنْ يكون جزءاً من السّرّ في اختيار الأخفّ من تلك الجموع في جميع موارد أخفيّة أحدها من الآخر، إلّا أنّا نشير إلى أهمّ تلك الموارد:
1. اختيار (إخوة) على (إخوان) في (7) موارد حيث لم يكن داعٍ لاختيار إخوان من قبيل ما مرّ في السّبب السّادس والتّاسع.
2. اختيار (أسرى) على (أُسارى) في موردين حيث لم تكن جهة توجب اختياره من قبيل ما مرّ في السّبب السّادس.
3. اختيار (ذكور) على (ذُكران) في موردين حيث لم تكن جهة توجب اختياره من قبيل ما مرّ في السّبب التّاسع والعاشر.
4. اختيار (شِداد) على (أشداء) في ثلاثة موارد - مع غض النّظر عن الفارق المعنوي - حيث لم تكن جهة توجب اختيار (أشداء) من قبيل ما مرّ في السّبب التّاسع.
5. اختيار (صُحف) على (صِحاف) في ثمانية موارد حيث لم تكن جهة موجبة
ص: 149
لاختياره من قبيل ما مرّ في السّبب السّادس.
6. اختيار (ضِعاف) على (ضعفاء) في مورد حيث لم تكن جهة موجبة لاختياره من قبيل ما مرّ في السّبب العاشر.
7. اختيار (موتى) على (أموات) في (17) مورداً حيث لم تكن جهة لاختياره من قبيل ما مرّ في السّبب التّاسع. وهو من أهمّ موارد تأثير عامل الخفّة في انتخاب أحد الجمعين، أو ربّما كان العامل الوحيد في أكثر تلك الموارد.
8. اختيار (نُصب) على (أنصاب) في موردين حيث لم تكن جهة لاختياره من قبيل ما مرّ في السّبب العاشر.
ويلاحظ أنّه قد يحدث تزاحم بين مزايا مختلفة فلا بدَّ من ترجيح الأقوى والأنسب بينها، وقد أشرنا خلال بعض الأسباب الأخيرة إلى بعض تلك الحالات، ونذكر هنا بعضها..
في حالة تزاحم الإيجاز اللّفظي مع سائر المزايا فإنّه يتعيّن اختيار سائر المزايا عليه، فإنّ الإيجاز اللّفظي إنّما هو مزيّة حيث لا مزيّة أخرى فهو إنّما يوجب اختيار إحدى الكلمتين في حالة التّكافؤ من حيث المزايا اللّفظيّة والمعنويّة، ولذا ناسب ذكرها في آخرها، ويشهد على ذلك أنّك لو لاحظت كثيراً من الآيات القرآنية تأتى لك أنْ تقترح اختصاراً في الآية مع حفظ المعنى وليس السّبب في عدم مراعاة هذا الاختصار إلّا توّفر أسباب أخرى اقتضت العكس، وقد مرّ بعض أمثلة هذه الحالة.
في حالة تزاحم الجمال اللّفظي للكلمة المفردة مع الجمال اللّفظي
ص: 150
للجملة أو الجمل المتعدّدة ككلّ لتحقيق سجع أو موازنة أو غير ذلك ممّا مرّ في السّبب العاشر يترجّح حفظ الجمال النّفسي للجملة ككلّ.
ومن أروع حالات التّزاحم الّتي تمثّل مدى دقة الانتقاء القرآني اختيار (أبناء) على (بني) في قوله تعالى: [لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ](1) فاختيرت (أبناء) على بني وإن كان أخصر رعاية لتماثلها مع سائر الجموع المذكورة. واختيار (بني) على (أبناء) في قوله تعالى: [وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ](2) رغم تماثله مع الآية الأولى جدّاً. ولكن لمّا كان استعمال (أبناء) يوجب تكرارها أربع مرات متقاربة مع قرب لفظها من (آباء) المتكرر (مرتين). مضافاً إلى تكرر الجموع المتماثلة فيه بعدد أكثر ممّا قد يوجب مجموعه المَلَل من كثرة التّماثل والتكرار، ثُمَّ كان نفس كلمة (إخوان) و(أخوات) المضاف إليهما مناسباً في الوزن مع الجموع المقترنة بالجملتين فكان نحواً من التّماثل حاصلاً بين الجملتين وما عطفتا عليه ولو مع استعمال (بني) فلذلك رجح على (أبناء) في الآية الثّانية.
ونؤكّد هنا على نسبيّة كل مزيّة بحسب الحالات.
ونذكر من أمثلة ذلك: المعروف أنَّ تكرار الكلمة في الجملة غير مستحسن، وبذلك علّل الزّمخشري وغيره استعمال (عام) بدل (سنة) في قوله تعالى: [أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
ص: 151
خَمْسِينَ عَامًا](1) مع أنّك عرفت حسن تكرار (أبناء) في الآية الأولى وكذا تكرار (إخوان) مع إمكان التّحرّز بتبديلهما إلى (بني) و(إخوة)، بل لعلّ من ذلك قوله تعالى: [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ](2).
كما نؤكّد على أنَّ بعض المزايا البديعية ممّا لا يناسب مستوى الكلام القرآني من قبيل مزيّة الطّباق التّام بمعنى تكرار لفظ بمعنيين، فإنّه وإنْ كان لا يخلو عن نكتة إلّا أنَّ كل نكتة تعجب الإنسان لا يحسن في كل مستوى كما هو معلوم، ولعلّه لذلك اختير لفظ الزّرّاع على لفظ الكفار في قوله تعالى: [يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ](3) لتكرر الكفار بالمعنى المقابل للمؤمنين في الآية مرتين رغم اختيار لفظ الكفار على الزّرّاع في نظيرها وهو قوله تعالى: [كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ](4).
ص: 152
وقد سأل السّائل عن مصادر البحث، ونحن لم نطلّع على مصدر خاصّ بهذا البحث إلّا ما يظهر بملاحظة كتب اللّغة والتّفسير ونحوها فيما يتعلّق بهذه الظّاهرة أو أخواتها الّتي تشترك معها في أسبابها، إذ أنَّ هذه الظّاهرة فرع من فروع ظاهرة اختيار بعض الألفاظ المترادفة أو المتقاربة في المعنى، وهي ظاهرة عامّة ذات أسباب مشتركة.
وينبغي أنْ ننبّه هنا على أنَّ مبادئ البحث لا تنحصر بالاطلاع على مصادر له, بل تتوقف:
أوَّلاً: على الذّوق الأدبيّ الرّفيع والوجدان اللّغويّ الدّقيق.
وثانياً: على الاطلاع على القواعد الأدبيّة في مختلف علوم الأدب والقدرة على تشخيص تطبيقاتها.
وثالثاً: على الممارسة والتتبّع.
هذا تمام الأسباب الّتي ظهرت لنا في تفسير تلك الظّاهرة بالتأمّل في أمثلتها وموارد استعمالها، وربّما كان هناك سبب أو أسباب لم نطّلع عليها، ولكن ذلك ما خطر بالبال مع ضيق الوقت وتزاحم الأعمال وقلّة المصادر، وقد استغرق ذلك غالب وقتي في أسابيع ثلاثة. وكان تاريخ كتابة هذه السّطور في شهر ربيع الثّاني من عام (1416ﻫ).
هذا تمام الرّسالة الّتي كتبتها في حينها. وقد طلب منّي بعض الأعزّة نشر هذا البحث وقد أجبته إلى ذلك، وذلك في العاشر من جمادى الآخرة عام (1437ﻫ) مع عدم تيسّر مراجعتها، فضلاً عن الزّيادة عليها وإغنائها بما تجدّد من أدوات البحث والمتابعة، والله الهادي.
والحمد لله أوَّلاً وآخراً.
ص: 153
1. القرآن الكريم.
2. الأشباه والنظائر, جلال الدّين السّيوطي (ت 911 ﻫ), الطّبعة الثّانية, حيدر آباد الدكن 1361ﻫ.
3. أمالي السّيد المرتضى, الشّريف علي بن الحسين المرتضى (ت 436 ﻫ), الطّبعة الأولى سنة 1325ﻫ سنة 1907م. منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النّجفي, قم - إيران 1403ﻫ.
4. أنوار الرّبيع في أنواع البديع, السّيد صدر الدّين بن نظام الدّين الدّشتكي الشّيرازي المعروف ب-(السّيد علي خان المدني) (ت 1120 ﻫ), طبعة إيران 1304ﻫ.
5. الإيضاح في علوم البلاغة (المعاني والبيان والبديع), الخطيب القزويني جلال الدين محمد بن عبد الرّحمن (739 ﻫ), منشورات دار الكتب العربية, بيروت - لبنان, الطبعة الأولى 2003م - 1435 ه- .
6. البرهان في علوم القرآن, بدر الدّين محمّد بن عبد الله الزّركشي (ت794 ﻫ), تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم, الطّبعة الأولى 1376ﻫ - 1957م, دار إحياء الكتب العربية.
7. تاج العروس من جواهر القاموس, السّيد محمد مرتضى الحسيني الزّبيدي (ت 1205 ﻫ), تحقيق: علي شيري, النّاشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت 1994م.
ص: 154
8. التبيان في تفسير القرآن, الشّيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطّوسي (ت 460 ﻫ), تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي, الطّبعة الأولى 1409ﻫ, النّاشر: مكتب الإعلام الإسلامي.
9. جواهر البلاغة, السّيد أحمد الهاشمي (ت1943م), الطّبعة العاشرة, 1358ﻫ, مطبعة الاعتماد- مصر.
10. شرح ألفية ابن مالك, بهاء الدّين عبد الله بن عقيل (ت 769 ﻫ), طبعة مصر 1964م.
11. شرح الكافية, الشّيخ محمد بن الحسن رضي الدّين الأسترابادي المعروف ب-(نجم الأئمَّة) (ت686ﻫ), طبع حجري, وطبعة طهران. 1975م, نشر مؤسسة الصادق, وطبعة جامعة قاريونس 1398ﻫ - 1978م, تصحيح وتعليق: يوسف حسن عمر.
12. شرح شافية ابن الحاجب, الشّيخ محمد بن الحسن رضي الدّين الأسترابادي المعروف ب-(نجم الأئمَّة) (ت686ﻫ), طبع حجري, وطبعة دار الكتب العلمية. بيروت لبنان. 1975م.
13. شرح نهج البلاغة, عزالدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي (ت656ﻫ) تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم, الطّبعة الأولى 1378ﻫ - 1959م, النّاشر: دار إحياء الكتب العربية.
14. الصورة الفنيّة في المثل القرآني, د. محمد حسين الصغير (معاصر), الطّبعة الأولى 1412ﻫ 1992م, دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت - لبنان.
ص: 155
15. الفرائد الغوالي على شواهد الأمالي للسيد المرتضى, الشّيخ محسن الجواهري (ت1355ﻫ), الطّبعة الأولى 1387ﻫ - 1967م مطبعة الآداب. النّجف الأشرف.
16. الكافي, الشّيخ أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني (ت329ﻫ) صحّحه وعلّق عليه علي أكبر الغفاري, النّاشر دار الكتب الإسلامية, الطّبعة الثّالثة 1388ﻫ.
17. كتاب العين, الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175ﻫ), تحقيق: الدّكتور مهدي المخزومي والدّكتور إبراهيم السّامرائي, النّاشر: مؤسسة دار الهجرة, الطّبعة الثّانية, 1409ﻫ.
18. الكشّاف عن حقائق التّنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التّأويل, جار الله محمود الزّمخشري (ت538ﻫ), طبعة بيروت, 1407ﻫ.
19. لسان العرب, ابن منظور (ت 711 ﻫ), طبعة بيروت, 1405ﻫ.
20. مجمع البيان في تفسير القرآن, للشيخ أبي علي الطّبرسي (ت548ﻫ), منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان. الطّبعة الأولى 1415ﻫ - 1995م.
21. المطوّل في شرح تلخيص المفتاح, سعد الدّين التّفتازاني (ت793 ﻫ), طبع حجري.
22. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم, محمّد فؤاد عبد الباقي (ت1388 ﻫ), مطبعة دار الكتب المصريّة 1364ﻫ - 1945م.
ص: 156
23. المفردات في غريب القرآن, أبو القاسم الحسين بن محمّد بن المفضّل المعروف بالرّاغب الأصفهاني (ت بحدود 425 ﻫ), الطّبعة الثّانية, 1404ﻫ, نشر: دفتر نشر الكتاب, وطبعة بيروت.
24. المنجد الأبجدي, لويس معلوف (ت1365 ﻫ), الطّبعة الخامسة 1986م, دار المشرق, بيروت - لبنان.
25. النهاية في غريب الحديث والأثر, المبارك بن محمّد الجزري المعروف بابن الأثير (ت606ﻫ), تحقيق: طاهر أحمد الزّاوي، محمود محمّد الطّناحي, الطّبعة الرّابعة, 1364 ش.
ص: 157
ص: 158
حجيّة قول غير الأعلم من الفقهاء مع وجود الأعلم منه من المسائل الابتلائية على نطاق واسع، فهل يتعيّن على المكلَّف الرجوع للأعلم فيما اختلفا فيه من الفتوى، أو أنَّ المجال مفتوح أمامه ليختار فتوى أيٍّ منهما؟
في هذا البحث نحاول الاستدلال على أحد القولين.
ص: 159
ص: 160
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد, من المسائل الابتلائية على نطاق واسع مسألة حجيَّة قول غير الأعلم من الفقهاء مع وجود الأعلم منه، فكثيراً ما يتيسّر للمكلّف وبكل سهولة الرجوع إلى مجتهد جامع لشرائط التقليد في تعيين وظائفه الشرعية, فهل يجوز له أن يأخذ الحكم الشرعي من غير الأعلم وتبرء ذمته بالعمل به مع وجود فتوى الأعلم؟ أو أنَّ وظيفته الشرعية توجب عليه العمل بفتوى الأعلم, وعدم حجيَّة قول غير الأعلم في حقه؟
فهذا ما أردنا البحث عنه في هذه السطور لأهمية المسألة من جهة أنَّها تحدّد مسير الإنسان في أخذ دينه, ولكثرة الابتلاء بها من جهة أخرى, فقلّما يوجد من المكلّفين مَنْ لا يُبتلى بهذه المسألة ولاسيّما في عصر ازدهار الحوزات العلمية وتوفّر أهل العلم والفضل في أرجاء العالم.
وأقول مستعيناً بالله سبحانه وتعالى: إنَّ هذه المسألة تتصوّر على صورتين:
الأوَّلى: علم المكلّف بوجود الأعلم من بين المجتهدين إلّا أنَّه لا يعلم بوجود الاختلاف بينهم من الفتوى.
الثّانية: علم المكلّف بوجود الاختلاف بينهم في الفتوى زيادة على علمه بوجود الأعلم من بين المجتهدين أهل الفتوى.
ومورد البحث هنا الصورة الثانية.
ص: 161
فالأمر الذي نحاول أنْ نبحث عنه هو تحديد الموقف الشرعي للمكلّف: هل يكون رأي مجتهد حجّة في حقّ المكلّف الذي قد علم بوجود مَنْ هو أعلم منه وأيضاً قد علم بوجود الخلاف بينهما في الفتوى أو لا يكون حجّة؟ فيتعيّن الرجوع إلى الأعلم.
ثم يمكن البحث في هذه المسألة من جهتين:
الأولى: ما هي وظيفة العامّي في المسألة بمقتضى عقله - أي بما يحكم عقله إذا خلى وعقله - مع قطع النظر عن فتوى المجتهد في المسألة؟
والأخرى: ما هي فتوى المجتهد في هذه المسألة؟
الذي نريد البحث فيه هي الجهة الثانية؛ لأنّ الجهة الأولى ليس فيها كلام كثير، فإنّ العامّي إذا التفت إلى وجود الاختلاف بين الأعلم وغيره فعقله يحكم بالرجوع إلى الأعلم تعييناً كما ذكره كثير ممّن تعرّض لهذه المسألة منهم السيد الخوئي (قدس سره) في تنقيحه(1). نعم، إذا كانت فتوى غير الأعلم مطابقة للاحتياط دون الأعلم فقد يلزمه العقل باتباعها من حيث إنّه فيها احتياط.
وقبل ذكر الأقوال في المسألة والإشارة إلى ما يبدو صحيحاًً فيها كان من المناسب تقديم تنبيه في معنى الأعلم.
فنقول: قد ذُكِر لكلمة الأعلم تفاسير متعددة:
(منها): إنّ المراد هو الذي قوله أقرب إلى الواقع(2).
(ومنها): هو الذي يكون أشدّ استنباطاً وأقوى ملكة لاستخراج الفروع من الكليات.
ص: 162
(ومنها): هو الذي يكون أكثر اطّلاعاً على المدارك والقواعد(1).
(ومنها): هو الذي يكون أكثر إحاطة بالفروع(2).
والمعنى الذي هو أقرب إلى الاعتبار في تفسير هذه الكلمة: هو الذي يكون الأمتن في الاستنتاج، والأدق في تطبيق الكبريات على الصغريات، والأجود في استخراج الفروع من مداركها, وهذا المعنى ذكره غير واحد من الأجلاء(3), وهو معنى الأعلم في أي فن وعلم آخر, وهذا لا يكون إلا إذا كان أكثر إحاطة بالقواعد والمدارك من الكتاب والسُنّة في الكمية وكذا أكثر عمقاً في فهمها دلالة وفي تنقيحها سنداً. وأيضاً يستلزم أن يكون أكثر اطلاعاً على ما يتوقف عليه الفهم الصحيح للمدارك من العلوم العربية والأدب العربي القديم ومحاوراتهم وكلمات الفقهاء التي هي بمنزلة القرينة على المراد من كلام المعصوم (علیه السلام) ومع كل ذلك يكون أكثر وقادة للذهن واستقامة للفكر(4).
وقد تبيّن خلال هذا أنّه ليس المراد من الأعلم ما يتوهم من هذه الكلمة في بادي الرأي وهو أن يمتلك الإنسان العلم بالفروع أكثر من الغير؛ لأنّ هذا الأمر لا دخالة له في الأعلمية، بل قد يكون غير الأعلم يجد هذا الشيء أكثر من الأعلم.
وإذا تفرقت الأوصاف الدخيلة في الأعلمية، فمَنْ وجد فيه منها ما هو أكثر دخالة
ص: 163
في جودة الاستنباط يكون واجدها أعلم من الآخر.
إنْ قِيلَ: إنّ هذا المعنى للأعلم ليس معنى لغوياً ولم يثبت أنّه أصبح حقيقة شرعية في المعنى الثاني فكيف تفسّر هذه الكلمة الواردة في الروايات بهذا المعنى؟
فإنّه يقال: أوّلاً: إنّه - كما يأتي - لم يتم إثبات شرط الأعلمية بالروايات عند الأكثر بل بسيرة العقلاء أو بالعقل، وما يثبت بهما شرط الأعلمية فبهذا المعنى.
وثانياً: إنّه بمناسبات الحكم والموضوع نعلم جزماً بأنّ الأعلم بمعنى كون الفقيه أكثر استحضاراً للفروع لا دخل له في ترجيح قول أحد العلماء على قول الآخر.
ولا معنى آخر مناسب له إلّا ما ذكرناه.
ثم نبدأ بذكر الأقوال في المسألة فنقول: فيها أقوال خمسة عند الإمامية:
القول الأوَّل: عدم حجيّة قول غير الأعلم مطلقاً سواء علم المكلّف بالخلاف أو لم يعلم، وسواء وافقت فتوى الأعلم الاحتياط أو خالفته. وهذا ظاهر عبارة بعض القدماء كالسيد المرتضى(1)، وهو ظاهر عبارات كثير من الأعلام من المتأخرين(2).
القول الثّاني: حجيّة قوله مطلقاً، وهو مختار جماعة من المتأخرين كصاحب الجواهر والفصول والمستند وغيرهم(3).
القول الثّالث: عدم حجيّة قوله إذا علم المكلّف اختلاف غير الأعلم مع الأعلم في
ص: 164
الفتوى، وإلّا يتخير بينهما، وذهب إليه أكثر المتأخرين(1).
القول الرابع: التفصيل بين كون فتوى غير الأعلم مطابقةً للاحتياط فيجوز الرجوع إليه وبين عدمه فلا يجوز.
القول الخامس: التفصيل أيضاً بين كون فتوى غير الأعلم مطابقةً لفتوى الأعلم من الموتى فيجوز الرجوع إليه وبين عدمها فلا يجوز(2).
وللعامّة قولان: فذهب أحمد بن حنبل، وأصحاب الشافعي، وجماعة من الأصوليين منهم، والغزالي إلى وجوب تقليد الأعلم أي عدم حجيّة قول غير الأعلم، وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين والفقهاء منهم إلى التخيير(3).
وينبغي لنا أن نلاحظ ما استند إليه أصحاب هذه الأقوال من الوجوه لنرى ما هو التام منها وما هو غير التام. وعلى فرض عدم تمامية أي قول من هذه الأقوال نذكر الأصل الذي يمكن أن يكون مرجعاً في المسألة. فالكلام يقع في مقامين:
المقام الأوَّل: في الأدلة الاجتهادية في المسألة.
المقام الثّاني: في الأصل العملي في المسألة.
أما المقام الأوَّل: فنتكلم فيه في محورين:
المحور الأوَّل: أدلة القول بعدم حجيَّة قول غير الأعلم مقابل حجّيّته مطلقاً فنجمع بين القول الأوَّل والثّالث في ذكر المستند.
ص: 165
والوجه فيه: هو أّن الوجوه التي استند إليها في كلا القولين هي نفسها، وعليه فمن الأفضل ذكرها مرّة واحدة لنرى نتيجتها، فهل تنتج القول الأوَّل، وهو عدم الحجيّة مطلقاً، أو تنتج القول الثّالث، وهو عدم الحجيّة مع علم المكلّف بوجود الأعلم وعلمه بوجود الاختلاف بينهما؟
المحور الثّاني: في بيان أدلة القول بحجّيّة فتواه مطلقاً.
ص: 166
والقائل بعدم جواز الرجوع إلى غير الأعلم ووجوب الرجوع للأعلم تمسّك بعدد من الأدلة:
إنّه لم يتحقق انعقاد الإجماع لوجود المخالف كصاحب الجواهر وصاحب الفصول والنراقي في المستند وغيرهم(2).
وفيه: إنّ مخالفة المتأخّرين لا تضر بإجماع المتقدّمين، مع إمكان تفسير عبارات بعضهم بما لا يوجب المخالفة، ويتبين هذا من مراجعة الفصول فلعلّ صاحبه لا يخالف في صورة العلم بالمخالفة بين الأعلم وغيره.
لا إجماع في المسألة لعدم تعرّض كثير من القدماء لهذه المسألة، أو عدم وصول كلامهم إلينا ومع هذا كيف يدعي وقوع الإجماع، بل حتى بعض مَن ادّعى الإجماع بالمسألة يحتمل في كلامه أنّه يدعي هذا في الإمامة العظمى لا في ما نحن فيه كما
ص: 167
احتمل صاحب الجواهر هذا الشيء في كلام السيد المرتضى (قدس سره) (1).
إلّا أنّ كلام السيد المرتضى (قدس سره) واضح في الترجيح بين المفتين بالنسبة إلى المستفتين ولا أدري كيف يأتي فيه الاحتمال المذكور، وإليك نصّ عبارته: (لا شبهة في أنّ هذه الصفات إذا كانت ليست عند المستفتين إلّا لعالم واحد في البلد لزمه استفتاؤه تعيّناً، وإن كانت لجماعة هم متساوون كان مخيّراً، وإن كان بعضهم عنده أعلم من بعض أو أورع وأدين فقد اختلفوا: فمنهم من جعله مخيّراً، ومنهم من أوجب أن يستفتي المقدّم في العلم والدين وهو أولى؛ لأنّ الثّقة ههنا أقرب وأوكد والأصول كلها بذلك شاهدة)(2).
وهذه العبارة جاءت تحت عنوان وفصل في صفة المفتي والمستفتي، وكلامه صريح في مورد البحث.
إنّه على تقديره فهو إجماع مدركي، ومدركه هو الأصل، فقيمته قيمة الأصل(3).
إنّه إجماع منقول على أحسن التقادير، وهو ليس بحجّة(4).
ممّا استند إليه القائل بعدم حجيّة قول غير الأعلم روايات دلت - حسب دعواهم - على عدم حجيّة قول غير الأعلم مع وجود الأعلم منه, وهي روايات عديدة، نذكر منها
ص: 168
ما هو أقوى وأدلّ على المدعى:
مقبولة عمر بن حنظلة، وقد رواها المشايخ الثلاثة، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) ... إلى أن قال (علیه السلام): (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر، قال: قلت: فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله ورسوله، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمَنْ ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومَنْ أخذ الشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم. قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسُنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسُنّة ووافق العامّة، قلت: جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسُنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد. فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل، حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر. قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقي إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات)(1).
ص: 169
فهي واضحة الدلالة على أنّ المرجع حين الاختلاف هو الأفقه وهي وإن كانت في باب القضاء، لكنّه يثبت ما نحن فيه بعدم القول بالفصل، أو بكون المناط في البابين واحداً، وهو الوصول إلى الواقع وعدم الخصوصية لباب القضاء(1).
وقد أورد على الاستدلال بهذه الرواية من جهات متعدّدة:
الإيراد بضعف الرواية سنداً؛ لأنّ عمر بن حنظلة لم يوثق من قبل علماء الرجال، بل ولا مدح بشيء يطمئن إليه؛ لأنّ المدح الوارد في حقه ليس بسند قوي(2) وتوثيق الشهيد الثاني له لا يفيد شيئاً؛ لأنّه اجتهاد منه (قدس سره) (3).
وأمّا قبول الأصحاب لها لم يثبت، وعلى تقدير التسليم فهو مبني على جابرية عمل الأصحاب لضعف الرواية، وهو غير مسلّم؛ لأنّه إنْ ثبت هذا فهو في عمل المتقدّمين بها لا المتأخّرين كما هو في المقام.
وأمّا ما قيل(4) في توثيقه من رواية الثقات عنه ومنهم صفوان وابن أبي عمير ففيه: أنَّ رواية غير المذكورين عنه لا تنفع، ورواية هذين عنه لم تثبت.
توضيح ذلك..
أمّا رواية صفوان عنه فادُعي أنّه روى عنه في موردين، وفي كلٍّ منهما إشكال.
روى الشيخ بسنده عن سعد بن عبد الله، عن موسى بن الحسن، عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي، عن صفوان بن يحيى، عن الحارث بن المغيرة النصري
ص: 170
وعمر بن حنظلة، عن منصور بن حازم قالوا: (كنّا نعتبر الشمس بالمدينة بالذراع، فقال لنا أبو عبد الله (علیه السلام): ألا أنبئكم بأبين من هذا؟ قالوا: بلى جعلنا الله فداك، قال: إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر إلّا أنّ بين يديها سبحة وذلك إليك فإن أنت خففت سبحتك فحين تفرغ من سبحتك، وإن أنت طولت فحين تفرغ من سبحتك)(1).
ويرد عليه أوَّلاً: أنَّ الطريق ضعيف؛ لأنّ الحسن بن الحسين تعارض فيه التوثيق والتضعيف، فإنّ النجاشي وثقه قائلاً: (كوفي ثقة كثير الرواية له كتاب مجموع النوادر)(2)، ونقل الشيخ في رجاله(3) تضعيف ابن الوليد له.
وقد يقال: إنَّ الرواية نفسها مذكورة بالكافي بسند معتبر حيث روى الكليني عن الحسين بن محمّد الأشعري، عن عبد الله بن عامر، عن علي بن مهزيار، عن فضالة ابن أيوب، عن الحسين بن عثمان، عن ابن مسكان، عن الحارث بن المغيرة وعمر بن حنظلة ومنصور بن حازم قالوا: (كنّا نقيس الشمس بالمدينة بالذراع. فقال لنا أبو عبد الله (علیه السلام) ... الخ(4).
فوجود هذه الرواية في الكافي بسند معتبر يوجب الاطمئنان بصدورها عن الإمام (علیه السلام)، وضعف طريق الشيخ فيها لا يضر اعتبارها، فيثبت أنَّ صفوان قد روى عن عمر بن حنظلة.
وفيه ما لا يخفى, فإنّ وجود الرواية بسند صحيح في الكافي لا يثبت أنّها في
ص: 171
التهذيب هي مروية صفوان عن عمر بن حنظلة، بل غاية الأمر أنَّ هذا يدل على صدور هذه الرواية، وأنّ الحسن بن الحسين اللؤلؤي لم يكذب في أصل الرواية، وأمّا إسناده للرواية إلى صفوان عن عمر بن حنظلة فهو أمر آخر لا يلزم من وجود هذه الرواية بسند آخر معتبر في الكافي، فيحتمل أنَّ هذا السند من صنعه.
وثانياً: إنّ صفوان روى الرواية المذكورة عن رواة ثلاثة وهم: الحارث بن المغيرة النصري وعمر بن حنظلة ومنصور بن حازم ووجود (عن) بين الأخيرين تصحيف عن (و) كما يشهد به كلمة - قالوا - فإنّه مسند إلى الجمع، وكذلك روى الشيخ هذه الرواية في الاستبصار بعطف منصور بن حازم على عمر بن حنظلة(1).
وحينئذ يقال: إنَّ شهادة الشيخ في حقّ صفوان أنّه لا يروي إلّا عن ثقة لا توجب وثاقة عمر بن حنظلة لاحتمال أنَّ صفوان اعتمد في هذه الرواية على الحارث بن المغيرة ومنصور بن حازم وهم من الثقات، ففرض عدم وثاقة عمر بن حنظلة لا يعدّ نقضاً لما التزم به صفوان من الرواية عن الثقات فقط؛ لأنّ وجود ثقة واحد في من روى عنهم كافٍ لما بنى عليه.
ويمكن أن يورد عليه: بأنّ رواية صفوان عن الثلاثة تنحل إلى ثلاث روايات؛ نظراً إلى أنّها على نحو العموم الاستغراقي لا المجموعي، وحينئذ روايته عن عمر بن حنظلة تنافي التزامه - على تقدير عدم وثاقته - كما هو الحال لو روى الحادثة عن كلٍّ منهم مستقلاً.
وهذا الكلام له وجه، لكن مع هذا نحن نشك في مقدار ما التزم به صفوان سعةً وضيقاً، وهل هو التزم بعدم الرواية عن غير الثقة حتى لو كان منضماً إلى غيره من
ص: 172
الثقات، أو كان التزامه بهذا يختصّ بصورة ما إذا كان غير الثقة منفرداً؟ وحينئذ لا يحصل الجزم والاطمئنان بعدم روايته عن غير الثقة حتى ولو كان منضماً إلى بعض الثقات.
وثالثاً: أنّ الشيخ روى في التهذيب رواية يبدو أنّها متحدة مع هذه الرواية وفي سندها (عن صفوان عن الحارث بن المغيرة عن عمر بن حنظلة) حيث قال الشيخ تعليقاً على الرواية السابقة عليهما: (عنه عن صفوان عن الحارث بن المغيرة عن عمر بن حنظلة قال: كنت أقيس الشمس عند أبي عبد الله (علیه السلام)، فقال يا عمر: ألا أنبك بأبين من هذا؟ قال: قلت بلى جعلت فداك. قال: إذا زالت الشمس فقد وقع الظهر إلّا أنَّ بين يديها سبحة وذلك إليك، فإن أنت خففت فحين تفرغ من سبحتك، وإن طولت فحين تفرغ من سبحتك)(1). فلاحظ تقارب اللفظ والمعنى فيبعد جداً تعددها، فهي تدل على أنَّ الرواية المذكورة سابقاً صحّف فيها (الواو) بين ابن المغيرة وابن حنظلة عن كلمة (عن) وبالنتيجة ليست هي مروية صفوان عن ابن حنظلة مباشرة ولا تصلح الأولى لمعارضة هذه لضعف طريقها.
نعم، يعارض ذلك أنّ الكليني قد روى هذه الرواية بسند معتبر عن ابن مسكان عن الحارث بن المغيرة وعمر بن حنظلة ومنصور بن حازم قالوا: (كنّا نقيس الشمس..) إلى آخر الحديث(2).
ومقتضى ذلك أنّ ابن المغيرة يروي عن أبي عبد الله (علیه السلام) مباشرة، لاسيّما مع قوله (قالوا) فإنّه يؤكد كون الرواية عن الثلاثة وإلّا لقيل (قالا).
لكنْ لا سبيل إلى ترجيح رواية ابن المغيرة مع ابن حنظلة عن الصادق (علیه السلام)، وعليه
ص: 173
فنعلم إجمالاً أنَّ هناك اشتباهاً في السند، وحينئذ لا مجال للحكم بأنّها مروية صفوان عن ابن حنظلة مباشرة.
روى الصدوق عن صفوان عن عمر بن حنظلة قال: (قلت لأبي عبد الله أتزوّج المرأة شهراً بشيء...الخ(1).
وهذا المورد تامّ بحسب ظاهر الإسناد.
لكن يلاحظ عليه: أنّ رواية واحدة لا توجب الاطمئنان بثبوت رواية صفوان عن عمر بن حنظلة، بل من المحتمل سقوط واسطة بين صفوان وبين ابن حنظلة، لاسيّما مع رواية صفوان عن عمر بن حنظلة بالواسطة في سائر الموارد وهي متعددة.
هذا، ومن المحتمل أن يكون الوسيط داود بن حصين، نظراً إلى أمور ثلاثة:
إنَّ الصدوق ذكر في مشيخته أنّ كلّ ما رواه عن عمر بن حنظلة فهو بطريق صفوان عن داود بن حصين عن عمر بن حنظلة(2).
وهذا الطريق وإن كان بالنظر إلى الروايات التي بدأها الصدوق بعمر بن حنظلة والرواية المبحوث عنها بدأها ب-(صفوان) فلا يشملها هذا الطريق، لكن هذا يقرّب احتمال أنّ روايات (ابن حنظلة) وصلت إلى صفوان بواسطة داود بن حصين.
إنّ مجموع الروايات التي رواها الصدوق في الفقيه وفي سندها عمر بن حنظلة هي ست روايات مع المبحوث عنها. ثلاث منها بدأها بعمر بن حنظلة(3)،
ص: 174
واثنتان منها بدأهما بداود بن حصين عن عمر بن حنظلة(1). ومعناه أنّ هذه الروايات الخمس طريق الصدوق فيها إلى ابن حنظلة هو بواسطة داود بن حصين، وهذا يقرّب أنّ هذه الرواية الواحدة أيضاً سقط في سندها داود بن حصين.
إنّ صفوان روى مكرّراً عن عمر بن حنظلة بواسطة داود بن حصين في غير الفقيه أيضاً كما في الكافي، والتهذيب(2).
وأيّاً كان فبالنظر إلى ذلك فلا يحصل الاطمئنان بأنّ صفوان روى في هذا المورد عن ابن حنظلة مباشرة.
وأمّا رواية محمّد بن أبي عمير عن عمر بن حنظلة فقد وقعت في مورد واحد حيث روى الصدوق في كمال الدين عن محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن أبي عمير عن عمر بن حنظلة، قال: (سمعت أبا عبد الله يقول: قبل قيام القائم خمس علامات...)(3).
لكنّه يرد عليه:
أوَّلاً: إنَّ الطريق ضعيف بالحسين بن الحسن بن أبان، فإنّه مجهول.
ويمكن أن يجاب عن هذا الإيراد: بأنَّ جهله غير ضار؛ لأنَّ الرجل من مشايخ الإجازة فقط, وليس له دور آخر, فإنَّه لا توجد له رواية عن غير الحسين بن سعيد الأهوازي فهذا يكشف عن أنّ الحسين بن الحسن بن أبان كان يجيز بكتبه, ولّما كانت كتبه معروفة فجهالته لا توجب ضعف الطريق.
ص: 175
وثانياً: إنّ هذه الرواية موجودة في غيبة النعماني عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب الخزاز عن عمر بن حنظلة(1) فهو دليل سقوط (أبي أيوب) قبل عمر بن حنظلة في سند كمال الدين.
وبهذا ظهر عدم صحة ما توهمه عبارة البحار من أنّ رواية الغيبة أيضاً رواها ابن أبي عمير عن عمر بن حنظلة مباشرة, حيث قال بعد ذكر رواية كمال الدين: (الغيبة للنعماني بسنده عن أبن أبي عمير مثله)(2).
وعلى هذا لم يثبت أنَّ ابن أبي عمير قد روى عن عمر بن حنظلة.
هذا، وهناك أمر يبعّد رواية صفوان وابن أبي عمير عن عمر بن حنظلة، وهو الفصل الطبقي بينهما حيث إنّ الرجلين من الطبقة السادسة وابن حنظلة فيما يبدو من الطبقة الرابعة، ويشهد على هذا أمور..
الأوَّل: روى صفوان وكذا ابن أبي عمير عن ابن حنظلة في جميع الموارد - ما عدا المذكورة - بالواسطة, وهم مثل: داود بن حصين, ومنصور بن حازم, وابن مسكان, وأبي أيوب الخزاز وغيرهم(3)، وهذا يقرّب أنَّ ابن حنظلة من الطبقة الرابعة, فمن البعيد رواية من هو في الطبقة السادسة عنه.
الثّاني: إنَّ جلّ من روى عن ابن حنظلة هم من الطبقة الرابعة أو الخامسة, مثل: أبي بصير الأسدي, إسماعيل الجعفي, عبد الكريم بن عمرو الخثعمي, زرارة, أبي أيوب الخزاز, موسى بن بكر, علي بن رئاب, داود بن الحصين, فيطمئن بأنّ ابن حنظلة من
ص: 176
الطبقة الرابعة.
الثّالث: رواية عمر بن حنظلة عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) .
وهذا في موارد:
منها: ما جاء في الكافي(1) بإسناد صحيح نقل الكليني واقعة عن محمّد بن مسلم وفيها: (فحمل عمر بن حنظلة إلى أبي جعفر مقالتهما).
ومنها: ما جاء في المستدرك(2) عن كتاب محمّد بن المثنى، عن جعفر بن محمّد بن شريح، عن ذريح المحاربي، عن عمر بن حنظلة عن أبي جعفر (علیه السلام): (أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مرّ على قبر قيس بن فهد...).
ومنها: ما جاء في مكارم الخلاق(3) مرسلاً، قال: (روى عمر بن حنظلة، قال: شكوت إلى أبي جعفر (علیه السلام) صداعاً...).
ومنها: ما جاء في بصائر الدرجات(4)، روى بسند فيه إرسال عن عمر بن حنظلة: قال: (قلت لأبي جعفر (علیه السلام) إنّي أظنّ أنَّ لي عندك منزلة...).
وهذه الموارد الثّلاثة الأخيرة وإنْ كان في طريقها ضعف ولكن بضمّها إلى الأوّل الذي هو طريق صحيح يتولّد الاطمئنان بأنّ عمر بن حنظلة من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (علیهما السلام) فهو من الطبقة الرابعة, فمن البعيد رواية صفوان وابن أبي عمير عنه لأنَّهما من الطبقة السّادسة، فتأمل.
ص: 177
هذا، ويمكن تحصيل الاطمئنان بصدور هذه الرواية بتجميع القرائن المتعدّدة: إمّا من جهة وثاقة ابن حنظلة، أو من جهة خصوص هذه الرواية.
منها: إنّه ورد مدحه بلسان الإمام الصادق (علیه السلام) بما هو يوجب وثاقته، حيث روى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن يزيد بن خليفة، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبو عبد لله (علیه السلام): (إذاً لا يكذب علينا)(1).
وما أشكل به على هذه الرواية من أنّه في سندها يزيد بن خليفة وهو غير موثوق، فيجاب عنه بأنّ يزيد بن خليفة وإن لم يوثق بالصراحة، لكن رواية صفوان عنه وحده كافية في توثيقه بناءً على أنّه لا يروى إلّا عن ثقة(2).
وبعد حصول الاطمئنان بوثاقة يزيد بن خليفة يثبت ما ورد في حق عمر بن حنظلة من المدح، ويزيد احتمال وثاقته.
ومنها: رواية الأجلاء عنه مثل: أبي أيوب الخزاز، وزرارة، وحريز، وابن بكير، وابن مسكان، وغيرهم(3).
ومنها: عدم ورود أي قدح في حقه مع أنّه كثير الرواية، وهذا يدل على عدم اطلاعهم منه على أمر يقدح فيه.
ومنها: قبول الأصحاب هذه الرواية كما ادّعى صاحب الجواهر(4) وغيره.
ص: 178
لكنّه في الواقع لم يثبت قبول المتقدّمين لهذه الرواية بمضمونها الكامل. نعم، عمل بها الكثيرُ في باب تعارض الأدلة، وهو يفيد بضمّه مع غيره من القرائن.
ومنها: وجود رواية تدلّ على منزلته عند الباقر (علیه السلام)، وهي مرويته قال قلت لأبي جعفر: إنّي أظن أنّ لي عندك منزلة. قال: (أجل). قال: قلت....الحديث(1). وهي وإن كانت غير معتبرة لأنّها مرسلة من جهة عدم ذكر اسم الراوي عن عمر. وأيضاً أنّ الراوي هو الناقل لمدح نفسه فلا تكفي وحدها لإثبات وثاقته. لكنّ لا بأس بجعلها مؤيّدة لما قصدنا إثباته.
والكلام نفسه فيما روى الكليني عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: (يا عمر، لا تُحمّلوا على شيعتنا، وارفقوا بهم، فإنّ الناس لا يحتملون ما تحملون)(2).
فبجميع ما تقدّم قد يحصل الاطمئنان بصدور هذه الرواية، والعمدة من هذه الأمور معتبرة يزيد بن خليفة التي تقدّم ذكرها، ولعلّه بالنظر إلى هذه الأمور وثّقه الشهيد الثاني في شرح الدراية قائلاً: (إنّ عمر بن حنظلة لم ينصّ الأصحاب عليه بجرح ولا تعديل، لكن حقّق توثيقه من محل آخر)(3).
الإيراد على هذه الرواية بأنّها تتضمّن أموراً تخالف ما هو مسلّم عند فقهاء المذهب وهي ما يلي:
1. دلّت على جواز الترافع في الواقعة الواحدة إلى الحكّام المتعددين، ولازمه جواز
ص: 179
فصل الخصومة بالحكم الصادر منهم، وهو خلاف ظاهر الأصحاب.
2. تدلّ على نفوذ حكم الحاكم الثّاني بعد صدور الحكم من الأوَّل، وهو ممّا تسالم الأصحاب على عدم صحّته، وحَمْله على صدور الحكمين معاً حملُ على الفرد النادر.
3. تدلّ على اجتماع صفات أربع، وظاهر الأصحاب الاكتفاء بالأعلمية فقط، فإذا أريد العمل بها فيجب رعاية هذه الأوصاف كلّها لا الأفقهية فقط.
4. تدلّ على لزوم نظر المترافعَين إلى مدرك الحكم من الروايات من جهة كونها موافقة للمشهور أو مخالفة له، وليس هذا من شأنهم.
5. تدلّ على أنّ كلّ واحد من الحَكَمين غافل عن معارض ما حكم به هو, وهو لا يناسب العنوان المذكور في الصدر.
6. هي ظاهرة في تقديم الترجيح من حيث صفات الراوي على الترجيح بالشهرة على الشذوذ في الرواية، مع أنَّ عمل العلماء قديماً وحديثاً على العكس.
7. مقتضى اختلافهما هو تساقط كلا القولين لا ترجيح أحدهما على الآخر(1).
وقد أُجيب أو يمكن أنْ يجاب عن هذه الأمور:
أمّا عن الأوَّل فإنّ الرواية وردت في قاضي التحكيم مع رضا الطرفين بأكثر من واحد، والحكم بالرجوع إلى قاضي التحكيم بيد الإمام (علیه السلام) واحد أو أكثر، ولا دليل يمنع من هذا.
وأمّا عن الثّاني فإنّ الرواية وردت أساساً في نظر الحَكَمين معاً في قضية واحدة لا بالتقدّم والتأخر, فلا يكون من قبيل الحمل على الفرد النادر.
ص: 180
وأمَّا عن الثّالث فإنّه عطفُ تفسيرٍ بين الصفات، فالمراد هو كونه أعدل وأصدق وأورع في الحديث والفتوى بمناسبة المقام؛ لوضوح عدم مدخلية مطلق الصدق في الفتوى، وهذا ليس غير كونه أعلم.
أقول: هذا لا يخلو عن تكلّف؛ لأنّ الأعدلية والأورعية صفتان تتعلقان بالرواية من حيث النقل والتطبيق، والأفقهية تتعلّق بها من حيث الدلالة، فلما كان كلّ واحد من الفقيهين اختير من قبل أحد المترافعين فقد يميل طبعاً كلّ واحد إلى صاحبه، ففي مثل هذا المورد كما يحتاج إلى الأفقه كذلك يحتاج إلى كونه أعدل وأورع حتى لا يتسامح في مقام التطبيق بعد فهم صحيح، فهي صفة أخرى غير الأفقهية لترجيح قول أحدهما مع الأفقهية على قول الآخر في مقام فصل النزاع ولا نحتاج إليها في مجرد الاستفتاء. فالجواب المناسب أنّ ظاهر الأصحاب من الاكتفاء بالأعلمية هو خاصّ بمقام الاستفتاء. والرواية تتعلّق بمقام فصل النزاع، فهي دلت على إعمال المرجّح العقلائي حسب المورد.
وأمّا عن الرابع فهي غير ظاهرة في إلزام المترافعين المباشرة في تشخيص الأفقه والأعدل، أو الرواية المشهورة والشاذة، بل لا تمنع من وصولهم إلى هذا ولو بواسطة من عنده خبرة بهذه الأمور، فينتهون إلى النتيجة بالرجوع إلى ثالث، فيكون مفادها أنّه مع اختلاف الفقيهين يُرجّح قول من رجّح قوله أهل الخبرة بالروايات ومعرفة الشخصيات بالرجوع إلى المرجّحات المذكورة فيها.
وأمّا عن الخامس فإنّ الكلام في مجرد فرضٍ فرضه السائل والإمام (علیه السلام) أجاب عنه
وهذا لا يستلزم شيوع وقوعه، وندرة وقوعه لا استبعاد فيه. مضافاً إلى أنّه لا يستلزم غفلتهما عن المعارض، بل يحتمل أنّ هذا مختاره من المتعارضين.
ص: 181
وأمّا عن السّادس فيمكن أنْ يجاب عنه: بأنّ المقام مختلف عن المقام الذي هو محل تسالم المشهور على تقديم الترجيح بالشهرة؛ لأنّ الثاني هو مقام الاستنباط مع وجود الأخبار المتعارضة، وما هو مورد الرواية هو اختلاف الحَكَمين في مقام الحكومة وفصل النزاع لا مجرد الإفتاء، فاختلاف المقامين اقتضى اختلاف تقديم بعض المرجحات على بعضها الآخر.
وأمّا عن السّابع فنسلّم أنّ مقتضى القاعدة هو التساقط، لكنَّ الشارع سلب الحجيّة عن قول غير الأعلم حين معارضته بقول من هو أعلم منه في مقام القضاء، فلا معارض لقول الأعلم حتى يتساقطا(1).
فتبيّن ممّا ذكر أنّه لا وجه لطرح هذه الرواية من هذه الجهة؛ إذ لا ظهور لها في أمر متسالم على بطلانه.
قد يقال، بل، قيل بعدم تمامية دلالتها على المدعى لوجهين:
إنّها دلت على الترجيح بالأفقهية في باب القضاء، ولا يصحّ التعدي إلى باب الفتوى - لأنَّهما بابان مستقلان، لكل واحد منهما أحكام خاصّة، ووجه الحاجة الى كل واحد منهما مختلف، ومقتضى أحدهما غير مقتضى الآخر - لا بوحدة المناط في البابين لأنّا لا ندركه. ولا بعدم الخصوصية؛ لأنّها محتملة جداً، وهي أنّ القضاء لا يمكن إلّا بتعيين القاضي، ولا يعقل التخيير فيه، وأنّ القاضي لا بُدّ من تعدّده؛ لعدم إمكان كفاية الواحد لجميع البلدان بخلاف المفتي. ولا بعدم القول بالفصل؛ لأنّه غير كافٍ، بل نحتاج إلى القول بعدم الفصل وهو مفقود. ولا بالتلازم العرفي في البابين، ولذا يجوز مراجعة
ص: 182
مجتهد إلى آخر في القضاء دون الفتوى. وكذلك يجوز لمجتهد أن يفتي بغير ما افتى به الأوَّل، ولا يجوز في القضاء(1).
إنّه بعد تسليم التعدي فهي لا تدلّ على وجوب الرجوع إلى الأعلم ابتداءً. بل دلت على التخيير، فيجوز أنْ يختار الاثنين من المفضولين. نعم، إذا اختلفا فيتعيّن الرجوع إلى أفقههما، لا الأفقه من جميع الفقهاء، فهو أعلم نسبي لا مطلقاً، والمطلوب هو الثاني(2).
ويمكن أنْ يقال: إنّه يصلح للجواب عن الوجه الأوَّل ما جاء في كلمات الشيخ الأنصاري (قدس سره) من دعوى أنّ المرجّحات في الرواية ليست مختصّةً بباب القضاء، بل هي في مقام الفتوى مطلقاً، والشاهد على ذلك أمور:
1. إنّ الحكم هنا بمعناه اللغوي، وهو يشمل الإفتاء كما جاء في مقام آخر: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ] ولم يثبت أنّه أصبح حقيقة شرعية في معناه الجديد وهو الحكومة والفصل في مقام النزاع.
2. قول الراوي: (كلاهما اختلفا في حديثكم) فإنّه يتبادر منه أنّه بيان للاختلاف في الفتوى، والاختلاف في الحكم نفسه ليس اختلافاً في الحديث. نعم، الاختلاف في الفتوى اختلاف في الحديث.
3. قول الإمام (علیه السلام): (الحُكمُ ما حَكَم به أصدقهما في الحديث) فإنّ صدق الحديث إنّما يناسب أنْ يكون مرجّحاً للفتوى التي هي بمنزلة الحديث دون القضاء، وكون المورد مورد المنازعة لا يستلزم أنْ يكون المراد هو القضاء؛ لأنّ النزاع ربما ينشأ من جهة
ص: 183
الاشتباه في الحكم، والظاهر أنّ نزاع الرجلين من هذا القبيل، وإلّا لما كانت الحاجة إلى اختيار رجلين؛ لأنّ فصل الخصومة يحصل بحكم واحد.
4. قوله (علیه السلام): (ينظر إلى ما كان من رواياتهم عنّا في ذلك الذي حكم به المُجمع عليه عند أصحابك) لا يناسب تعارض الحكم المصطلح لوجهين:
أحدهما: أنّه ليس من شغل المترافعين النظر في مدرك الحَكَمَين، والاجتهاد في ترجيح أحدهما على الآخر إجماعاً.
والآخر: إذا تعارض حكمان ولا يكون لأحدهما مزيّة فالحكم للأسبق، بل لا يبقى للثّاني مجال، ومع صدورهما معاً يتساقطان(1).
أقول: المحاولة غير تامّة لعدم صلاحية الشواهد للشهادة على المدعى وذلك:
أمّا الأوَّل ففيه: أنّ كلمة (الحكم) وإن سلّمنا عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فيها، لكن توجد في المقام قرائن تعيّن معناه المصطلح عليه:
منها: استعمال كلمة التحاكم في الرواية، والحكم المترتب على التحاكم هو بهذا المعنى لا الفتوى.
ومنها: قوله (علیه السلام): (فليرضوا به حَكَماً)، ولم يقل مفتياً والحكم الصادر من الحَكَم ليس هو مجرد فتوى.
ومنها: قوله (علیه السلام): (فإنّي جعلته عليكم حاكماً).
ومنها: أنّ موردها التنازع ثم الترافع، وهو ظاهر في أنّ الحكم هو تحديد ما يفصل به النزاع.
ص: 184
ومنها: تعيين الفقيهين معاً للنظر في القضية، فإنّه لا يناسب إلا القضاء؛ لأنّه لا معنى للاستفتاء من فقيهين معاً.
أمّا الثّاني ففيه: إنّه ليس الاختلاف في الفتوى فقط هو الذي قد يرجع إلى الاختلاف في الحديث، بل الاختلاف في الحكم أيضاً قد يكون مرجعه الاختلاف في الحديث، فحتى لو سلّمنا بأنّه كان اختلاف الفقيهين في الفتوى فتبقى خصوصيّة كونه في مقام فصل الخصومة لا مطلقاً.
وأمّا الثّالث ففيه: إنّ كون الفقيه أصدق في الحديث كما يناسب الترجيح في الفتوى كذلك يناسب الترجيح في القضاء؛ لأنّه أيضاً يسند ما حكم به إلى الكتاب والسُنّة. هذا إذا كان المراد هو كونه أصدق في مطلق الكلام. وأمّا إذا كان المراد في الروايات بالخصوص فهو أيضاً لا يختص بالفتوى كما لا يخفى.
وأمّا الرابع ففي وجهه الأوَّل أنّ السؤال يتوجه حتى على الاحتمال الثّاني فيقال: إنّه إذا كان في الاختلاف في الفتوى فأيضاً ليس من شأن المستفتين الاجتهاد في المرجحات. وفي وجهه الثاني ما تقدّم من أنّ مقتضى القاعدة وإن كان هو التساقط، لكنّ الشارع لم يعتبر حكم غير الأفقه معارضاً لحكم الأفقه في مقام حسم النزاع بخصوصه.
فالمحصّل: إنّه من الصعوبة جداً تجريد الرواية عن مورد القضاء، وعلى تقدير التسليم فخصوصية الفتوى في حلّ التنازع محفوظة.
والإنصاف بعد كل هذا أنّ المترافعين وإنْ رجعوا إلى الفقيهين لفصل الحكومة والحكم في حقّ أحدهما، ولكن قول الراوي - وكلاهما اختلف في حديثكم - ظاهر في أنّ منشأ الاختلاف في الحكم بينهما هو اختلافهما في الفتوى - أي الحكم الكلي - فالمرجّحات المذكورة هي مرجّحات لفتوى أحدهما على فتوى الآخر، لكنّها في مقام حسم النزاع لا
ص: 185
مطلقاً. ولا يتم ما ذكر من طرق التعميم لمطلق الفتوى؛ لأنّ حجية الفتوى في هذا المقام قد يقال بأنّها تستلزم حجيتها مطلقاً، لكن عدم حجية فتوى المفضول هنا لا تستلزم عدمها مطلقاً لعدم معقولية التخيير في المقام ومعقوليته في غيره. فإن حصل الاطمئنان بعدم خصوصية مقام القضاء تعمّ المقبولة لمقام الفتوى مطلقاً، وإلّا فلا يمكن التمسّك بها فيما نحن فيه.
ويمكن أن يقال: إنّ الذي يبعّد التفريق بين المقامين هو أنّ رجوع المكلّف إلى المفضول في مسائل العقود والحقوق والقروض - التي يقع التنازع فيها غالباً - مع علمه بالاختلاف بينه وبين الأعلم منه في هذه المسائل إذا كان في حال التنازع مع شخص آخر لا يجوز لأنّه لا تكون فتواه حجّة في حقه. وأمّا إذا لم يكن في هذا الحال فيجوز له أنْ يعمل بفتواه، فكيف يعقل أنّ الفتوى الواحدة حجّة ومبرئة للذمة في حالٍ، وليس كذلك في حالٍ آخر بالنسبة إلى مكلّف واحد! وعليه فقد يقال إنّ التفريق بين المقامين ليس من المتفاهم العرفي من النصّ.
وأمّا الوجه الثّاني فيمكن الجواب عنه بأنّ المقصود من كلام الإمام (علیه السلام) هو التقديم بمناط الأفقهية مع العلم بالاختلاف مع قطع النظر عمّن أفتى في الأمر أ هما اثنان أو أكثر؟ وإنْ كان المفروض في الرواية هو التحاكم إلى الاثنين والعلم بالاختلاف بينهما كما يدلّ عليه قوله (علیه السلام): (خذ بما حكم به أفقههما) ولكن ليس للعدد خصوصيّة، فلو فرض في الرواية ثلاثة حكّام أو أكثر واختلفوا بينهم كان الحكم هو نفسه. هذا هو المتفاهم العرفي من كلام الإمام (علیه السلام) .
ثم على تقدير تسليم عمومية المقبولة للمورد فهي لا تثبت عدم حجيّة قول غير الأفقه مطلقاً، بل على تقدير العلم بوجود الأفقه والعلم بوجود الاختلاف بينهما، وعلى
ص: 186
هذا فهي على فرض تماميتها دليل على القول الثّالث لا الأوَّل، بل صدرها ظاهر في حجيّة قول كل فقيه في حدّ نفسه مع قطع النظر عن طروء هذه الحالة، كما سيأتي في أدلة الطرف الآخر.
روى الشيخ الصدوق (قدس سره) عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله (علیه السلام): (في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف، فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما، عن قول أيهما يمضي الحكم؟ قال (علیه السلام): ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر)(1).
ذكر الشيخ في التهذيب بإسناده عن موسى بن أكيل عن أبي عبد الله (علیه السلام) مثل ما تقدّم في الثانية مع فارق بسيط، وبدون ذكر صفة الأورع(2).
ورواية التهذيب ضعيفة السند؛ لأنّ الشيخ رواها بسنده عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن الحسين، عن ذبيان بن حكيم الأودي، عن موسى بن أكيل النميري عن أبي عبد الله (علیه السلام) .
وذبيان بن حكيم لم يوثّق، بل قال ابن الغضائري في حقه: (وذُكر أنّ أمره مختلط)(3).
وكذلك يمكن أنْ يناقش في سند رواية الفقيه من جهتين:
وهو لم يوثّق في الكتب الرجالية.
ويمكن الإجابة عنه: بأنّ الحكم بن مسكين وإنْ لم يوثّق في الكتب الرجالية لكن روى عنه البزنطي وابن أبي عمير(1) وروايتهما عن شخص دليل وثاقته، فعلى هذا المبنى يمكن إثبات وثاقته.
لو سلّمنا أنّ طريق الصدوق إلى داود بن الحصين صحيح، لكنّه لا يشمل هذه الرواية؛ لأنّ الصدوق رواها بلفظ روي عن ابن داود، ولا نعلم بشمول طرق الصدوق في المشيخة لأمثال هذه الروايات كما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) (2).
وقد أجاب عن هذا الإشكال سيدنا الأستاذ (دامت افاداته) بأنّ الدليل القطعي قام على شمول طرق الصدوق في المشيخة لمثل هذه الروايات المروية في الفقيه، وهو أنّ جملة ممّن ذَكر طرقَه إليهم في المشيخة هم أشخاص لم يبتدئ بأسمائهم في الفقيه إلّا باللفظ المذكور - أي روي عن فلان - ثُمَّ ذكر (دامت افاداته) أسماءهم بالتفصيل فيمكن مراجعة كلامه في بحوثه(3).
فعلى هذا لا إشكال في رواية الفقيه من حيث السند.
وأمّا من حيث الدلالة فوجهها فيها هو وجه الدلالة في الأولى والإيرادات هي الإيرادات، فإنْ قلنا بتماميتها تمت هنا وإلّا فلا. وهذا بالنسبة إلى الوجه الأوَّل في تقريب الدلالة وهو البناء على التعميم بوحدة المناط، أو إلغاء الخصوصية بعد القبول بأنّها في مقام القضاء والحكومة.
ص: 188
وأمّا بناءً على أنّ مقبولة ابن حنظلة يُستظهر منها - بقرائن تقدمت الإشارة إليها - أنّها ناظرة إلى الاختلاف في الفتوى في مورد النزاع فحينئذٍ تكون هي بمفردها دالة على المدعى. ولا يأتي هذا الوجه في الثانية والثالثة؛ لعدم وجود قرائن فيها تدل على أأنّ الاختلاف بين الفقيهين هو اختلاف في الفتوى، بل ظاهرهما أنّه اختلاف في الحكم، لقرائن..
منها: اتفاقهم على عدلين، فإنّه يقع عادة في محل الفصل وحسم النزاع.
ومنها: قول السائل: (حكم أيّهما يمضي)، ولم يعبّر عنه قول أيّهما يصح أو يؤخذ.
ومنها: قول الإمام (علیه السلام) (فينفذ حكمه)، فهذه الكلمة ظاهرة في مقام القضاء.
وحيث لم يتمّ الوجه الأوَّل عندنا فلا تصلح الأخيرتان للاستدلال على المدعى.
نعم، دعوى الملازمة العرفية بين المقامين يمكن تعميمها للمورد كما تقدّم في المقبولة.
وهناك مجموعة أخرى من الروايات استدل بها على المدعى، لكن أكثرها ضعيفة السند، وهي ظاهرة: إمّا في الولاية والحكومة، وإمّا في القضاء، وإمّا في التصدي للإمامة الكبرى قبال الإمام المعصوم (علیه السلام) . ولوضوح عدم تماميتها مستنداً للدعوى لا نطيل الكلام بذكرها وذكر ما فيها.
نعم، قد يدعى تماميّة ما رواه الكليني - سنداً ودلالةً - عن العيص بن القاسم، عن الصادق (علیه السلام) حيث قال: (عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وانظروا لأنفسكم فوالله إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيئ بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها..)(1).
ص: 189
وهذه الرواية وإنْ كانت معتبرة سنداً؛ لأنّ الكليني رواها عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن العيص بن القاسم، عن الصادق (علیه السلام) وكلهم ثقاة، لكنّها غير تامة الدلالة؛ لأنّه بالنظر إلى مجموع ما ورد فيها يتبيّن أنّها في مقام خاصّ، وهو أنّه إذا خرج شخص يدعو إلى نفسه وهناك من هو أعلم منه فلا يجوز الخروج معه بترك من هو أعلم منه فهي أيضاً: إمّا في الإمامة الكبرى بخصوصها، أو في مطلق الرئاسة والحكومة ولا علاقة لها بالفتوى، كما لا يخفى.
ممّا استدل به على وجوب الرجوع إلى الأعلم هو أنّ فتواه أقرب إلى الواقع، فيجب إتباعه؛ لأنّ المطلوب في العمل بفتوى الفقيه هو الوصول إلى الواقع، فكما أنّ المجتهد نفسه يتبع أقوى الأمارتين حين التعارض بينهما، فكذلك على المكلّف العامّي إذا وقع التعارض في فتوى الفقيهين؛ لأنّ فتوى المجتهد بمنزلة الأمارة عند المكلّف(1).
وقد نوقش في هذا الدليل من حيث الصغرى والكبرى من قبل غير واحد من الأعلام.
أمّا من حيث الصغرى فإنّ فتوى غير الأعلم قد تكون أقرب إلى الواقع من فتوى الأعلم إذا وافقت فتوى الأعلم الميت، أو الاحتياط، أو جماعة من الفقهاء من المعاصرين، أو المشهور.
وأمّا من حيث الكبرى:
فأوَّلاً: إنّ مطلق الأقربية إلى الواقع لم يقم الدليل على كونها من المرجّحات، لأنّها لا تعدو الظن، ومناط جواز التقليد ليس هو الظن، بل هو تعبّد بأمر الشارع وإنْ كان
ص: 190
على نحو الطريقية كحجيّة البيّنة وغيرها من الطرق التي تثبت حجيّتها بالشرع تعبّداً، فكما لم يكن المطلوب هو الواقع بما هو هو بل بطريق خاص يوصل إليه، فكذلك مع تعارض الحجّتين ليس المناط في المرجّح مطلق الأقربية، بل المرجّحات الخاصة الثابتة بالدليل تعبّداً، كما هو الحال في الأمارات على الموضوعات.
وثانياً: إنّ مدارك الفتوى ليست هي الأدلة الاجتهادية دائماً، بل قد تكون بالأصول العملية، فالدليل مع عدم تماميته يكون أخصّ من المدعى(1).
والمناقشة الأولى في الكبرى يمكن أنْ يجاب عنها:
أوَّلاً: إنّ عدم مدخلية الأقربية إلى الواقع ينافي طريقيّة الحجّة.
وثانياً: إنّ عمدة الأدلة على وجوب الرجوع إلى الأعلم هو سيرة العقلاء كما اعترف بعض القائلين به، والعقلاء يرجّحون قول الأعلم في بقية المجالات من جهة أنّه أقرب إلى الواقع لا من جهة أنّ لقوله موضوعيّة، فكذلك في المقام.
لكن لا يخفى ما فيهما:
أما في الأوَّل فلم ينكر أحد مدخليّة الأقربيّة إلى الواقع في حجيّة الحجّة، أو ترجيح إحداهما على الأخرى في الجملة، لكنّ الكلام في مطلق الأقربية إلى الواقع بأي طريق حصلت، بمعنى أنّها تكون مناطاً من دون الحاجة إلى أمر آخر.
وأمّا في الثّاني فأوَّلاً: هو رجوع إلى السيرة العقلائية، فإنْ تمت فتكون هي المرجع لا الأقربية إلى الواقع.
وثانياً: إنّه لا ملازمة بين رجوعهم في الأمور العملية الأخرى إلى ما هو أقرب إلى الواقع وبين الأحكام الشرعية؛ لأنّ العقلاء إذا وجدوا باباً مفتوحاً إلى الواقع يمكن
ص: 191
الإشراف منه عليه تجدهم يسلكون كلّ ما هو أقرب إلى ذلك الواقع. ولا يُقاس هذا على مِثل المقام، لأنّه لا يمكن الاطلاع على الواقع، بل مجرد تعبّد بالطرق المرسومة من قبل الشارع وإن كان الكاشف عنها بناء العقلاء أو غيره.
والصحيح في الجواب - والله العالم -: إنّ فتوى كل من الأعلم وغيره وإنْ كانت حجّة لشمول إطلاق أدلة التقليد لهما، لكن مع وجود الاختلاف بينهما يحتمل:
إمّا بقاء حجيّة فتوى غير الأعلم فيتخيّر بينها وبين فتوى الأعلم.
وإمّا ارتفاع حجيّتها فيتعيّن الرجوع إلى الأعلم. وإثبات أحد الأمرين يحتاج إلى دليل شرعي، ومجرد كون فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع لم يثبت من الشرع أنّها من المرجّحات حيث لم يكلِّف الشارع بتحصيل الواقع كيفما كان، بل المكلَّف كُلّف بما يكون معذوراً به عند الله حصَّل الواقع أم لا.
ولا يمكن أنْ يقال في مناقشة هذا الدليل: بأنّه لا يتيسر الاطلاع على الواقع في كثير من موارد الرجوع إلى أهل الخبرة التي لا يظهر فيها آثار الواقع، فلا يُعلم كميّة موارد الإصابة بلحاظها، فحينئذ لا وجه للاستناد إلى أقربية قول الأعلم إلى الواقع في ترجيحه على قول غيره؛ لأنّ احتمال الأقربية إلى الواقع ينشأ من نفس كون أحدهما اعلم من الآخر وأكثر خبرة منه، لا بعد الاطلاع المتكرر على إصابة أقواله الواقع. وهذا الاحتمال يحصل حتى في مورد يكون باب الاطلاع على الواقع فيه مسدوداً.
نعم، يكون الفارق من جهة أخرى وهي أنّه قد يتزلزل احتمال الأقربية إلى الواقع فيما إذا كان الاطلاع على الواقع ممكناً وقد ظهرت علائم عدم إصابة رأي الأعلم الواقع فيبحثون عن السبل المقرّبة إلى الواقع.
ص: 192
الدليل الرابع: السيرة العقلائية.
ادّعى القائل بوجوب تقليد الأعلم على أنّ سيرة العقلاء قائمة في مختلف مجالاتهم وشؤونهم على الرجوع إلى الأعلم إذا علموا باختلاف الرأي بين علماء هذا المجال، ويمكن الاطلاع على هذه السيرة في مجال الطب والهندسة وغيرهما من الفنون والعلوم، وهذه السيرة لم يردع عنها من قبل الشارع فيثبت إمضاؤهُ لها، وهذا واضح جداً إذا كان رأي الأعلم موافقاً للاحتياط. وأما إذا كان مخالفاً فقد يتخيّر بينه وبين العمل برأي المفضول، لكن العمل برأيه يكون من باب العمل بالاحتياط لا من باب حجيّة رأيه(1).
وقد نوقشت دعوى هذه السيرة من عدة جهات، فتارة من جهة أصل وجودها، وثانية من جهة إطلاقها، وثالثة من جهة استلزامها الوجوب.
أمّا من الجهة الأولى فقد قيل: إنّ العقلاء يرجعون إلى أهل الخبرة لا تعبّداً، بل من حيث يحصل لهم الوثوق بقولهم، فإذا حصل الوثوق بقول الأعلم عملوا به، وإذا حصل لهم الوثوق بقول غيره عملوا به، وإذا لم يحصل بقول أحدهما عملوا بالاحتياط مع الإمكان، وإلّا فبأقوى الاحتمالين، ووضّحوا هذا بمثالين:
أوَّلهما: إذا شخّص الطبيب الأفضل ضرورة عمل جراحي لمريض قائلاً إنْ لم يؤتَ
بهذا العمل وقع المريض في خطر الموت، وشخّص الطبيب المفضول بخلافه قائلاً إنّه في هذا العمل خطر عظيم يسبّب هلاك المريض، فهل ترى أنّ العقلاء يتّبعون هنا قول الأفضل إتباع الأعمى! وكذلك في صورة العكس.
ثانيهما: إذا قصدوا معرفة قيمة دار أو جوهرة فقوّمها المقوّم الأفضل بثمن قليل
ص: 193
وقوّمها غيره بثمن كثير، فهل ترى أنّ العقلاء في هذه الصورة يعملون بقول الأفضل بلا تأمل وتريّث! وكذلك في عكس هذه الصورة، أفلا تراهم أنّهم يعتمدون على الوثوق والاطمئنان بأيّ رأي حصل وإن كان صادراً من المفضول(1).
ويمكن الإجابة عنه: بأنّ رجوع العقلاء إلى أهل الخبرة من جهة الوثوق لا ينافي استقرار بنائهم على الأخذ من الأعلم، لأنّه إذا اختلف غير الأعلم مع الأعلم في الرأي فإنْ حصل الوثوق بقول أحدهما فهو بقول الأعلم مع فرض عدم وجود أمر زائد على قول أحدهما يوجب سلب الوثوق من قوله. نعم، قد لا يحصل الوثوق بقول كل واحد منهما فيتحرّون الأمر لأجل الوصول إلى الوثوق ولو بمراجعة أقوال الآخرين.
ويمكن أنْ نمثّل لذلك: بأنّه إذا أمر المولى عبده بأمور وقال له: إذا خفيت عليك طريقة إتيان المأمور به اسأل أحد أبنائي. وهم أربعة، وكل واحد من شأنه أنْ يفسّر أوامر والده، فيجوز للعبد أنْ يراجع أي واحد منهم، لكنّه إذا علم بأنّ رأي الأكبر من الأولاد في أمر معين يخالف رأي الإخوة الباقين، وكان أكثر مهارة وممارسة وتجربة وأعلم بمرادات والدهم، فهل يجوز عند العقلاء للعبد أنْ يكتفي بقول الأكبر ويترك الصغار!! الظاهر أنّه معذور إذا امتثل أمر الأكبر وكان مخالفاً للواقع؛ لأنّ العقلاء لا يوجبون عليه أنْ يتحرّى الأمر ولو بالمراجعة إلى الآخرين من أولاده أو غيرهم من العقلاء، إلّا إذا وجد هناك أمراً أوجب سلب الوثوق بقول أكبر أولاده، فحينئذٍ يجب عليه أن يتحرّى الأمر وليس مجرد مخالفة المفضول للأفضل بالتي توجب سلب الوثوق به.
لكن هذا فيما إذا أمكن الاطلاع على الواقع والتحرّي في الحصول عليه، وهذا لا يأتي فيما نحن فيه؛ لأنّا نعلم جزماً إمّا بحجية قول كل واحد منهما، وإمّا بقول الأعلم
ص: 194
بخصوصه، وليس المطلوب هو تحصيل الواقع، ومع هذا لا يكون هناك مجال لترك كلا القولين فحينئذ يتعيّن الرجوع حسب بنائهم على أخذ قول من يحصل الوثوق بقوله، وحصول الوثوق بقول المفضول دون قول الفاضل يعتبر ضرباً من الخلل في السلوك، وإذا حصل الوثوق بقوله لأمر آخر مثل موافقة الاحتياط فيكون الوثوق به لا من قوله من حيث إنّه قوله. والمثالان المذكوران أيضاً لا ينفيان ما أُريد إثباته بالسيرة وهو عدم جواز الرجوع إلى رأي المفضول من حيث إنّه رأيه حين المخالفة.
وأمّا أنّه يجب الاكتفاء بمجرد رأي الأعلم فلا ندعيه على الإطلاق؛ لأنّه قد يعلم أنّ الغرض هو تحصيل الواقع؛ لأنّه مهم جداً، والوصول إلى الواقع ممكن، أو لا يحصل الوثوق بقول الأعلم من دون التحري في الأمر أكثر من مجرد الرجوع إلى قول الأعلم، فلا يُكتفى بالظن.
وبتعبير آخر: لا ندعي وجود السيرة على الاكتفاء بقول الأعلم مطلقاً، غاية الأمر أنّ المثالين يثبتان أنّ العقلاء قد لا يجوّزون الاكتفاء بقول الأعلم في بعض الموارد، والقائل بالسيرة ليس مهمته إثباتها، لأنّ مهمته هو إثبات عدم بناء العقلاء على الاكتفاء بقول المفضول، ولا ينفيه المثالان. وقد يقال بخروجهما عن محل البحث، لأنّ محل الكلام هو بعد الفراغ عن جواز الرجوع إلى الأعلم، والشك في جواز الرجوع إلى غيره وعدمه.
ولذا نقول في الجواب: إنّ مناط الحجّية في السيرة هو الوثوق، وهو يحصل بقول الأعلم دائماً إذا نظرنا إلى قولهما فيكون العمل بقوله معذِّراً، والعمل بالاحتياط أو التحرّي في المسألة يكون حسناً لا واجباً، فالموارد التي نرى فيها عدم اكتفائهم بقول الأعلم هي التي لم يحصل لهم الوثوق بقوله، وعلمنا في موردٍ ما أنّ المطلوب هنا هو
ص: 195
تحقيق الواقع ولو بالعمل بالاحتياط.
وأمّا الجهة الثّانية فقد قيل بأنّ العقلاء وإنْ كانوا يبنون على الرجوع إلى الأعلم، لكن لا مطلقاً بل بحدود معينة، وهي:
أوَّلاً: إذا علموا بوجود الأعلم لا مطلقاً.
ثانياً: إذا علموا بالاختلاف بينهما لا بمجرد احتمال المخالفة.
ثالثاً: أنْ لا يكون الرجوع إلى الأعلم حرجيّاً؛ ولذا يكتفون بأعلم بلدهم ولا يبحثون عن اعلم زمانه، مع العلم الإجمالي بالمخالفة.
وأمّا الجهة الثالثة فقد قيل: إنّ السيرة وإن كانت موجودة لكنّها لا على نحو الإلزام والوجوب، بل على نحو الحسن والاستحباب.
والدليل على هذا: إنّهم يخالفون هذه السيرة بمجرد أعذار بسيطة لا تصلح للعذر لو كان العمل بها واجباً، فمقبولية هذه الأعذار منهم تكشف عن عدم وجوب العمل على طبق رأي الأعلم. نعم، هو حسن بلا إشكال فيه(1).
وأجيب عنه: إنّ هذا قد يوجد في الأغراض الشخصيّة غير المهمّة، وأمّا في الأغراض المولوية فالعقلاء لا يسوّغون مخالفة رأي الأعلم إلّا بعذر يسقط الوجوب به(2).
والصحيح في الجواب: ما ذكر من أنّ هذه الأعذار البسيطة تُقبل حتى في الأغراض المهمّة والأغراض المولويّة لكن فيما إذا لم يعلم بالمخالفة بين الأعلم وغيره، لأنّ الرجوع إلى الأعلم بدون العلم بالمخالفة حسن أيضاً(3).
ص: 196
أمّا بعد العلم بالمخالفة فالرجوع إلى غير الأعلم يعتبر من التقصير عند العقلاء، إلّا إذا كان الغرض غير مهم جداً بحيث لا يُعتنى به وهو خارج عن محل البحث.
وقد يقال أيضاً: إنّ هذه السيرة مردوع عنها بإطلاقات أدلة التقليد فلا تكون حجّة، فيثبت جواز التخيير.
ويمكن أن يجاب عنه: أوَّلاً: إنّه - كما سيأتي - لم يتم إطلاق أيّ دليل من أدلة التقليد يشمل محل البحث.
وثانياً: لو سلّمنا ذلك فتكون السيرة هي التي تُقَدَّم وتقيّد الإطلاق، لأنّ السيرة لا يردع عنها بالإطلاق بل ردعها يحتاج إلى تصريح؛ لأنّ الإطلاق رأساً يحمل على غير مورد السيرة إذا كانت منافية له.
والسر فيه: إنّ السيرة تصلح قرينة على تقييد الإطلاق، والقرينة دائماً تقدّم على ذي القرينة.
فتحصّل ممّا تقدم من البحث: إنّه لا دليل على عدم حجيّة قول غير الأعلم غير المقبولة على بعض الوجوه المؤيدة ببعض روايات أخرى، وغير السيرة العقلائية، لكنّها لا مطلقاً، بل مقيّدة بوجود العلم بالخلاف لا بمجرد الاحتمال، وبعدم الكلفة والمشقة في الرجوع إلى الأعلم التي تعتبر عذراً عرفاً، ولذا يكتفون عادة بأعلم أهل بلدهم سواء كان الغرض مهماً شخصياً أو مولوياً أو غير مهم، وبعدم وجود ما يدلّ على أنّ المطلوب هو الواقع على كل تقدير، وبعدم وجود ما يسلب الوثوق من رأي الأعلم، وهذا هو الكلام في المحور الأوَّل من المقام الأوَّل.
ص: 197
وهو ثلاث آيات..
الأولى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(1).
وجه الدلالة: إنّها تدل على مطلوبية رجوع الجاهل إلى كل من صدق عليه أنّه من أهل الذكر سواء تعدد أو كان واحداً، وعلى تقدير التعدد سواء كان أعلم من الآخر أو دونه في العلم لاسيّما بالنظر إلى أن الحالة العامة هي الاختلاف في الفضل، فهي بإطلاقها دلت على جواز الرجوع إلى المفضول، وهي وإنْ فُسرّ أهل الذكر فيها في التفسير الروائي بأهل البيت (علیهم السلام) لكنّه من باب الجري والتطبيق من حيث إنّهم أبرز مصاديق أهل الذكر(2).
وقد نوقش الاستدلال بهذه الآية - مضافاً إلى عدم تماميّة دلالتها على أصل مشروعية التقليد؛ نظراً إلى أنّها في أهل الكتاب كما يشهد به السياق، أو في أهل البيت بالخصوص كما تفسرها الروايات بأنّ المراد من الذكر هو الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، فلا يشمل أهله غيرهم (علیهم السلام) - بأنّها أوَّلاً: هي في أصول الدين لا في فروعه.
وثانياً: إنّه لو سُلّمت دلالتها على وجوب أصل التقليد فهي لا تتجاوز الدلالة على أصل وجوب رجوع الجاهل إلى العالم، فهي غير ناظرة إلى حالات طارئة لهذه المسألة
ص: 198
حتى ينعقد لها الإطلاق.
وبتعبير آخر: هي في مقام بيان أصل مشروعية تقليد الجاهل للعالم لا أكثر من هذا(1).
أقول: والصحيح في الجواب هو ما ذكر ثانياً من أنّ الآية لا تعدو من أنّها إرشاد إلى ما هو مرتكز في أذهان العقلاء من لزوم الرجوع إلى العالم، فلا تحمل معنى جديداً حتى نقول بإطلاقها، فهي لا تتجاوز ما هو المرتكز عند العقلاء وقد تقدم بيانه(2).
وأمّا ما قيل باختصاصها بأهل الكتاب، أو بأهل البيت (علیهم السلام) ففيه: أنَّه لا داعي لتقييد مفهومها بهما(3).
نعم، قد يتعيّن المصداق بحسب مورد الحاجة في رجوع الجاهل إلى العالم.
وأمّا ما قيل باختصاصها بالعقائد ففيه: إنّه إن ثبتت حجّية قول غير الأعلم مطلقاً بالعقائد فلا ينكر أحد حجّية قوله في الفروع. نعم، لا ملازمة في العكس.
الثّانية: آية الكتمان [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ](4).
الثّالثة: آية النفر [فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ](5).
ووجه دلالتهما على المدعى هو: إنّه يحرم على العلماء كتمان ما أنزل مطلقاً بمقتضى
ص: 199
آية الكتمان ولم يقيّد بعدم وجود من هو أعلم منهم، وهذا يستلزم حجيّة قولهم مطلقاً؛ إذ لو لم يكن حجّة لم يكن في البيان ثمّة فائدة.
وكذلك آية النفر أوجبت الإنذار على الفقهاء ولم تقيّده بالقيد المذكور فيجب على المكلّفين الحذر عند إنذارهم من أي فقيه وإلّا يلزم لغوية الإنذار، وهذا هو معنى حجيّة قول الفقيه مطلقاً(1).
وقد أجيب عنهما: بأنّهما وإنْ دلتا على وجوب الرجوع إلى كل واحدٍ واحد عيناً على سبيل العام الأصولي، فيستفاد منهما أنّ كل واحد من العلماء قوله حجّة شأنية لولا المعارض وأمّا معه فلا دلالة فيهما على ذلك؛ لأنّ دخول المتعارضين معاً تحتهما ممتنع، ودخول أحدهما لا بعينه - أي على نحو التخيير - لا دليل عليه؛ لأنّ مفاد الأدلة إنّما هو الحجّة التعيينية، وتعيّن أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، فمقتضى القاعدة هو التساقط في كلا القولين لا التخيير بينهما، بل التخيير يحتاج إلى دليل خاصّ كالأخبار العلاجية وهي مختصّة بالخبرين المتعارضين فلا تشمل تعارض الفتاوى(2).
أقول: لم تتحقّق دلالتهما على جواز الرجوع إلى كل من صدق عليه أنّه من العلماء أو الفقهاء على نحو العموم تعبّداً:
أمّا آية الكتمان فلأنّها دلّت على حرمة كتمان الحق للعالم به، ولا يستلزم هذا وجوب أخذ السامع بقوله تعبّداً لا عقلاً ولا عرفاً؛ لأنّ فائدة إظهار الحق لا تنحصر في أخذ غيرِه قولَه تعبّداً فهي قاصرة الدلالة على أصل وجوب التقليد، فضلاً عن إطلاقه.
ص: 200
وأمّا آية النفر فهي وإنْ دلّت على وجوب الحذر بعد سماع الإنذار، لكن ليس معنى الحذر هو أخذ قول المنذِر تعبّداً، بل يتحقّق الحذر بالاحتياط، أو بالرجوع إلى الأعلم منه في هذه المسألة، أو بأخذ قول من يحصل الوثوق بقوله، ولا نعلم صدق الحذر على الأخذ بقول غير الأعلم مع الاختلاف في الفتوى، بل لعل مقتضى الحذر هو ترك قوله والأخذ بقول الأعلم، أو العمل بالاحتياط.
وبهذا يتبيّن عدم تمامية الاستدلال على المدعى بالكتاب.
وهي طائفتان:
هي التي تتضمن إرجاع الأئمة (علیهم السلام) شيعتهم إلى أحد أصحابهم، وهي كثيرة، نذكر بعضاً منها:
1. ذكر الكشي بإسناده إلى الحسن بن علي بن يقطين قال: قلت لأبي الحسن الرضا (علیه السلام): جعلت فداك أنّي لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما احتاج إليه من معالم ديني أَ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: (نعم)(1).
2. روى الكشي بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) أنّه ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلُّ ما يسألني عنه؟ قال: (فما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي، فإنّه قد سمع من أبي وكان عنده وجيهاً)(2).
ص: 201
3. روى الكشي بإسناده عن المفضّل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: (فإذا أردت بحديثنا فعليك بهذا الجالس) وأومئ إلى رجل من أصحابه، فسألت أصحابنا عنه؟ فقالوا: زرارة بن أعين(1).
4. وروى الكشي بسنده عن علي بن المسيّب الهمداني قال: قلت للرضا (علیه السلام) شُقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت فممّن آخذ معالم ديني؟ قال: (من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا). قال علي بن المسيّب: فلما انصرفت قدمنا على زكريا ابن ادم فسألته عمّا احتجت إليه(2).
5. وروى بسنده عن شعيب العقرقوفي قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمَنْ نسأل؟ قال: (عليك بالأسدي). يعني أبا بصير(3).
6. روى الكليني بسنده عن أحمد بن إسحاق قال: سمعت أبا الحسن (علیه السلام) وقلت من أعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال: (العمري ثقتي فما أدّى إليك عني فعني يؤدّي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع فإنّه الثّقة المأمون)(4).
7. ورد في صحيحة سليمان بن خالد الأقطع قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: (ما أجد أحداً أحيا ذكرنا وأحاديث أبي إلّا زرارة وأبو بصير ليث المرادي ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حفّاظ الدين وأمناء أبي على حلال الله وحرامه وهم السابقون إلينا في الدنيا والسابقون في
ص: 202
الآخرة)(1).
فهذه الطائفة من الأخبار دلّت على جواز الرجوع إلى مَنْ هو فقيه مأمون مطلقاً أي سواء وجد من هو أفقه منه أم لا؛ لأنّ الإمام (علیه السلام) لم يقيّد الرجوع إلى هؤلاء الآحاد من الفقهاء بأي قيد، مع إنّ التفاوت في الرتبة والاختلاف في الفتوى كان سائداً، وحملها على صورة التساوي في الرتبة أو الاتحاد في الفتوى حمل على النادر(2)، لاسيّما الرواية الأخيرة واضحة جداً في المدعى؛ لأنّ الأربع المذكورون فيها لم يكونوا قطعاً في رتبة واحدة في العلم ولا متفقين في الفتوى، ومع هذا جعلهم مراجع في الدين، فلو كان التقليد مشروطاً بالأعلمية لما صحّ الرجوع إليهم كلهم وكان على الإمام (علیه السلام) أن يقيّد بقيد الأعلم منهم.
هي تأمر الشيعة بالرجوع إلى كلّ من هو واجد لشرائط أخذ الفتوى منه، وهي عدة روايات:
1. روى الصدوق في كمال الدين بإسناده عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري أنْ يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف): (أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك..- إلى أن قال - وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجّة الله)(3).
2. روى الكشي بإسناده عن أحمد بن حاتم بن ماهويه قال: (كتبت إليه - يعني أبا
ص: 203
الحسن الثالث (علیه السلام) - أسأله عمّن آخُذ معالم ديني؟ وكتب أخوه أيضاً بذلك. فكتب إليهما: فهمتُ ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا وكلّ كثير القدم في أمرنا فإنّهما كافوكما إنْ شاء الله)(1).
3. في التفسير المنسوب إلى العسكري (علیه السلام) رواية عن الصادق (علیه السلام) ذيلها: (فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه)(2).
4. ورد في صدر مقبولة ابن حنظلة عن الصادق (علیه السلام) قال: (ينظران إلى مَنْ كان منكم ممّن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً)(3).
فهذه الطائفة تدل على تجويز الأئمّة (علیهم السلام) لشيعتهم الرجوع إلى كلّ من صدق عليه أنّه من رواة الأحاديث، أو الفقيه، أو مسن في حبهم وكثير القدم في أمرهم، أو ناظر في الحلال والحرام وعارف بالأحكام، ولم يقيّدوا بعدم وجود من هو أعلم منه، مع علمهم (علیهم السلام) باختلاف الفقهاء في الفتوى وعدم التساوي في الرتبة، فهذا الإطلاق يشمل مورد البحث فيدل على التخيير في الرجوع إلى أيّ واحد منهم، فلو كان التقييد مقصوداً فعدم ذكره في مثل هذا المورد يستقبح عرفاً(4).
وذكر في الجواب عن هذه الإطلاقات وجوه:
إنّ هذه الروايات في إثبات أصل وجوب تقليد الجاهل للعالم، أمّا أنّه
ص: 204
كل واحد منهم حجّة مطلقاً، أو عند فَقْدِ التعارض فلا دلالة فيها على ذلك(1).
ورُدَّ بأنّ بعض الروايات ظاهرة في الإطلاق؛ لأنّ السؤال فيها بعد المفروغية عن جواز الرجوع إلى الفقيه، وهو سؤال عن تعيين المصداق كما هو شأن الروايات الخاصة(2).
بعد تسليم الإطلاق فيها يمنع شمول الإطلاق للمورد؛ لأنّ شموله لكليهما معاً ممتنع؛ لأنّه اجتماع الضدين أو النقيضين، وشموله لأحدهما لا بعينه لا دليل عليه؛ لأنّ مفاد أدلة الاعتبار هو الحجّة التعيينية لا حجة هذا أو ذاك، وشموله لأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجح.
إذاً مقتضى القاعدة هو التساقط في كل دليلين متعارضين إلّا إذا قام الدليل على ترجيح أحدهما أو التخيير بينهما كالأخبار العلاجية، ولكنّها تختص بالخبرين المتعارضين وفي المقام لا مرجح ثابت بالدليل فالنتيجة هي تساقط الفتويين(3).
وأورد على هذا الوجه تارة: بأنّ القاعدة تقتضي التخيير بين المتعارضين؛ وذلك لأنّ الأمر يدور بين رفع اليد عن أصل الدليلين وبين رفع اليد عن إطلاقهما فقط مع الحفاظ على أصلهما، ومتى دار الأمر بينهما تعيّن الثاني؛ لأنّه لا موجب لرفع اليد عن الدليلين بالكلية بلا ضرورة تقتضي ذلك(4).
وأخرى: إنّ إطلاق أدلة حجيّة خبر الواحد يختلف عن إطلاق أدلة حجيّة الفتوى؛
ص: 205
لأنّ إطلاق الأوَّل شمولي استغراقي فيجب الرجوع إلى كل روايةٍ رواية، فإذا وُجِدَتْ روايتان متعارضتان فلا يمكن شمول الإطلاق لهما لاستلزامه الجمع بين النقيضين.
أمّا الثّاني فهو إطلاق بدلي، بمعنى أنّه لا يجب على المكلّف الواحد الرجوع إلى كل فقيهٍ فقيه، بل يكفي أن يرجع إلى واحد منهم، فتكون حجيّة فتوى كلّ فقيه بالنسبة إلى مكلّف واحد حجيّة شأنيّة، وإذا رجع إلى معيّن منهم أصبحت فتواه حجّة فعليّة عليه، وعلى هذا فشمول الإطلاق لفتوى كلّ واحد من الفقهاء مع الاختلاف بينهم لا يستلزم أي محذور، وهو معنى التخيير في فتاواهم(1).
وثالثة: لو لم يكن للأدلة إطلاق لما دلّت على التخيير حين التساوي في الفضل أو الفتوى. فلو فرض عدم شمول أدلة التقليد اللفظية لمورد الخلاف في الفتوى حتى في صورة التساوي في الفضل فلا سبيل آخر لإحراز قيام السُنّة اللفظية على جواز التقليد؛ لندرة وجود مجتهدين متفقين في الفتوى في جميع المسائل المبتلى بها(2).
وأجيب عن الإيراد الأوَّل بأنّ التخيير ليس من الجمع العرفي لوجود احتمالات أخرى مساوية، له فلا وجه لترجيحه على غيره وتوضيحه في باب التعارض(3).
وعن الثّاني: بأنّ فتوى كل مجتهد حجّة شأنيّة في حقّ المكلّف قبل رجوعه إلى أحد معين إذا لم يعلم بوجود معارض لها، وأمّا مع وجود معارض أقوى منه فلأنّه ذو مزيّة فلا نعلم بكون فتوى المفضول مشمولة للأدلة.
ص: 206
هذا، مضافاً إلى عدم تماميّة دعوى أصل الإطلاق في النصوص كما سيأتي(1).
وعن الثّالث: بأنّ النقض بالتخيير حين التساوي في الرتبة والاختلاف في الفتوى وارد على مَنْ يقول باستفادته من نفس أدلة التقليد لا على غيره الذي يقول إن التخيير مستفاد من خارج الأدلة مثل الإجماع على التخيير أو غيره(2).
وأمّا ما ذكر بعده من لزوم عدم قيام السُنّة على جواز التقليد لو لم نقل بشمول الإطلاق للمقام فهو غريب؛ لأنّ تحقّق التعارض غالباً في الخارج لا يردّ دلالة الأدلة على جواز التقليد.
وبتعبير آخر: إنّ انعقاد الدلالة على جواز التقليد لا يتوقف على تحقّق موضوعها في الخارج، كما إذا فرضنا في الأخبار أنّه يوجد في كلّ باب من أبوابها التعارض بينها فهذا لا يستلزم عدم وجود دليل من السُنّة على حجيّة خبر الواحد.
وأيضاً ليست حالةُ اختلاف الفقهاء في الفضل مع الاختلاف في الفتوى مع علم المكلّف بكلا الاختلافين تفصيلاً هي الغالبة ولاسيّما في الأزمنة السابقة كما لا يخفى.
تفصيل البيان بين الأخبار الخاصّة التي هي الطائفة الأولى وبين الأخبار العامّة التي هي الطائفة الثّانية.
أمّا الأخبار الخاصّة فلعدم تصوّر الإطلاق اللّفظي فيها؛ لأنّ الاستدلال بها في الشخصيات المعيّنة موقوف على دعوى العلم بوجود الاختلاف بين هؤلاء المفتين في العلم والفتوى، والعلم باطلاع الناس على اختلافهم فيهما.
ص: 207
والإنصاف أنّ إثبات ذلك في مَن أمر الأئمّة (علیهم السلام) بالاستفتاء منهم في غاية الصعوبة، بل لا يكون ذلك إلّا تخرّصاً بالغيب.
وأمّا الأخبار العامّة فهي مسوقة لبيان جواز نفس التقليد من دون ملاحظة أمر آخر كقولك (راجع الأطباء حين الحاجة)، وأمّا الحالة المترتّبة على هذه الواقعة من وقوع التعارض بين أقوال الأطباء فلا يستفاد حكمها منه؛ ولذلك لا يعدّ بيان المرجّح عند التعارض قبيحاً، ويكون استفسار السائل عنه حسناً كما في المقبولة(1).
ويمكن الردّ على الشق الأوَّل بأنّ سؤال السائل من الإمام (علیه السلام) عن تعيين من يرجع إليه في معالم دينه يدل على تعدّد مَن كان يفتي وكان هناك اختلاف بينهم في الفتاوى وإلّا لم يحسن هذا السؤال، وحمل هذا العدد من الروايات على جهل الراوي عن أصل وجود مَن يصلح أن يؤخذ منه، وأنّ السؤال عن تعيينه من الإمام كان مستبعداً جداً مع مئات من أصحاب الأئمة المتواجدين في مختلف البلدان ولاسيّما في بلدان السائلين بمثل هذا السؤال. مضافاً إلى أنّه يكون خلاف ظاهر الكلام.
وعلى الشق الثّاني بأنّ بعضها منها ظاهر في الإطلاق؛ لأنّ الكلام فيه يكون بعد الفراغ من مشروعية أصل التقليد كما في خبر أحمد بن حاتم بن ماهويه.
والصحيح في الجواب - والله العالم - أنّ الأخبار الخاصّة لا وجه لإطلاقها بل هي أقرب إلى الدعوى الثانية من دعوى التخيير؛ لأنّها في أشخاص معيّنين، فيحتمل فيها أنّ التعيين كان لعلم الإمام (علیه السلام) بأفضليتهم على غيرهم، بل يمكن دعوى أنّ اختيار السائل لاسم معيّن من بين الفقهاء وتأييد الإمام له، أو مبادرة الإمام (علیه السلام) في ذلك ظاهر في
ص: 208
تعيين المرجع إذا تعدد الفقهاء واختلفوا، ولا يمكن هذا إلّا من جهة أنّه أفضلهم وأعلمهم ولم يكن مجرد بيان مثال ومصداق لكليِّ كلّ مَنْ هو فقيه يعلم الحلال والحرام وإن اختلفوا في الرتبة، ثُمّ لمّا لم يكن رجوع أهل كلّ البلدان - مع ما بينهم من بعد - إلى واحد من الفقهاء ميسراً احتاج إلى تعيين أفضلهم في كلّ بلد.
وأمّا الأخبار العامّة فأوَّلاً: إنّها ضعيفة السند غير المقبولة - على خلاف فيها تقدَّم بيانه - .
أمّا الأولى منها فإنّ الصدوق رواها بسنده عن إسحاق بن يعقوب وهو مجهول، وأمّا الثّانية ففي سندها موسى بن جعفر بن وهب وأحمد بن حاتم بن ماهويه وكلاهما مجهول، وأمّا الثّالثة فقد وردت في التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) والنسبة غير ثابتة، مضافاً إلى أنّها مرسلة لم تذكر الواسطة بين صاحب الكتاب وبين الإمام (علیه السلام) .
وثانياً: إنَّ أكثرها غيرُ تامّة الدلالة على المدعى؛ أمّا التوقيع فهو لا ظهور له في الفتوى بل يحتمل إرادة الخصومات والنزاعات؛ لأنّها مقطوعة الصدر كما احتمل بعض الأعلام(1). ولو سلّم فهو بيان لمسلك أخذ المعالم الدينيّة المقصودة.
إن قلت: إنّ الرجوع إلى الفقهاء كان أمراً معمولاً به قبل ذلك فكيف يمكن حمل التوقيع على أصل الإرجاع إلى الفقهاء؟
قلت: الرجوع إلى الفقيه كان من حيث إنّه أمين على ما أخذ من الإمام وفهم منه، فهو كواسطةٍ بين المكلّف وبين الإمام، والآن أريد الإرجاع إليهم من حيث ما يفهمون
ص: 209
ويستنبطون من مأخذ الأحكام بلا وجود إمام معصوم بينهم.
وأمّا غيرها من الأخبار العامّة فهي - بعد ما فُرغ من أصل الرجوع إلى العلماء - في مقام بيان ما يؤهلهم للمرجعية من أوصافهم ومذهبهم من دون النظر إلى وجود التعارض بين أقوال الواجدين لهذه الأوصاف، وإليك التفصيل:
أمّا المكاتبة فهي في بيان مَنْ يجوز أن يُرجَع إليه في أخذ معالم الدين من فقهاء المسلمين بعد ما فُرغ من مشروعية أصل الرجوع إليهم، فتدل على أنّ كلّ مَنْ هو مسن في حبّهم وكثير القدم في أمرهم يُرجَع إليه ولا يُرجَع إلى مَنْ هو ليس كذلك.
وأمّا من جهة تعدد مَنْ هو واجد لهاتين الصفتين واختلافهم في الفتوى والرتبة، فليس المعصوم (علیه السلام) في مقام البيان من هذه الجهة، فلا إطلاق يشمل ذلك.
وبتعبير آخر: كان السؤال عمّن هو داخل في إطار مَنْ تؤخذ منه الأحكام وممّن لا تؤخذ منه من حيث المذهب وغيره من الأوصاف، وأمّا مَن هو داخل في هذا الإطار فهل هو على نحو الإطلاق أو على بعض الصور؟ فلا إطلاق من هذه الجهة.
وأمّا ما ورد في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (علیه السلام) فهو في بيان أوصاف مَن يصلح للمرجعية أيضاً، لذلك فلا إطلاق، وإنْ سلّمنا الإطلاق فلشّدة ضعفه لا يصلح للاستناد، حيث لم يثبت إسناد هذا التفسير إلى الإمام العسكري (علیه السلام)، بل فيه ما يدل على عدم صحة النسبة.
وأمّا المقبولة فهي مع الاختلاف في جواز الاعتماد عليها وعدمه فذيلها صريح في أنّها في القاضي فلا يجوز التمسك بصدرها في إثبات إطلاق جواز الرجوع في الفتوى، وإذا قلنا بعمومها للفتوى فهي بذيلها على مدعى الطرف الثّاني أدلّ كما تقدّم, وأمّا صدرها فلا إطلاق فيه، بل الإمام (علیه السلام) كان في مقام بيان أوصاف مَنْ يُرجَع إليه كحاكم
ص: 210
في خصومة.
وأمّا ما استدل برواية الأربعة ففيه: إنّها لا تعدو التمجيد لهم والشكر لسعيهم وجواز الرجوع إليهم في الجملة, وأمّا صورة اختلافهم في المسألة الفرعية مع اختلافهم في الرتبة فهي غير منظور إليها بتاتاً.
فتحصّل ممّا تقدم: إنّه لم يثبت أي إطلاق في السُنّة، وعلى تقديره فهناك ما يصلح لتقييده بغير ما نحن فيه من صور المسألة من أدلّة وجوب الرجوع إلى الأعلم تعييناً، وقد تقدّم بيانها.
فإنّ العقلاء يبنون في أمورهم على جواز الرجوع إلى المفضول لعذر بسيط ولا يكلّفون أنفسهم بالبحث عن الأعلم في فنّه، وحتّى بعد العلم به لا يرون ضرورة الرجوع إليه إذا كان موجباً لزيادة المؤنة على الرجوع إلى غيره، ويسوّغون تركهم للأعلم بأعذار بسيطة، وهذا يكشف عن عدم وجوب تعيين الأفضل بل هو مجرّد احتياط حسن(1).
وممّن ناقش هذا الوجه بعض الأعلام في تهذيبه قائلاً: إنّه لم تثبت هذه السيرة في مورد البحث، وهو أن يكون الخلاف بين الفاضل والمفضول معلوماً ومع هذا يرجعون إلى المفضول، وعلى تقديرها فهي في أغراضهم الشخصية، وأمّا في أغراض المولى فلم تثبت هذه السيرة(2).
ص: 211
أقول: تقدم أنّ بناء العقلاء على الاعتماد على قول الأعلم عند العلم بالاختلاف حتى في أمورهم الشخصيّة وذلك لحصول الوثوق بقوله، إلّا إذا كان الرجوع إليه فيه كلفة زائدة فحينئذٍ يكون معذوراً في الرجوع إلى المفضول عرفاً، أو زال الوثوق بقول الأعلم لأمر خارجي، أو كان الغرض غير مهم لا يلزم الاعتناء به، وأمّا مع عدم العلم بالخلاف فلا يلزمون أنفسهم بالرجوع إلى الأعلم فقط.
وهي ثابتة من قبل المتشرعة من زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأيام الأئمّة (علیهم السلام) على الرجوع إلى أيّ صحابي من أصحاب النبي أو فقيه من أصحاب الأئمّة، ولم يلتزموا بالرجوع إلى الأعلم مع الاختلاف في الفتوى والرتبة ولم ينكر أحد منهم على أحد(1).
وأجيب: بعدم تحقّق هذه السيرة في مورد البحث لعدم وجود خلاف كثير في عصر المعصومين، وعلى فرضه لم يعلم أنّه كان الرجوع إلى المفضول مع العلم بالاختلاف بينه وبين الأعلم وكان الإمام أو الأصحاب يعلم بوقوع هذا ولم يردعوا عنه(2).
لكن قد يقال: إنّ الخلاف بين أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كان معروفاً في الكثير من المسائل وكان الرجوع إلى أيّ واحد من فقهائهم جائزاً عند المسلمين كما قال الشهيد الثاني في المسالك(3).
ولعلّ هذا لاشتهار حديث نبوي بينهم من أنّه (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: أصحابي كالنجوم بأيهم
ص: 212
اقتديتم اهتديتم(1).
فما ينبغي أن يقال في الجواب: هو أنّ سيرة الرجوع إلى أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وإن سلّمنا أنّها كانت ثابتة عند المسلمين، لكنّها لا تصلح عندنا دليلاً؛ لأنّها سيرة لما عدا الإمامية، وهي لا تستلزم حكماً شرعياً لجواز أن تكون بدعة أو خرافة مثل سيرتهم على العمل بالقياس وغيره.
وأمّا ما قيل من لزوم الردّ عليهم من قبل المعصوم لو كانت بدعة فهو غفلة عمّا صدر عنهم (علیهم السلام) في ذم المسلمين لتركهم أمير المؤمنين (علیه السلام) وبعد هذا لا وجه للذم على ترك الأفقه من الأصحاب.
وأمّا سيرة الإمامية على الرجوع إلى أصحاب الأئمة فهي وإن صَلُحتْ دليلاً لو كانت ثابتة، لكن يحتمل أن تكون سيرتهم هذه هي بناء منهم بما هم عقلاء، فلا تكون غير سيرة العقلاء في معاشهم، وقد عرفت حالها وأنّها لم تثبت مع العلم بالخلاف في الرتبة والفتوى وإمكان الرجوع إلى الأعلم مع أهمية المسألة، وسيرة المتشرعة لا تكون دليلاً إذا احتملت أنّها امتداد لسيرة العقلاء.
وإنْ قيل بعدم تحقّق سيرة العقلاء في ذلك وأنّ ذلك منهم بوصف كونهم متشرعة فتثبت الدعوى.
فنقول: إنّها لم تثبت فيما نحن فيه بل الشواهد تدل على عدمها.
منها: السؤال من المعصوم (علیه السلام) في تعيين مَن يُرجَع إليه إذا اختلف الأصحاب كما تقدّم في المقبولة وغيرها، وهذا ظاهر في التسليم بوجوب التوقف حين الاختلاف.
ص: 213
والخلاصة: إنّ السيرة دليل لبيّ يُقتَصَر فيه على القدر المتيقّن وهو الرجوع إلى أي فقيه ما دام لم يُعلم بوجود الأعلم منه مع الاختلاف بينهما.
إنّ وجوب الاقتصار على الأعلم يوجب العسر والحرج على المكلّفين لاسيّما إذا كان المقصود هو أعلم عصره من ناحية تحديد مفهوم الأعلم، ومن ناحية الوصول إلى فتواه، ومن ناحية تعيين مصداقه(1).
وقد أجيب عنه بوجوه:
إنّه لا عسر ولا حرج في أي جانب من هذه الجوانب: أمّا من جانب الوصول إلى فتوى الأعلم فعدمها واضح، لاسيّما في العصور المتأخرة التي تطبع فيها الرسالة العملية للمرجع بآلاف النسخ وتنتشر في العالم.
وأمّا من جانب تحديد المفهوم فكما هو محدّد في بقية الصنائع والعلوم كالهندسة والطب وغيرهما بلا حرج فكذلك ما نحن فيه، وقد تقدّم بيانه.
وأمّا من جانب تشخيص مصداق الأعلم فهو موضوع كبقيّة الموضوعات فيمكن تشخيصه عن طريق أهل الخبرة في هذا الميدان كما هو حال غيره من الميادين الأخرى، فمعرفة الأعلم متيسرة ولو لبعض الأفراد بلا عسر ولا حرج، وسيرة المسلمين على الرجوع إلى الأعلم من دون وقوعهم في العسر والحرج(2).
لكنّ الصحيح أنّه لو قيل بوجوب الفحص عن الأعلم مع احتمال وجوده في
ص: 214
أي بلد من البلدان الإسلامية فلا يخلو من الحرج على المكلّف، كما اعترف به بعض المحقّقين من المتأخرين(1).
يمكن أن يقال: إنّ وجوب الرجوع إلى الأعلم ليس بتكليف شرعي نفسي، بل هو حكم عقلي متفرّع على اختصاص الحجيّة بقوله، فلا تجري قاعدة رفع الحرج معه.
والوجه في ذلك: إنّ شأن القاعدة هو رفع التكاليف الحرجية عن المكلّف، لا تشريع أحكام يرتفع بها الحرج، فنتيجة جريان القاعدة هو عدم وجوب العمل على فتوى الأعلم، لا إثبات حجيّة قول غيره الذي هو مقصود إثباته.
نعم، غاية مؤدى القاعدة هو أنّه إذا كان الامتثال اليقيني بفتوى الأعلم متعذّراً فيتنازل إلى الامتثال الظنّي، ومع تعذره إلى الامتثال الاحتمالي: إمّا لحكومة العقل بذلك، أو لاستكشاف حجيّته شرعاً على ما هو مذكور في دليل الانسداد، وهذا ليس ما هو مقصود إثباته من حجيّة قول المفضول مطلقاً.
لكن يرد على هذا: بأنّه لو سلّمنا التعذّر الدائم أو الغالب في هذا الحكم فهو يوجب القطع بأنّ الشارع لم يشرّع هذا الحكم - وهو اشتراط الأعلمية -؛ لأنّ الشريعة مبنيّة على اليسر والتساهل ولم تأتِ بأمر يضيّق على المكلّفين، فيثبت بهذا التخيير الشرعي بين فتوى الأعلم وغيره، كما جُعِلَ أحد أدلة نفي وجوب الاجتهاد على جميع المكلّفين هو التعذّر والحرج الدائم.
وبهذا ظهر ما في إجابة صاحب الكفاية عن هذا الدليل بقوله: (مع أنّ قضيّة نفي
ص: 215
العسر الاقتصار على موضع العسر فيجب (تقليد الأعلم) فيما لا يلزم منه عسر)(1).
فإنّ هذا الجواب صحيح لو فرضنا أنّ العسر ليس في تعيين أعلم العلماء، بل العسر في الوصول إلى بعض فتاويه فحينئذٍ يقال إنّ ما يمكن للمكلّف الوصول إليه من فتاوي الأعلم بلا حرج يجب العمل بها دون ما تعسَّر عليه الوصول إليها. وأمّا إذا قلنا إنّ العسر في أصل وجوب تعيين الأعلم والبحث عنه إذا احتمل وجوده فلا يأتي هذا الكلام.
إنّه إذا سلّمنا تعذّر تشخيص الأعلم المطلق وحرجيّته فمقتضاه التنزّل إلى الأفضل النسبي لا إلى حجيّة قول كلّ فقيه، ولا يناسب أن يدّعى تعذّر تشخيص الأفضل النسبي أيضاً، فإذا تعذّر على المكلّف الفحص عن أعلم عصره في العالم نوعاً فلا يتعذّر البحث عن أعلم بلده، لأنّه لمّا كان رفع اشتراط الأعلمية خلاف القاعدة فيُكتفى في رفعه بمقدار ما يرتفع به الحرج لا من أصله، فإنّ الضرورات تقدّر بقدرها(2).
ولا يصح ما أورد على هذا الدليل من أنّه حرج شخصي فلا ينفي الحكم من غيره كما قد يكون الوضوء حرجياً لبعض المكلّفين(3).
لأنّ الدعوى هي الحرج النوعي في هذا الاشتراط لا الشخصي، وهو يستلزم عدم التشريع له من الأوَّل.
ولو سلّم أنّ الدعوى هي الحرج والعسر الشخصيين في هذا الاشتراط - ولو في بعض العصور - فالحق في الإيراد عليها هو أنّ مقتضى هذا هو الاحتياط، وإذا كان
ص: 216
الاحتياط منفيّاً لاستلزامه الحرج، فالعمل بفتوى مَنْ يظن أنّه أعلم أو يحتمله هو المتعيّن لا التخيير بينه وبين غيره.
وليس من الصحيح أن يجاب بأنّه أخصّ من المدعى؛ لأنّ هذا تسليم لجواز التخيير ولو في هذا الحال، وقاعدة الحرج لا تقتضيه.
ومحصّل الجواب: إنّه إذا كان مقصود المستدل هو وجود الحرج لأغلب المكلّفين في جميع العصور - كما هو ظاهر كلامه حتى فيما إذا علم بوجود الأعلم وعلم بالاختلاف في الفتوى - فلا نسلّم هذه الدعوى، بل نقول لا حرج للغالب في الرجوع إلى الأعلم.
وأمّا إذا كان المقصود أنّ الرجوع إليه حرجي في هذه الحالة بالنسبة إلى بعض المكلّفين فنقول: إنّ هذا يمكن أن يتصوّر، ولكنّه لا يوجب جواز الرجوع إلى أي فقيه، بل عليه: إمّا الاحتياط، أو الرجوع إلى من هو أعلم الباقين.
وأمّا إذا كان مقصوده بالحرج بالنسبة إلى أغلب المكلّفين هو الحرج في وجوب الفحص عن الأعلم على الإطلاق حتى مع عدم العلم بوجوده فهذا نسلّمه، ولكن ليس هو ما ندعيه في المقام.
إنّ الأئمة (علیهم السلام) أرجعوا شيعتهم في أيامهم إلى أصحابهم مثل يونس بن عبد الرحمن ومحمّد بن مسلم وزرارة وغيرهم فلو كان الرجوع إلى الأعلم في هذا العصر متعيّناً لكان الرجوع إلى الإمام (علیه السلام) في عصره متعيّن بالأولوية القطعية، والثابت خلاف هذا(1).
وأجيب عنه بوجوه:
ص: 217
إنّ الرجوع إلى الأصحاب لم يكن من حيث إنّهم في عرض الأئمّة (علیهم السلام) كما هو المقصود من البحث عن الفقهاء، بل كان من حيث إنّهم أمناء على ما أخذوا من الإمام (علیه السلام) من الأحكام الإسلامية فكانوا طريقاً للأخذ من الأئمة (علیهم السلام) (1). وكان هذا ممّا لا بُدَّ منه لبُعد الشُقّة بين المكلّفين وبين الإمام (علیه السلام) ولزوم الحرج في الأخذ المباشر من الإمام (علیه السلام) فهناك فرق بين هذا وبين ما نحن فيه.
إنّه لم يراجع أحد الشيعة أحداً من الأصحاب مع علمه بمخالفته للإمام (علیه السلام) تفصيلاً أو إجمالاً، ومحل البحث هو العلم بالمخالفة(2).
أقول في الأوَّل منهما نظرٌ؛ من جهة أنّه لا يمكن إنكار إعمال بعض أصحاب الأئمة نظرهم في استنباط الأحكام؛ ولذا عرفوا بأنّهم من فقهاء أصحاب الأئمة (علیهم السلام) .
وحينئذٍ يقال: إنّه لو كان الاشتراط بالأعلمية ثابتاً لكان من جهة أنّ فتوى الفقيه الأعلم أقرب إلى الواقع وأبعد من الخطأ وأكثر وثوقاً، وهذه الميزة موجودة بعينها في قول الإمام فلا فرق بين الموردين من هذه الجهة، ولعلّ مقصود المجيب هو أنّ مثل هذا الحرج لا يلزم من الرجوع إلى اعلم الفقهاء فهذا فرق فارق بين الموردين, فحينئذٍ ينبغي أن يقال: إنّ مقتضى الأصل كان كذلك، أي وجوب الرجوع إلى الإمام (علیه السلام) مباشرة أو إلى ما يحصل به اليقين كالتواتر وغيره، لكن ثبت قطعاً تنازل الشارع عن هذا لأجل مصلحة التسهيل على العباد واكتفى بالأخذ من المعصومين (علیهم السلام) ولو بواسطة راوٍ أو فقيه يستنبط الأحكام من كلام المعصوم، ومقتضى هذه المصلحة نفسها عدم وجوب الفحص على المكلّف عن اعلم من في العالم، وهذا لا يستلزم عدم تعيين الرجوع إلى
ص: 218
الأعلم بعد العلم به والعلم باختلافه عن غيره في الفتوى.
وبهذا يتبيّن ضعف ما قيل في المقام من أنّ الشارع قد تنازل عن هذا الأصل المذكور بالنسبة إلى الإمام (علیه السلام) وهو ما قد ثبت بالدليل القطعي، ولكنّه لا يستلزم تنازل الشارع عن هذا الأصل بالنسبة إلى الفقيه الأعلم.
والوجه فيه: هو أنّ تعيّن الرجوع إلى الأعلم مطلقاً حتى مع عدم العلم بوجوده وإيجاب الفحص عنه يوجب التضييق على المكلّف بنفس المقدار الموجود في تعيّن الرجوع إلى الإمام (علیه السلام)، فثبوت تنازل الشارع في المورد الأوَّل يستلزم تنازله في المورد الثّاني.
إلى هنا تمّ الكلام في المحور الثّاني في المقام الأوَّل، وقد تبيّن أنّ أدلة القائلين بحجيّة قول غير الأعلم لا تنهض بإثباتها مطلقاً، بل مع عدم العلم بالتفاضل والاختلاف في الفتوى.
ص: 219
ثُمّ إذا فرضنا عدم تماميّة الأدلة الاجتهادية للطرفين يأتي دور الأصل العملي في المقام الذي يكون مرجعاً، فما هو الأصل الذي يجري في المقام؟
فيه وجوه نذكر ثلاثةً منها:
1. الأصل الجاري هو الاشتغال فيقتضي تعيّن الرجوع إلى الأعلم، وهو مذهب الأكثر.
2. قيل هذا يرجع إلى الشّك في أصل التكليف فهو مجرى للبراءة فينتج التخيير.
3. وقيل إنّ الصحيح هو التفصيل بين البناء على الطريقية في حجيّة الفتوى فيكون مجرى للاشتغال وبين البناء على السّببية فيكون مجرى للبراءة.
تفصيل الوجوه:
أمّا الوجه الأوَّل فبيانه: أنّ الأمر دائر بين تعيّن تقليد الأعلم وبين التخيير بينه وبين غيره؛ لأنّه من باب دوران الأمر بين الحجيّة التعيينية لقول الأعلم على تقدير سقوط فتوى غير الأعلم عن الحجيّة وبين الحجيّة التخييرية لقول الأعلم على تقدير بقاء فتوى غير الأعلم على الحجيّة وهو يقتضي الأخذ بما يحتمل تعيينه.
وبتعبير آخر: حجيّة فتوى الأعلم مقطوع بها، وحجيّة فتوى غيره مشكوك بها فيجب الأخذ بما هو مقطوع الحجيّة(1).
وقد أورد على هذا الوجه بإيرادات..
ص: 220
إنّه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فالأصل الجاري فيه هو البراءة عن التعيين؛ لأنّه شكّ في تكليف زائد على أصل التكليف، كما إذا كلّف المولى عبده بعتق رقبة واحتمل تعيّنها بالمؤمنة فتجرى البراءة عن الزائد على أصل الرقبة فكذلك المقام(1).
وأجيب عنه بوجود فارق بين المقامين..
توضيحه: إنّ الأمر الدائر بين التعيين والتخيير قد يدور في المسألة الفرعية وقد يدور في حجيّة الحجّة.
وعلى الثاني قد يراد بالحجيّة تنجّز الواقع فحسب، كما إذا لم يكن منجّزاً على المكلّف لولا الحجّة الواصلة إليه فلولا هذه الحجّة لكان المورد مجرى البراءة أو أصالة الطهارة والحلية وغيرهما، فحينئذٍ يكون مرجع الشّك هو الشّك بين الإطلاق والتقييد وحاله حال الدوران في الأحكام، وهو أنّ هناك علماً بالجامع وشكّ في الكلفة الزائدة فتجرى البراءة عن الكلفة الزائدة فيكون المكلّف مخيّراً في أخذ أي حجّة منهما.
وقد يراد بالحجيّة التعذير على تقدير مخالفة الواقع؛ لأنّ الواقع قد تنجّز قبل هذه الحجّة بالعلم الإجمالي الكبير، أو العلم الإجمالي المتحقّق في بعض الموارد، ودار الأمر بين الحجيّة التعيينية والتخييرية، والأصل حينئذٍ يقتضي الأخذ بما يحتمل تعيينه.
والوجه في ذلك: إنّ الواقع قد تنجّز مسبقاً فيجب الخروج من عهدته، والمعذّر القطعي هو الطرف الذي يحتمل تعيينه.
وأمّا الطرف الآخر فيحتمل عدم حجيّته أصلاً فلا يؤمن من العقاب بالاعتماد عليه
ص: 221
فيحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بالعمل على طبق الحجّة التي احتمل تعيينها.
والمقام من هذا القبيل؛ لأنّ الواقع قد تنجّز على المكلفين بالعلم الإجمالي الكبير فتكون حجيّة الحجج ومنها الفتوى معذّرة فقط، فإذا دار الأمر بين الحجيّة التعيينية والتخييرية فيكون مورداً لقاعدة الاشتغال لا البراءة(1).
ويمكن أن يمثّل له: لو أنّ أحد الفقهاء أفتى بعدم وجوب جلسة الاستراحة في الصلاة والأعلم منه أفتى بوجوبها فالعقل هنا لا يعذّر المكلّف لو اعتمد على فتوى المفضول ووقع في مخالفة الواقع، أمّا لو كانت فتواهما بالعكس فلا يمنع العقل من الرجوع إلى الأعلم ويراه معذوراً لو وقع في مخالفة الواقع بترك جلسة الاستراحة.
وللتأمل في هذا الكلام مجال من جهات..
الأولى: أنّ حجيّة الأمارات والطرق لا تكون على نحو التفكيك بين المنجّزية والمعذّرية لاسيّما بناءً على الطريقيّة؛ لأنّه على هذا تكون طريقاً إلى الواقع فتنجّزه، والامتثال الموافق لها يكون معذّراً للمكلّف، فكيف يعقل أن تكون الأمارة معذرة له إذا أتى بالعمل مطابقاً لها من دون أن تنجّز الحكم عليه.
نعم، الأمارة الواردة في مقام الأعذار كحديث الرفع فهي معذّرة في ترك الامتثال دون أن تنجّز شيئاً.
وأمّا دعوى تنجّز الواقع بالعلم الإجمالي ففيه: إنّ المتنجّز به هي التكاليف إجمالاً، وأمّا تنجّز التكليف تفصيلاً فهو بالأمارات ومنها الفتوى، فالتنجيز له مرتبتان: إجمالي وتفصيلي، فإذا علم المكلّف مثلاً إجمالاً بوجوب إحدى الصلاتين من الظهر والجمعة يوم الجمعة فتنجّز عليه الواقع إجمالاً، ثُمّ أفتى المفتي بوجوب صلاة الجمعة انحلّ العلم الإجمالي بمقدار المنجّز وهو الفتوى فيجب عليه الخروج من عهدتها بخصوصها وإذا تركها استحق العقوبة لا على التكليف الإجمالي، بل على صلاة الجمعة بخصوصها، وهذا ما يعبّر عنه بانحلال العلم
ص: 222
الإجمالي بالطرق والأمارات، أو بفتاوى الفقهاء.
الثّانية: على فرض تسليم انفكاك جهة المعذريّة في الحجيّة عن جهة المنجزيّة لا مجال لانفكاك جهة المنجزيّة عن المعذريّة؛ لأنّ الحجّة التي تنجّز الحكم يستحيل عقلاً أن لا يكون العمل المطابق لها معذّراً للمكلّف.
الثّالثة: إنّ حجيّة الحجّة إذا دار الأمر فيها بين التعيين والتخيير فالأصل الجاري فيها يقتضي التعيين حتى لو كانت حجيّتها منجّزة.
والوجه فيه: هو أنّ معنى الدوران بينهما أننا نعلم أنّ الشارع جعل إحداهما المعيّنة حجّة في تنجيز الأحكام ونشك في التخيير بينها وبين ما هو مشكوك الحجيّة، ولما كان مقتضى الأصل عدم حجيّة الحجّة الثّانية تبقى الأولى هي الحجّة تعييناً، وعلى هذا فحتى لو فرضنا أنّه لا علم إجماليَ منجَّز في البين، والأحكام تتنجّز بفتاوى الفقهاء واختلف الأعلم مع غيره في الفتوى فنشكّ في أنّ ما تنجّز علينا هو خصوص ما أفتى به الأعلم، أو: إمّا ما أفتى به الأعلم وإمّا ما أفتى به غيره، فحينئذٍ لا تجري البراءة عن تعيين ما أفتى به الأعلم؛ لأنّ الشّك فيه يرجع إلى الشّك في جعل حجيّة فتوى غير الأعلم في هذه الحالة أو لا، والأصل عدمها، فتتعيّن حجيّة فتوى الأعلم.
والصحيح في الجواب - والله العالم -: إنّ مورد جريان أصالة البراءة في الأمر الدائر بين التعيين والتخيير هو فيما إذا كان في تنجّز الأحكام نفسها بعد الفراغ عن حجيّة الحجّة التي قامت عليها لا ما إذا كان في منجّزيّة أو معذريّة الحجّة نفسها؛ لأنّ الأصل الجاري حينئذٍ هو الاحتياط لما تقدم من أنّه من باب الشّك في حجيّة الحجّة وهو
ص: 223
يساوق عدم الحجيّة.
وقد أُجيبَ أيضاً عن هذا الإيراد: بأنّه لا معنى لجريان البراءة عن الكلفة الزائدة في المقام كما تجري في الأحكام؛ لأنّه لا يترتب على مخالفة تقليد الأعلم نفسه العقاب وإنّما يترتب العقاب على مخالفة الواقع، فما لا يترتب على مخالفته عقاب لا مجال لجريان البراءة فيه(1).
وفيه: أولاً: إنَّه لا يأتي هذا الكلام في البراءة الشرعية؛ لأنّ موضوعها ما لا يعلمون وما نحن فيه منه.
وثانياً: إنّه مبني على انحصار جريان البراءة في الأحكام التكليفية: إمّا بناءً على جريانها في الأحكام الوضعية مطلقاً، أو في الجملة، ولكن هذا لا يصلح؛ لأنّه يمكن أن يقال بجريان البراءة عن شرطية شرط زائد على أصل الفقاهة في صحة التقليد وهو الأعلمية إذا تعدد الفقهاء واختلفوا في الفتوى وكان بعضهم أعلم من بعض.
والصحيح في الجواب هو ما تقدم من أصالة عدم جعل الحجيّة لفتوى غير الأعلم الواردة على أصالة البراءة عن تعيين فتوى الأعلم؛ لأنّه بجريان الأول لا يبقى الأمرُ دائراً بين التعيين والتخيير، بل تتعيّن حجيّة فتوى الأعلم.
إنّ الأصل المذكور جارٍ في المسبب، والجاري في السّبب هو البراءة، والثّاني مقدّم على الأوَّل، وتفصيل هذا الكلام وما فيه يأتي في القول الثّاني.
إنّ العقل لا يحكم على الإطلاق بكون فتوى الأعلم مقطوعة الحجيّة وفتوى غيره مشكوكة الحجيّة، بل يحكم بهذا الحكم إذا لم تكن فتوى غير الأعلم موافقةً للاحتياط، أو لفتوى الأعلم الميّت، وإلّا لحكم بكون فتوى غيره مقطوعة
ص: 224
الحجيّة ولا أقل يحكم بالتساقط، أو التخيير بينهما، أو بترجيح ما يحصل به الوثوق(1).
وفيه: إنّ محل الكلام هو فتوى الأعلم وغيره بما هي هي مع قطع النظر عن أمر آخر يوجب التساوي بينهما أو ترجيح إحداهما على الأخرى.
إنّ نتيجة جريان هذا الأصل هو عدم حجيّة قول المفضول لا تعيين الحجيّة لقول الأفضل لاحتمال التخيير بينه وبين قول المفضول(2).
وفيه: إنّ الحكم الشرعي قد تنجّز على المكلّف إجمالاً، والعمل بقول الأفضل معذّر قطعي: إمّا على نحو التخيير، أو على نحو التعيين فيجب العمل به عقلاً بخلاف قول المفضول فهو مشكوك المعذّرية فلا يصح الاكتفاء به عقلاً.
أمّا الوجه الثّاني فالأصل العملي على هذا الوجه يقرّر على نحوين:
وبيانه: أنّه إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الرتبة وكان الرجوع إليهما على نحو التخيير جائزاً ثم أصبح أحدهما أعلم فهنا نشكّ في بقاء حجيّة فتوى الثّاني فنستصحب بقاء حجيّتها، وإذا ثبتت حجيّة فتوى غير الأعلم في مورد تثبت في غيره لعدم القول بالفصل، ولعدم معقولية التفكيك في حجيّة فتوى في مورد دون آخر(3).
وأجيب عنه: أوَّلاً: بالنقض وذلك حيث كان المجتهد واحداً فقلده العامي ثُمَّ تجدد آخر، لكن الأوَّل كان أعلم فنستصحب وجوب تعيّن الرجوع إليه في هذا المورد،
ص: 225
وفي غيره نحكم بهذا لعدم القول بالفصل.
وثانياً: أنّ موضوع التخيير هو تعدّد المفتي مع التساوي في العلم فيثبت التخيير بالحكم العقلي، أو الإجماع، أو السيرة، ومع صيرورة أحدهما أعلم لم يبقَ هذا الموضوع فهو انتفاء للحكم بانتفاء موضوعه فلا مجال للاستصحاب.
وثالثاً: استصحاب الحجيّة في بعض الموارد غير صالح؛ لأنّه تثبت به حجيّة فتوى غير الأعلم مطلقاً؛ وذلك لأنّ حجيّة فتوى غير الأعلم إذا ثبتت بدليل اجتهادي كخبر واحد في مورد تثبت في جميع الموارد للملازمة الواقعية بين كونها حجّة في بعض الموارد وبين كونها حجّة مطلقاً المستكشفة بعدم القول بالفصل، فإنّ الأدلة الاجتهادية كما أنّها معتبرة في مداليلها المطابقية فهي معتبرة في مداليلها الالتزامية.
أمّا إذا ثبتت حجيّة فتوى غير الأعلم في بعض الموارد بالأصل العملي كالاستصحاب فلا يستلزم ثبوتها في غيره؛ لأنّه يتقوّم بيقين سابق وشكّ لاحق، ولا معنى للتمسّك به في مورد ليس فيه يقين سابق ولا شكّ لاحق. اللهم إلّا إذا قلنا بالأصل المثبت(1).
وفي هذا الثّالث نظر، من جهة أنّ الدعوى هي أنّه بين ثبوت الحجيّة لفتوى غير العالم في بعض الموارد بالاستصحاب وبين ثبوتها مطلقاً ملازمة شرعية، بمعنى أنّ الشّارع ألزم نفسه بعدم التفكيك في الحجج في موارد دون أخرى، فبناءً على هذه الدعوى لا تكون الملازمة عقلية ولا عرفية حتى يكون من قبيل الأصل المثبت، بل الملازمة شرعية، ولا كلام في جريان الأصول العملية في إثباتها.
ص: 226
وفي جريانها بيانات أربعة:
إنّ الأمر دائر بين التعيين والتخيير، ولما كان في التعيين كلفة زائدة على المكلّف فتجري البراءة عنه كما في نظائره، كما إذا دار الأمر في ظهر يوم الجمعة بين تعيين وجوب صلاة الجمعة وبين التخيير بينها وبين صلاة الظهر فتجرى البراءة عن تعيينها، فكذلك بالنسبة إلى تعيين الرجوع إلى فتوى الأعلم(1).
وقد تقدم الجواب عنه في الوجه الأوَّل فلا نعيد.
إنّ الشّك في حجيّة فتوى المفضول عند المخالفة لفتوى الأعلم مسبّب عن الشّك في اشتراط الأعلمية في المفتي إذا تعدد واختلفوا في الفتوى، ومن المعلوم أنّ أصالة البراءة تحكم بعدم العقاب على مخالفة فتوى الأعلم، ولا تعارضها البراءة عن العقاب على مخالفة فتوى غيره للقطع بعدم العقاب على مخالفة فتواه عند موافقته لفتوى الأفضل في العمل، والأصل إذا جرى في السّبب يكون مقدّماً على الأصل الجاري في المسبب، وأصالة الاشتغال التي قال بها الكثيرون في المقام تجري في المسبّب ولا تصل النوبة إليها مع جريان البراءة في السّبب(2).
وفيه: إنّ هذا الكلام مبني على مقدمات أربع:
الأولى: إنّ الشّك في حجيّة فتوى غير الأعلم ناشئ عن الشّك في اشتراط الأعلمية في التقليد.
ص: 227
الثّانية: تجري أصالة البراءة عن العقاب على مخالفة فتوى الأعلم.
الثّالثة: لا تعارضها أصالة البراءة عن العقاب على مخالفة فتوى غيره.
الرابعة: جريان أصالة البراءة عن تعيين فتوى الأعلم يُنتج جواز الرجوع إلى غيره.
ويمكن النقاش في أكثرها:
أمّا في الأولى فيقال إنّ القول بالعكس ممكن بمعنى أنّ الشّك في تعيين تقليد الأعلم ناشئ عن احتمال حجيّة قول غيره.
والصحيح: إنّ الشّك في حجيّة فتوى غير الأعلم ناشئ عن الشّك في عموم الجعل لحجيّتها وعدمه.
وبتعبير آخر: نشك في جَعْل فتوى غير الأعلم حجّة على الإطلاق أو عند عدم معارضتها لفتوى الأعلم؟ والأصل عدم حجيّتها على نحو الإطلاق.
وأمّا في الثّانية فقد عرفت فيما سبق بما لا مزيد عليه أنّه لا مجال لجريان البراءة إذا احتمل الخصوصية في حجيّة الحجّة.
وأمّا في الرابعة فإنّ جريان البراءة في حجيّة فتوى الأعلم تعييناً لا ينتج جواز الرجوع إلى غيره وحجيّة فتواه إلّا على القول بالأصل المثبت.
إنّ اشتراط الأعلمية في المرجع موقوف على جعل ثانٍ من ناحية الشارع، فإنّ الأعلمية غير داخلة في مفهوم المرجعية، بل دخولها في هذا المفهوم نفسه مستحيل؛ لأنّ المرجعية ليست من الأوصاف الإضافية، بينما الأفضلية من الأوصاف الإضافية؛ لأنّها لا تعتبر إلّا بعد فرض تعدّد المفتي واختلافهم في الفتوى، وإنما يكون ذلك بجعل ثانٍ غير جعل أصل المرجعية للفقيه، والجعل الثّاني مشكوك فهو مرفوع
ص: 228
بالبراءة فيجوز الرجوع إلى غير الأعلم(1).
وفيه: إنّ الجعل الأوَّل لم يثبت تناوله حسب الفرض لفتوى المفضول مع وجود الفاضل والمخالفة بينهما في الفتوى وقد تناول هذا الجعل فتوى الأعلم، وهذا يكفي في حكم العقل بوجوب الرجوع إليه بلا حاجة إلى الجعل الثّاني.
وبتعبير أوضح: إنّ التعيين لفتوى الأعلم ليس بجعل شرعي غير الجعل الأوَّل بل هو حكم عقلي بوجوب الرجوع إليه، فلا معنى لجريان أصالة عدم الجعل.
إنّ المرجّحيّة أمر توقيفي كحجيّة الحجّة نفسها فلا بُدَّ في ثبوتها من دليل شرعي وحين عدمه مقتضى الأصل عدمها، وعلى هذا فالأصل في مرجحية الأعلمية هو عدم كونها مرجّحاً(2).
وفيه: أوَّلاً: إنَّ باب المرجحات يأتي بعد فرض تعارض الحجّتين فنحتاج في ترجيح إحداهما على الأخرى إلى المرجحات التعبدية، والمقام ليس من هذا؛ لأنّه مع وجود فتوى الأعلم يشك في حجيّة الحجّة الثانية وهي فتوى غير الأعلم فيساوق القطع بعدم حجيّتها(3).
وثانياً: إنّ أصالة عدم كون الأعلمية مرجحاً لا تثبت لا التخيير العقلي ولا الشرعي: أمّا الأوَّل فلبقاء احتمال الخصوصيّة عقلاً في فتوى الأعلم، وأمّا الثّاني فلعدم شمول الأدلة لفتوى غير الأعلم نفياً وإثباتاً حسب الفرض.
ص: 229
وثالثاً: إنّ أصالة عدم المرجحيّة - على فرض جريانها - تعارض أصالة عدم الحجيّة في الطرف الآخر فيتساقطان فيحكم العقل بالرجوع إلى الأعلم؛ لأنّه معذِّر قطعاً.
فصَّلَ بعضهم في مقتضى الأصل العملي بين القول بالطريقية في باب الأمارات فيتعيّن الرجوع إلى الأعلم وبين القول بالسّببية فيها فيتخيّر بينه وبين غير الأعلم.
بيانه: أمّا على الطريقيّة فلما سبق من جريان الاشتغال، وأمّا على السّببيّة فلدخول التعارض بين فتوى الأعلم وغيرها في باب التزاحم، ومقتضى حكم العقل فيه هو التخيير وإنْ احتمل الأهميّة في أحدهما.
وحاصل البيان على السّببيّة: أنّه يوجد مقتضي لجعل حكم مماثل في مؤدّى كلّ من الفتويين على السّببيّة، إلّا أنّ احتمال الأهمية في فتوى الأعلم يوجب القطع بمانعيتها عن فعلية الطلب في الطرف الآخر بخلاف العكس، فإنّ مانعيّة فتوى غير الأعلم عن فعلية الطلب في الطرف الآخر - وهو الأعلم - محتملة لاحتمال عدم المزيّة، ففعلية الطلب في المهم مقطوع العدم وفي طرف الأهم محتملة إلّا أنّ احتمالها لا يوجب احتمال العقاب؛ لأنّه عقاب بلا بيان، وبما أنّ الطلب الخطابي بالإضافة إلى كلّ واحد ثابت وفعليتهما غير معقولة لعدم القدرة على امتثالهما معاً: إمّا من جهة التضاد بين الملاكين، أو من جهة التضاد بين الالتزام بحكمين، بناءً على أنّ التقليد هو الالتزام بالحكم، فيحكم العقل بالتخيير لاستحالة صيرورة الطلب الفعلي التعييني بذاته تعييناً بالفعل في كلا الطرفين عند التزاحم(1).
ص: 230
وفيه: إنّه خلط بين الأمر الدائر بين التعيين والتخيير في مؤدّى الأمارتين بناءً على القول بالسّببيّة وبين الأمر الدائر بين التعيين والتخيير في حجيّة الأمارة نفسها، وفي الأوَّل يختلف الحكم على القول بالسّببية عن القول بالطريقية بخلاف الثاني فلا يترتّب فيه فرق على القولين؛ لأنّ أصالة عدم جعل حجيّة الحجّة المشكوك حجيّتها تجري على كلا القولين، فاحتمال الأهمية في فتوى المجتهد الأعلم لا يوجب القطع بمانعيتها عن فعليّة الطلب فقط في الطرف الآخر، بل يوجب القطع بمانعيتها عن أصل اقتضاء الطرف الآخر لحكم مماثل؛ لأنّ الشّك في حجيّة الحجّة يساوي القطع بعدم حجيّتها.
ونوقش هذا البيان أيضاً، أوَّلاً: بأنّ موارد الدوران بين التعيين والتخيير تقتضي التساقط على السّببية لا التزاحم؛ لأنّه تعارض في الجعل.
وثانياً: إنّه لو احتمل الأهمية في أحد المتزاحمين فيكون هذا مجرى للاشتغال لا البراءة ببيان مذكور في محله(1). وقد عرفت أنّه لا محل لهذا الكلام في المورد؛ لأنّ هذا بعد فرض حجيّة الأمارات، ونحن نشكّ في أصل حجيّة الأمارة، والأصل الجاري فيها هو عدم الحجيّة.
إلى هنا تحصّل أنّ الأصل الجاري في المسألة لا تختلف نتيجته عن النتيجة المتحصَّلة من الأدلة الاجتهادية في المقام الأوَّل وهو عدم حجيّة قول غير الأعلم مع وجود الأعلم.
ص: 231
وللمسألة ثمرات متعدّدة نذكر واحدةً منها للأهمية
وهي أنّه بعدما اخترنا عدم حجيّة قول المفضول في بعض الصور فيبرز هنا سؤال ألا وهو: هل يجب على المكلَّف الفحص عن الأعلم والوصول إليه، وبدونه لا يجوز أن يكتفي برأي أيّ مجتهد، أو لا يجب الفحص عنه؟
أقول: إنّ للمكلّف حالتين:
الأولى: إنّه لا يعلم بوجود الأعلم حتى إجمالاً، أو علم بوجود الأعلم، لكنّه لا يعلم بالاختلاف في الفتوى بينه وبين غيره.
الثّانية: إنّه قد علم بوجود الأعلم ولو إجمالاً وأيضاً علم بالاختلاف في الفتوى كذلك.
أمّا الحالة الأولى فحكمها يتفرّع على ما بني عليه في البحث السابق، فإنْ قيل بعدم حجيّة قول غير الأعلم مطلقاً ومؤدّاه أنّ وجود رأي الأعلم مسقط لرأي غير الأعلم عن الحجيّة من الأساس، فعلى هذا يجب على المكلّف الفحص عن الأعلم، لأنّ حجيّة قول أي فقيه في حقّه متوقفة على إحراز عدم وجود الأعلم منه، ولا يجوز التمسّك بأصالة عدم وجود الأعلم؛ لأنّ الأصل في المسائل الأصولية والشبهات الحكمية لا يجوز التمسّك به إلّا بعد الفحص.
وأمّا إذا قيل بأنّ فتوى غير الأعلم حجّة في نفسها لكن بعدما علم المكلّف بمعارض لها أقوى منه لا يجوز أن يعمل بها، فعلى هذا لا يجب عليه الفحص عن الأعلم
ص: 232
مع عدم العلم بوجوده ولو إجمالاً؛ لأنّ فتوى أيّ فقيه لا يعلم بوجود الأعلم منه أو لا يعلم بالاختلاف بينهما حجّة في حقّه ومبرئ لذمته.
وقد تقدّم أنّ مقتضى الأدلة هو الرأي الثّاني لا الأوَّل، فيتفرّع على المختار في البحث السّابق عدم وجوب الفحص عن الأعلم في هذه الصورة.
أمّا الحالة الثّانية فيجب الفحص عن الأعلم فيها حتى على الرأي الثّاني؛ لأنّ المكلّف قد علم بوجود الأعلم إجمالاً، وعلم بالاختلاف في الفتاوى فأصبح رأي أحد الفقهاء الذي هو الأعلم حجّة تعيينية في حقّه، ورأي غيره ليس بحجّة في حقّه وحينئذٍ لا يجوز له أن يتبع رأي أي فقيه لاحتمال أنّه ليس هو الحجّة في حقّه فيجب عليه الفحص حتى يصل إلى ما هو حجّة في حقّه ومبرئ لذمته.
هذا ما أردنا بيانه في هذه المسألة.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على خير خلقه محمَّد وآله الطّيّبين الطّاهرين.
ص: 233
1. القرآن الكريم.
2. الاجتهاد والتقليد (أصول الاستنباط). السيد
علي تقي الحيدري. الناشر: لجنة إدارة الحوزة العلمية/ قم المقدسة. ط. الأولى. 1412ﻫ.
3. الاجتهاد والتقليد والاحتياط. تقريرات بحث سماحة السيد السيستاني (مدظله العالی) . بقلم: السّيّد محمّد علي الرباني.
4. الاجتهاد والتقليد. السيد الخميني. الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني. طهران. ط. الأولى. 1426ﻫ.
5. الاجتهاد والتقليد. السيد رضا الصدر. ط. الثانية. الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي. قم. 1420ﻫ.
6. الاجتهاد والتقليد. الشيخ محمد مهدي شمس الدين. ط. الأولى. الناشر: المؤسسة الدولية للدراسات. بيروت. 1419ﻫ.
7. الاجتهاد والتقليد. الكجوري. الناشر: النهاوندي. ط. الأولى. 1422ﻫ.
8. الاجتهاد والتقليد. تقرير بحث السيد الخوئي. تأليف: الشيخ علي الغروي. ط. الثانية. مطبعة نور الظهور. قم. 1411ﻫ.
9. الاجتهاد والتقليد. تقريرات المحقق الشيخ ضياء الدين العراقي. تأليف: الميرزا هاشم الآملي. ط. الأولى، نويد الإسلام، قم المقدسة 1430ﻫ.
10. الإحكام في أصول الأحكام. علي بن محمّد الآمدي. تحقيق: عبد الرزاق عفيفي. ط. الثانية. الناشر: المكتب الإسلامي. بيروت 1402.
11. اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي). الشيخ محمد بن الحسن الطوسي. ط. الأولى. الناشر: مؤسسة نشر دانشكاه مشهد. 1409ﻫ.
ص: 234
12. إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان. العلامة الحلي. ط. الأولى. انتشارات إسلامي. قم. 1410ﻫ.
13. تعارض الأدلّة واختلاف الحديث. تقريرات بحث سماحة السيد السيستاني (مدظله العالی) . بقلم: السيد هاشم الهاشمي.
14. تعليقة على معالم الأصول. السيد علي الموسوي القزويني. ط. الأولى. مؤسسة النشر الإسلامي1422ﻫ. قم.
15. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري. تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهدي. قم المقدسة. ط. الأولى. 1409ﻫ.
16. تقليد الأعلم. الشيخ أحمد علي الأحمدي الشاهرودي. تحقيق: الشيخ مهدي النيازي. ط. الأولى. الناشر: بيام مهر. 1425ﻫ.
17. تمهيد القواعد وهو ملحق في آخر كتاب كشف الفوائد. الشيخ زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني). ط. الأولى. الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي. قم. 1416ﻫ.
18. التنقيح في شرح العروة الوثقى. تقريرات بحث السيد الخوئي. تأليف: الشيخ علي الغروي. ط. الثالثة. مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي. قم. 1428ﻫ.
19. تهذيب الأحكام في شرح المقنعة. الشيخ محمد بن الحسن الطوسي. تحقيق السيد حسن الموسوي الخرسان. ط. الرابعة. دار الكتب الإسلامية. طهران. 1407ﻫ.
20. تهذيب الأصول. تقرير بحث السيد الخميني. بقلم الشيخ جعفر السبحاني. الناشر دار الفكر. قم. 1367ش.
21. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام. الشيخ محمّد حسن النجفي. تحقيق
ص: 235
وتعليق الشيخ عباس القوچاني والشيخ علي آخوندي. الناشر: دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان. ط. السابعة. 1404ﻫ.
22. الدروس الشرعية في فقه الإمامية. الشيخ محمد بن مكي العاملي (الشهيد الأول). ط. الثانية. انتشارات إسلامي. قم. 1417ﻫ.
23. الذريعة إلى أصول الشريعة. السيد المرتضى. ط. الأولى. مؤسسة النشر للطباعة. جامعة طهران. 1418ﻫ.
24. رسالة في الاجتهاد والتقليد. الشيخ محمد علي آراكي. ط. الأولى. الناشر: مؤسسة دراه حق. قم. 1415ﻫ.
25. رسالة في تقليد الأعلم. المحقق الميرزا حبيب الله الرشتي. الناشر: المؤلف. ط. الأولى. قم. 1323ﻫ.
26. رسائل الكركي. المحقق الثاني الشيخ علي بن الحسين الكركي. تحقيق الشيخ محمّد الحسون. الناشر: مكتبة السيد المرعشي. قم. ط. الأولى. مطبعة خيام. 1409ﻫ.
27. زبدة الأصول. الشيخ البهائي. ط. الأولى. الناشر: المرصاد. قم. 1423ﻫ.
28. فرائد الأصول. الشيخ مرتضى الأنصاري. تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم. ط. الرابعة. مجمع الفكر الإسلامي. قم المقدسة. 1424ﻫ.
29. الفصول الغروية في الأصول الفقهية. الشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الحائري. الناشر: دار إحياء العلوم الإسلامية. قم. ط. الأولى. 1404ﻫ.
30. فيض القدير في شرح الجامع الصغير نقلاً عن البيهقي. تحقيق أحمد عبد السلام. ط. الأولى. الناشر: دار الكتب العلمية. بيروت. 1415ﻫ.
ص: 236
31. القوانين المحكمة (قوانين الأصول). الميرزا أبو القاسم القمي. الناشر: دار إحياء الكتب الإسلامية. قم. ط. الأولى. 1430ﻫ.
32. الكافي. الشيخ محمد بن يعقوب الكليني. تحقيق ونشر دار التراث للحديث. قم المقدسة. ط. الأولى.
33. الكافي. الشيخ محمد بن يعقوب الكليني. ط. الرابعة. دار الكتب الإسلامية. طهران. 1407ﻫ.
34. كفاية الأصول. الشيخ محمد كاظم الخراساني. تحقيق عباس الزارعي. ط. الأولى. الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي. قم. 1427ﻫ.
35. كمال الدين وتمام النعمة. الشيخ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي. تحقيق علي أكبر الغفاري. ط. الثانية. دار الكتب الإسلامية. طهران. 1395ﻫ.
36. المحكم في أصول الفقه. السيد محمّد سعيد الحكيم (دام ظله). ط. الأولى. الناشر: مؤسسة المنار. 1414ﻫ.
37. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام. الشيخ زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني). تحقيق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامية. قم المقدسة. ط. الأولى 1413 ﻫ.
38. مسائل من الاجتهاد والتقليد. الشيخ حسين النوري الهمداني. ط. الأولى. مكتبة الإعلام الإسلامي. قم. 1415ﻫ.
39. المستصفى في علم الأصول. أبو حامد الغزالي. طبعه وصححه: محمد عبد السلام عبد الشافي. دار الكتب العلمية. بيروت. 1417ﻫ.
40. مستمسك العروة الوثقى. السيد محسن الحكيم. ط. الأولى. دار الهدى. قم المقدسة. 1431ﻫ.
ص: 237
41. مستند الشيعة في أحكام الشريعة. الشيخ أحمد بن محمد مهدي النراقي. ط. الأولى. تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) . قم. 1415ﻫ.
42. مطارح الأنظار. تقرير بحث الشيخ مرتضى الأنصاري. تأليف: أبو القاسم كلانتري. تحقيق: مجمع الفكر الإسلامي. المطبعة: شريعت. قم. ط. الأولى. 1425ﻫ.
43. معارج الأصول. المحقق الحلي. ط. الأولى. مؤسسة الإمام علي (علیه السلام) . لندن. 1423ﻫ.
44. معالم الدين وملاذ المجتهدين. الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني. مع حاشية سلطان العلماء. ط. الثانية. الناشر: القدس. قم. 1418ﻫ.
45. من لا يحضره الفقيه. الشيخ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي. تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري. الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين. قم المقدسة. ط. الثانية. 1413 ﻫ.
46. نهاية الدراية في شرح الكفاية. المحقق محمّد حسين الأصفهاني. تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث. ط. الثانية. 1429ﻫ.
ص: 238
يُقسَّم الحكم الشرعي إلى تقسيمات عديدة باعتبارات مختلفة, منها انقسامه إلى حكم موسّع وغير موسّع باعتبار إمكان إبداله إلى بعض وجوهه, بحيث يكون المكلّف في مندوحة من الأخذ بأيٍّ من تلك الوجوه - بحسب موارد الحكم الموسّع كما ستعرف - في مقام الامتثال.
وللأحكام الموسّعة أهمية؛ حيث إنّها تُعدّ من وجوه علاج التعارض بين الروايات.
ص: 239
ص: 240
بسم الله الرحمن الرحیم
يُقسَّم الحكم الشرعي إلى تقسيمات عديدة باعتبارات مختلفة, منها انقسامه إلى حكم موسّع وغير موسّع باعتبار إمكان إبداله إلى بعض وجوهه, بحيث يكون المكلّف في مندوحة من الأخذ بأيٍّ من تلك الوجوه - بحسب موارد الحكم الموسّع كما ستعرف - في مقام الامتثال. وللأحكام الموسّعة أهمية؛ حيث إنّها تُعدّ من وجوه علاج التعارض بين الروايات, ولكي يتّضح موضوع البحث - موارد الأحكام الموسّعة - سنُشير إجمالاً إلى أقسام التعارض, وأقسام الجمع الدلالي تمهيداً للبحث.
أقسام التعارض: وينقسم التعارض إلى قسمين:
التعارض غير المستقر: وهو الذي ينتهي إلى اكتشاف جمع دلالي بين الدليلين ينكشف به المراد الجدي بهما, ويكون ذلك في حال وجود مرجّح دلالي لأحد الدليلين قرينةً عرفاً على المراد بالآخر .
التعارض المستقر, وهو الذي لا ينتهي بجمع دلالي مقبول بين الطرفين فيؤدي إلى تكاذب الدليلين جهة وصدوراً.
ص: 241
وللجمع الدلالي بين الدليلين الرافع للتعارض بينهما نكاتٌ عديدة، منها حمل أحد الدليلين على كون الحكم فيه موسعاً, أو حمل الدليل الآخر على كون الحكم فيه مضيقاً.
وبهذا الاعتبار ينقسم الجمع الدلالي في حالات التعارض غير المستقر إلى ما يُنتج كون الحكم في المورد من قبيل الأحكام الموسّعة. وما لا يُنتج ذلك فيجري في مورد كون الحكم من قبيل الأحكام المضيّقة.
وهذان القسمان بالحقيقة هما نحوان من الجمع الدلالي يختلف فيهما مبنى الجمع ومُصحّحه, كما يختلف مصحّح صدور الكلام الذي يحمل على الكلام الآخر.
وأوَّل من تعرّض لهذا البحث بهذه الصيغة - وهو تفاوت الجمع الدلالي وحيثياته في الأحكام الموسّعة وغيرها - سماحة السيد السيستاني (مدظله العالی) في بحثه الشريف(1) حول تعارض الأدلة الشرعية عندما تناول في هذا البحث أسباب الاختلاف والكتمان الناشئ من المعصومين (علیهم السلام), ناقلاً التنبيه على أصله عن العلّامة الميرزا مهدي الأصفهاني من أجلّة تلامذة المحقّق النائيني (قدس سره) .
ص: 242
الحكم الموسع: هو الحكم الذي يكون في مورده نحو توسعة تتيح إبداله عن وجهه الأصلي تارة. أو البناء على بعض وجوهه أخرى، ويشمل ذلك حالات عديدة:
1- أنْ يكون الحكم الواقعي ترخيصاً مقروناً برجحان أو مرجوحيّة من غير إلزام، فيمكن أنْ يرد بعض الأدلة في هذه الحالة بمحض الترخيص, ويرد بعضها ببيان الرجحان أو المرجوحيّة على ما هو عليه من عدم الإلزام، ويرد بعضها الآخر على وجه ظاهر في الإلزام دفعاً للمكلف إلى الأخذ بالفضل, أو لغيره من الأغراض الآتية.
2- أنْ يكون الحكم الواقعي وجوباً متعلّقاً بالطبيعة, فيكون المكلّف مخيّراً عقلاً بمقتضاه بين حصصه، فيرد بعض الأدلة بالأمر به حسب وجهه الواقعي, بينما يرد بعضها الآخر بالأمر بحصة منه لفضيلة فيها, أو لنكتة أُخرى.
3- أنْ يكون الحكم الواقعي وجوباً تخييريّاً بين عدّة خصال فيرد الأمر على وجهه في بعض الأدلة, ويرد الأمر ببعض الخصال لفضيلة, أو ملائمة مع حال سائل آخر. وقد يتفق أنْ لا يرد الأمر التخييري بين الخصال في شيء من الأدلة, وإنَّما يُستكشف من الأوامر المتوجّهة إلى الخصال جمعاً بينها .
4- أنْ يكون الحكم الواقعي وجوباً موسّعاً, فيرد الأمر على وجهه في بعض الأدلة, ويرد الأمر بالواجب في أوَّل الوقت أو غيره لفضلٍ, أو نكتة أُخرى.
5 - أنْ يكون الحكم الواقعي وجوباً كفائياً, ويرد الأمر على وجهه في بعض الأدلة, ولكن يوّجه إلى بعض المكلفين لنكتة خاصّة في المورد.
ولا تختصّ الأحكام الموسّعة بالأحكام التكليفيّة, بل تشمل الأحكام الوضعيّة,
ص: 243
فقد يكون الحكم الوضعي مقتضياً للتوسعة كالطهارة, فيرد الدليل به تارة. وبالتضييق أخرى, من جهة درك فضيلة, مثل استحباب التطهير كما قيل في الأخبار الآمرة بالنزح من البئر عند وقوع النجاسة فيه.
وهكذا نلاحظ أنّ الجمع الدلالي في هذه الموارد لا يكون لصرف النظر عن مدلول أحد الدليلين رأساً؛ لعدم كون ما فيه بياناً للحكم الواقعي على نحوِ ما يتحقّق في حمل العامّ على الخاصّ, حيث يُحمل العامّ على أنّه ليس مسوقاً لبيان الحكم الواقعي أو وجهاً من وجوهه في مورد الخاصّ, وإلّا سيق في مقام تعليم القاعدة العامّة, بل كلٌ من الأدلة في هذه الموارد ناظرٌ إلى الحكم الواقعي: إمّا بجميع وجوهه, أو يكون بعضها مُصحّحاً لذكرِ الحكم لا على وجهه في مورد الأحكام الموسّعة.
ثُمّ إنّ موارد الجمع بين الدليلين هي الموارد التي يكون الحكم في بعضها موسّعاً، فإنّ ذكر الحكم على بعض وجوهه - لا على وجهه الواقعي بحدّه لأغراض خاصّة - لا يُجزي مثلها في موارد الأحكام المضيّقة:
منها: السّوق إلى الكمال, فإنّ الزعيم الموجِّه للجماعة والمتصّدي لسوقهم إلى الكمال, قد يقتصر على بعض أفراد الواجب التخييري فيما إذا كان ذلك البعض أفضل، كما في العتق في كفارة الإفطار في شهر رمضان، فالشخص يذكر للإمام (علیه السلام) أنّه افطر متعمداً في شهر رمضان, فيأمره الإمام (علیه السلام) بعتق رقبة؛ لأنّ العتق أفضل أفراد الواجب التخييري، أيّ أفضل من إطعام ستين مسكيناً, أو من صوم شهرين متتابعين.
ومنها: الرفق بحال السّائل كما في الأمر بذبح شاة في بعض كفارات الحج, مع أنّ الكفارة مخيّرة بين الشّاة والبقرة والبعير, ولكن رفقاً بحال السّائل من جهة كونه فقيراً يأمره الإمام (علیه السلام) بذبح الشاة من دون ذكر باقي أفراد الواجب التخييري .
ص: 244
ومنها: إيقاع الخلاف بين الشيعة ليعطي انطباعاً للسلطة الغاشمة أنّ الشيعة ليسوا بجماعة موحَّدة وموجَّهة من قيادة واحدة, بل لهم قيادات متعددة ولذلك فهم يختلفون فيما بينهم حتى في أداء عبادتهم, فيدفع الإمام (علیه السلام) عن نفسه وعن شيعته الأذى. وقد تنبّه إلى تأثير هذا العامل في اختلاف الأحاديث صاحب الحدائق حيث ذكر في الحدائق: (فصاروا صلوات الله عليهم - محافظة على أنفسهم وشيعتهم - يخالفون بين الأحكام وإن لم يحضرهم أحد من أولئك الأنام، فتراهم يجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة متعددة وإنْ لم يكن بها قائل من المخالفين)(1) .
وقد ذكر السيد السيستاني (مدظله العالی) في بحثه الشريف حول إيقاع الخلاف بين الشيعة: (إنّ وجود الرقابة الشديدة على الأئمة (علیهم السلام) وشيعتهم في تلك الفترة كانت تفرض وجود بعض الاختلافات الشكلية والصورية في الأحكام فيما بينهم, فإنّ اتفاق كلمتهم على الحكم سيكشفهم للسلطة ويكشف انتسابهم للإمام (علیه السلام), وسيعرضهم لمخاطر كان من الممكن تفاديها بإلقاء الاختلاف بينهم في الأحكام التي لم تكن بتلك الدرجة من الأهمية)(2) .
ومثل ذلك إيقاع الخلاف بينهم أحياناً وقاية للإمام (علیه السلام) عن أنْ يُطعن عليه من قِبل عموم الناس, أو علمائهم فيما تختلف فتاواهم عنهم, وقد ذكر السيد السيستاني (مدظله العالی): (ومن هنا نجد أنّ الإمام الباقر والصادق (علیهما السلام) على الرغم من تبنيهما مذهباً فقهياً يخالف ما عليه العامّة, لكنّهما يتمتعان بالوثاقة والاعتبار والمكانة المحترمة عند العامّة, مع أنّ عادة العامّة الجرح لأدنى سبب, فإنّهم حين يرون اختلاف الشيعة فربّما نسبوا ذلك
ص: 245
للشيعة أنفسهم لا إلى الأئمّة (علیهم السلام), فيتصوّرون أنّ الأئمّة (علیهم السلام) لا يخالفونهم وإنمّا الخلاف جاء من الشيعة أنفسهم. ويشهد لذلك ما جاء في الكشي ونقله عنه في رجال المامقاني عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، وقد تُرجم في كتاب (ميزان الاعتدال للذهبي) قال: "قلت لشريك - وهو من العامّة - إنّ أقواماً يزعمون أنّ جعفر بن محمّد ضعيفٌ في الحديث؟ فقال: أُخبرك القصة كان جعفر بن محمّد رجلاً صالحاً مسلماً ورعاً, فاكتنفه قومٌ جهّال يدخلون عليه ويخرجون من عنده ويقولون حدّثنا جعفر بن محمّد, ويحدّثون أحاديث كلَّها منكرات كذب موضوعة على جعفر, يستأكلون الناس بذلك ويأخذون منهم الدراهم" - إلى أنْ قال - فنجد أنّ التغطية التي كان يهدفها الإمام من خلال إلقاء الخلاف بين الشيعة قد تحقّقت بالفعل)(1) .
ومنها: مداراة الأئمة (علیهم السلام) لبعض الشيعة ممّن كان قليل التحمّل لبعض الأحكام, أو للتقيّة من العامّة كما سيأتي في مورد أمر الإمام (علیه السلام) بالصلاة تامّة في المسجد الحرام, وقد ذكر السيد السيستاني (مدظله العالی) في بحثه الشريف حول المداراة مع السائل: (قد يكون السائل من أهل الولاية, ولكن نتيجة لبعض العوامل لا يكون بمستوى تحمّل معرفة الحكم الواقعي, كما لو كان يعيش آراء المخالفين, أو كانت مرتكزاته محكومة بالتبليغ المضاد للحكم الواقع, أو لاشتهار الحكم المخالف بحيث يستغرب من الرأي الجديد ونحو ذلك ممّا يستوجب عدم إمكان التصريح له بالحكم الواقعي ومواجهته به، فربّما أدّى ذلك إلى تشكيكه في معتقداته الحقّة)(2) .
إذا عرفت ما تقدّم فلندخل في أصل البحث حول الدليل على كون التوسعة سبباً في
ص: 246
تعارض الأخبار, وينبّه على هذا الأصل العامّ في سبب تعارض الأخبار والجمع بينها بحملها على كون الحكم موسعاً مجموعتان من الروايات:
إحداهما: عامّة, تنبّه على هذا المعنى بنحو كليٍّ وصريح, إذ تدلّ على أنّه متى كان الحكم موسعاً فقد يتكلم الإمام (علیه السلام) ببعض وجوهه في بعض الأدلة, وببعضها الآخر في آخر منها.
والأُخرى: موارد خاصّة تعارضت فيها الروايات، دلّ بعضها على أنّ كون الحكم موسَّعاً هو أساس الاختلاف.
وهناك مجموعة ثالثة وهي الموارد التي تختلف فيها الأخبار, وتُخرّج على أنّ منشأ الاختلاف توسعة الحكم في المورد لا لدلالة بعض الأدلّة فيه على ذلك صريحاً, بل من جهة إعمال موازين الجمع بين الدليلين, وهذه المجموعة كثيرة من أوَّل الفقه إلى آخره. ولا حاجة إلى ذكرها أو ذكر شيء منها.
ص: 247
ونذكر منها ما ورد في معتبرة عبد الأعلى بن أعين قال: سأل علي بن حنظلة أبا عبد الله (علیه السلام) عن مسألة وأنا حاضر فأجابه فيها، فقال له علي: فإنْ كان كذا وكذا، فأجابه بوجه آخر، حتى أجابه بأربعة أوجه، فقال علي بن حنظلة: يا أبا محمّد هذا باب قد أحكمناه، فسمعه أبو عبد الله (علیه السلام) فقال: (لا تقل هكذا يا أبا الحسن، فإنّك رجل ورع, إنّ من الأشياء أشياء مضيّقة وليس يجري إلَّا على وجه واحد، منها وقت الجمعة ليس وقتها إلَّا حدّ واحد، حين تزول الشمس، ومن الأشياء أشياء موسّعة تجري على وجوة كثيرة وهذا منها، والله إنّ له عندي لسبعين وجهاً)(1).
والكلام تارةً في سند الرواية. وأُخرى في دلالتها:
أمّا السند فقد وردت الرواية في كتاب المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي - وإليه يرجع ضمير (عنه) في أوَّل الإسناد - عن أبيه وهو محمّد بن خالد البرقي، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن عبد الأعلى بن أعين.
وإسناد الرواية صحيح.
أمّا أحمد بن محمّد البرقي صاحب كتاب المحاسن فقد وثّقه النجاشي والطوسي (2). وقال عنه ابن الغضائري: (طعن القميّون عليه، وليس الطعن فيه, وإنّما الطعن في مَنْ يروي عنه)(3). وهو من الطبقة السابعة.
ص: 248
أمّا محمّد بن خالد البرقي فهو قميّ والد صاحب المحاسن, وثّقه الشيخ(1), إلَّا أنّ النجاشي ضعّفه(2) . ولكن التضعيف غير ظاهر فيه, بل لا يبعد أنْ يرجع إلى حديثه لأنَّه كان يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، وعن ابن الغضائري إنّه يعرف وينكر(3).
وهذا الكلام أيضاً لا يمثّل قدحاً في الرجل؛ إذ يجوز أنْ يكون إنكار بعض ما رواه من جهة ضعف من روى عنه. وعليه يكون توثيق الشيخ له بلا معارض. وهو من الطبقة السادسة .
وأمّا علي بن النعمان فهو النخعي الكوفي ثقة، ثبت، وجه صحيح واضح الطريقة، كما عن النجاشي(4). وهو من السادسة.
وأمّا عبد الله بن مسكان فهو كوفي وثّقه الشيخ(5) . وقال عنه النجاشي ثقة عين (6).
وعدّه المفيد في رسالته العددية من الفقهاء الأعلام الذين لا مطعن عليهم (7) . وعدّه الكشي من أصحاب الإجماع(8) . وهو من الطبقة الخامسة.
وأمّا عبد الأعلى بن أعين العجلي فهو كوفي, قال عنه الشيخ المفيد (قدس سره) في رسالته العددية أنّه من فقهاء أصحاب الصادقين (علیهما السلام), والأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم
ص: 249
الحلال والحرام والفُتيا والأحكام الذين لا يُطعن عليهم ولا طريق إلى ذم واحد منهم, وهم أصحاب الأصول المدونة والمصنّفات المشهورة (1) . وهو من الطبقة الخامسة.
ولو نوقش(2) في وثاقته لمجرّد ورود اسمه في العبارة المتقدّمة للشيخ فيمكن توثيقه من خلال رواية صفوان عنه, لأنّ عبد الملك بن أعين هو نفسه عبد الأعلى الذي يروي صفوان عنه.
وبهذا تكون الرواية معتبرة لعدم وجود إبهام, أو ضعف في حال أيّ رجل من رجال سند الرواية.
وأمّا البحث عن دلالة المعتبرة فالظاهر أنّ المراد من قوله (علیه السلام): (من الأشياء أشياء موسّعة)، أنّ من الوقائع ما فيها سعة بحسب واقعها, وما يصدر فيها من روايات مشتملة على التحديد فليست واردة لبيان الحكم الواقعي بحدِّه.
والقرينة على هذا المعنى أخبارٌ أخرى ذُكر فيها أنّ الصلاة من الموسّعات مّما يدلّ على إرادة هذا المعنى بالأشياء الموسّعة في معتبرة عبد الأعلى بن أعين:
منها: معتبرة زرارة وقد رواها الشيخ، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة قال سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: (إنّ من الأمور أموراً مضيّقة وأموراً موسّعة، وأنّ الوقت وقتان، الصلاة ممّا فيه السعة فربّما عجّل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وربّما أخّر إلَّا صلاة الجمعة، فإنّ صلاة الجمعة من الأمر المضيّق إنّما لها وقت واحد حين تزول، ووقت العصر يوم الجمعة وقت الظهر في سائر الأيام)(3) .
ص: 250
ومنها: خبر الفضيل بن يسار عن أبي جعفر قال: (إنّ من الأشياء أشياء موسّعة وأشياء مضيّقة, فالصلاة ممّا وُسّع فيه تقدَّم مرة وتؤخّر أُخرى. والجمعة ممّا ضيّق فيها, فإنّ وقتها يوم الجمعة ساعة تزول، ووقت العصر فيها وقت الظهر في غيرها)(1) .
والذي يظهر كما أُفيد (2) أنّ علياً بن حنظلة قد ذكر للإمام (علیه السلام) شقوقاً لا يختلف الحكم الإلزامي من جهتها, بل يختلف الحكم غير الإلزامي بلحاظها, وكان يتصوّر أنّ هذا ممّا يجري في سائر الموارد, فنبّهه الإمام (علیه السلام) على أنّ الأحكام على قسمين: منها ما لا يكون إلّا على وجه واحد. ومنها ما يكون على وجوه متعدّدة لكونها من الموسّعات.
ومنها: موثقة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له يكون أصحابنا في المكان مجتمعين في قوم بعضهم يصلي الظهر وبعضهم يصلي العصر قال: (كلّ ذلك واسع) (3) .
ومنها: معتبرة علي بن رئاب المروية في قرب الإسناد قال سمعت عبيد بن زرارة يقول لأبي عبد الله (علیه السلام)
يكون أصحابنا مجتمعين في منزل الرجل منّا، فيقوم بعضنا يصلي الظهر, وبعضنا يصلي العصر وذلك كله في وقت الظهر قال: (لا بأس الأمر واسع بحمد الله ونعمته)(4) .
ص: 251
وهي الأخبار الواردة في مسائل بخصوصها, ويكون وجه الجمع بينها هو حملها على كون الحكم موسّعاً بدلالة بعض أخبار الباب نفسها, فهي كما لاحظنا وردت في موارد خمسة:
1. أوقات الصلوات اليومية.
2. أعداد الصلوات النوافل.
3. الصلاة في الحرمين الشريفين.
4. كيفية الإحرام لحج التمتع من الميقات.
5. إدراك حدّ المتعة.
ص: 252
لا شكّ في أنّ أوقات الصلوات اليومية من جملة الأمور الموسّعة عدا صلاة الجمعة التي حدّد وقتها بأوّل الزوال. فوقت صلاة الصبح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس, ووقت الظهرين من الزوال إلى الغروب, ووقت العشاءين من الغروب إلى منتصف اللّيل، على تفصيل مذكور في محلّه.
ولا شكّ أيضاً في اختلاف وقت الفضيلة فيها عن وقت الإجزاء لتواتر النصوص بذلك. ولكن اختلفت النصوص في ما حثّت عليه اختلافاً شديداً, كما اختلف عمل الشيعة في عصر الأئمة (علیهم السلام), وقد وقع ذلك في مواضع عديدة نقتصر هنا على التعرض لوقت فضيلة الظهرين.
فقد اختلفت فيه الروايات وعمل الأصحاب منذ عصر الصادق (علیه السلام) اختلافاً بيّناً، فقد ورد في بعضها الحثّ على المبادرة إليهما دون انتظار كما رواه منصور بن حازم والحارث بن المغيرة وعمر بن حنظلة, وقد رواه عنهم ابن مسكان، حيث قالوا: كنّا نقيس الشمس بالمدينة بالذراع فقال أبو عبد الله (علیه السلام): (ألا أنبئكم بأبيّن من هذا؟ إذا زالت الشّمس فقد دخل وقت الظّهر)(1).
وجه الدلالة: إنّ هؤلاء الرواة إنّما كانوا يقيسون الوقت بالذراع طلباً لوقت الفضيلة وليس لوقت الإجزاء, إذ كانت الشّمس قد زالت، ولا شكّ بدخول الوقت بزوالها، وقد وجّههم الإمام (علیه السلام) إلى الصّلاة عند الزّوال بعد النّافلة.
ص: 253
ومنها: ما ورد في تحديد وقته بالأقدام, وهذه الطائفة مختلفة، فقد دلّ بعضها على أنّ وقت الظهر من زوال الشّمس ووقت العصر عندما يبلغ الظل أربعة أقدام.
فعن إبراهيم الكرخي قال: سألت أبا الحسن موسى (علیه السلام) متى يدخل وقت الظهر؟ قال: (إذا زالت الشّمس) فقلت: متى يخرج وقتها؟ فقال: (من بعد ما يمضي من زوالها أربعة أقدام. إنّ وقت الظهر ضيّق) . فقلت: فمتى يدخل وقت العصر؟ فقال: (إنّ آخر وقت الظهر أوَّلُ وقت العصر ...)(1) الحديث.
ومنها: ما دلّ على تحديد وقت الظهرين بالذّراع والذّراعين، كما رواه زرارة، قال زرارة قال لي أبو جعفر (علیه السلام) حين سألته عن ذلك إنّ حائط مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان قامة فكان إذا مضى من فيئه ذراع صلّى الظّهر وإذا مضى من فيئه ذراعان صلّى العصر...)(2)، وفي ذيلها (قال ابن مسكان: وحدّثني بالذّراع والذّراعين سليمان بن خالد, وأبو بصير المرادي, وحسين صاحب القلانس, وابن أبي يعفور, ومن لا أحصيه منهم) .
ومنها: ما دلّ على تحديد وقت الظهرين بالقامة والقامتين. فعن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عمر، عن أبي الحسن (علیه السلام) قال سألته عن وقت الظهر والعصر؟ فقال: (وقت الظهر إذا زالت الشمس إلى أن يذهب الظّل قامة، ووقت العصر قامة ونصف إلى قامتين)(3).
فالملحوظ اختلاف روايات الباب الواردة عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن
ص: 254
موسى (علیهم السلام) اختلافاً ظاهراً.
وقد وصف هذا الاختلاف بعض الرواة المتأخّرين للأئمة اللاحقين كما في رواية محمّد بن أحمد بن يحيى، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن (علیه السلام) روي عن آبائك القدم والقدمين والقامة والقامتين وظل مثلك والذراع والذراعين، فكتب (علیه السلام): (لا القدم ولا القدمين إذا زالت الشّمس فقد دخل وقت الصلاتين, وبين يديها سبحة وهي ثمان ركعات فإنْ شئت طوّلت وإنْ شئت قصرّت، ثُمَّ صلّ صلاة الظّهر, فإذا فرغت كان بين الظّهر والعصر سبحة, وهي ثمان ركعات إنْ شئت طوّلت وإنْ شئت قصرّت ثُمَّ صلّ العصر) .
ولنوضّح حال هذه الرواية سنداً و دلالةً.
أمّا سند الرواية فقد ذكره الشيخ في التهذيب هكذا: (سعد بن عبد الله, عن محمّد ابن أحمد) وطريق الشيخ إلى سعد بن عبد الله هو: الشيخ أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان - أيّ الشيخ المفيد (قدس سره) - عن أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه, عن أبيه, عن سعد بن عبد الله.
أمّا الشيخ المفيد (قدس سره) فقد ترضّى عنه النجاشي (رحمة الله) وقال: فضله أشهر من أنْ يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم(1). وقال الشيخ انتهت إليه رئاسة الإمامية (2). وهو من الطبقة الحادية عشر.
وأمّا جعفر بن محمّد بن قولويه فهو صاحب كتاب كامل الزيارات قال النجاشي (رحمة الله):
ص: 255
أبو القاسم من ثقات أصحابنا وأجلّائهم في الحديث والفقه(1). وهو من الطبقة العاشرة.
وأمّا محمّد بن جعفر بن قولويه فهو والد صاحب كتاب كامل الزيارات, قال فيه النجاشي: أنّه من خيار أصحاب سعد (2) .
ولكن هل يعدّ هذا توثيق؟ يمكن أنْ يُتأمّل فيه. نعم, من يلتزم بوثاقة مشايخ ابن قولويه - صاحب كتاب كامل الزيارات - كالسيد الخوئي (قدس سره) فهو يُعدّ عنده ثقة، لأنّ ابن قولويه قد أكثر الرواية عن أبيه, فهو - أيّ الأب - يُعدّ من مشايخ ابن قولويه صاحب الكتاب.
وعليه فيمكن الكلام في هذا الطريق, ولكن الذي يهوّن الأمر وجود طريق آخر للشيخ الطوسي (قدس سره), وهو: الشيخ المفيد، عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن سعد.
أمّا الشيخ المفيد فقد تقدّم ذكر وثاقته.
وأمّا أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين فهو الصّدوق صاحب كتاب من لا يحضره الفقيه، قال عنه النجاشي (رحمة الله): (شيخنا وفقيهنا, ووجه الطائفة بخراسان)(3). وهو من الطبقة العاشرة.
وأمّا الأب فهو علي بن الحسين بن بابويه، قال عنه النجاشي: (شيخ القميين في عصره ومتقدّمهم وفقيههم وثقتهم)(4). وهو من الطبقة التاسعة. وعليه يكون طريق
ص: 256
الشيخ إلى سعد بن عبد الله صحيحاً, ولا إشكال فيه.
وأمّا سعد بن عبدالله فقد قال عنه النجاشي (رحمة الله): (شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها)(1). وهو من الطبقة الثامنة.
وأمَّا محمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري فقد قال عنه النجاشي: (كان ثقة في الحديث, إلاَّ أنّ أصحابنا قالوا كان يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل)(2). ولكن هذا لا يضر بوثاقته.
وعليه فلا إشكال في الرواية من جهة ما تقدَّم. ولكن محمّد بن أحمد بن يحيى روى هذه الرواية عن بعض أصحابنا ولم يحدّده, فهو مرسل بإبهام الواسطة، إلاّ أنْ يظهر من النقل وقوفه على الكتاب, لأنَّه قال: (كتب بعض أصحابنا...). هذا عن إسناد الرواية.
وأمَّا الكلام في دلالة الرواية، فالرواية تدلُّ على وجود اختلاف في وقت صلاتي الظّهر والعصر، حيث نُلاحظ أنَّ الوارد عن أهل البيت (علیهم السلام) مختلف، فالقدم والقدمين يختلف عن القامة والقامتين وهو يختلف عن الذراع والذراعين، وهذا يكشف بصورة واضحة عن أنّ الحكم الوارد في أوقات الصلاة - صلاتي الظّهر والعصر - لم يكن لبيان الحكم الواقعي بحدّه - وإلّا لما كان مختلفاً بهذه الكيفية - بل الأمر موسَّع على المكلَّف.
هذا وصف اختلاف الروايات والرواة في فضيلة الوقت.
وقد اختلف الفقهاء في وجه الجمع بين هذه الروايات:
فقد سلك جمع من القدماء مسلك الجمع الدلالي, وهو الّذي رواه الكليني عن علي
ص: 257
ابن إبراهيم, عن أبيه, عن صالح بن سعيد, عن يونس, عن بعض رجاله, عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عمَّا جاء في الحديث أنْ صلِّ الظهر إذا كانت الشمس قامة وقامتين, وذراعاً وذراعين, وقدماً وقدمين, من هذا ومن هذا فمتى هذا؟ وكيف هذا وقد يكون الظّل في بعض الأوقات نصف قدم؟ قال: (إنَّما قال ظلّ القامة ولم يقل قامة الظلّ، وذلك أنَّ ظلِّ القامة يختلف: مرّة يكثر، ومرَّة يقلّ، والقامة قامة أبداً لا تختلف).
ثُمَّ قال: (ذراع وذراعان، وقدم وقدمان، فصار ذراع وذراعان تفسير القامة والقامتين في الزمان الذي يكون فيه ظلّ القامة ذراعاً وظلُّ القامتين ذراعين، فيكون ظلّ القامة والقامتين والذراع والذراعين متفقين في كلّ زمان معروفين مفسّراً أحدهما بالآخر مسدداً به. فإذاً كان الزمان يكون فيه ظلّ القامة ذراعاً كان الوقت ذراعاً من ظلّ القامة وكانت القامة ذراعاً من الظلّ، وإذا كان ظلّ القامة أقل أو أكثر كان الوقت محصوراً بالذراع والذراعين، فهذا تفسير القامة والقامتين والذراع والذراعين)(1).
هذا, ولكنّ الأقرب اختلاف مؤدّى هذه الروايات فعلاً كما فهم الأصحاب أنفسهم في تلك العصور، ولكنّ السرَّ في الاختلاف كون الأمر من الموسّعات, وقد أوقع الإمام (علیه السلام) الاختلاف بينهم لحكمة.
والذي ينبَّه على هذا - مضافاً إلى الرواية العامّة المتقدّمة, وما ذكرناه معها ممّا تضمّن أنَّ وقت الصلاة من الموسّعات, وأنَّ الإمام (علیه السلام) يجيب فيها على وجوه - روايات ثلاثة:
ما رواه الشيخ، عن الحسين بن سعيد، عن عبد الله بن محمّد، عن أبي الحسن الهادي (علیه السلام), قال كتبتُ إليه: جُعلتُ فداك، روى أصحابنا عن أبي جعفر وأبي
ص: 258
عبد الله (علیهما السلام) أنَّهما قالا: (إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين, إلّا أنَّ بين يديهما سبحة, إنْ شئت طوّلت وإنْ شئت قصَّرت. وروى بعض مواليك عنهما أنّ وقت الظّهر على أربعة أقدام من الزوال فإذا صلَّيت قبل ذلك لم يجزك وبعضهم يقول يجزي، ولكنّ الفضل في انتظار القدمين والأربعة أقدام، وقد أحببت - جعلت فداك - أن أعرف موضع الفضل في الوقت؟ فكتب: (القدمان والأربعة أقدام صواب جميعاً)(1).
أمّا سند الرواية فإنّ طريق الشيخ في المشيخة إلى الحسين بن سعيد معتبرٌ لا إشكال فيه. وأمّا عبد الله بن محمّد فهو الحُضيني, قال النجاشي: (ثقة ثقة)(2). وهو من الطبقة السادسة.
وعليه فالرواية معتبرة.
وأمّا دلالة الرواية فهي تدلّ بصورة واضحة على أنَّ الإمام (علیه السلام) لم يكن بصدد بيان الحكم الواقعي بحدّه وإلّا لكان اقتصر على وقت واحد, وهذا يدلّ على أنَّ الوقت من الموسّعات، أي يكون الحكم موسّعاً على المكلَّف.
معتبرة سالم أبي خديجة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سأله إنسان وأنا حاضر، فقال: دخلتُ المسجد وبعض أصحابنا يصلّون العصر وبعضهم يصلُّون الظهر فقال: (أنا أمرتهم بهذا، لو صلّوا على وقت واحد عرفوا فأخذ برقابهم) (3) .
والكلام تارة في سند هذا الحديث. وأخرى في دلالته.
أمَّا سند الحديث فقد رواه الكليني، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن
ص: 259
عبد الرحمن بن أبي هاشم البجلي، عن سالم أبي خديجة عن أبي عبد الله (علیه السلام) .
أمّا الكليني فهو موثّق صريحاً دون خلاف. قال عنه النجاشي: (أوثق الناس في الحديث وأثبتهم)(1). وهو من الطبقة التاسعة.
أمّا محمّد بن يحيى فهو العطّار من مشايخ الشيخ الكليني (رحمة الله), قال النجاشي (رحمة الله): (شيخ أصحابنا في زمانه ثقة، عين، كثير الحديث) (2) . وهو من الطبقة الثامنة.
وأمّا محمّد بن الحسين فهو ابن أبي الخطاب أبو جعفر الزيات الهمداني، قال عنه النجاشي (رحمة الله): (جليل من أصحابنا، عظيم القدر، كثير الرواية، ثقة، عين، حسن التصانيف مسكون إلى روايته)(3). وهو من الطبقة السابعة.
وأمَّا عبد الرحمن بن أبي هاشم البجلي فقال النجاشي (رحمة الله): (أبو محمّد، جليل من أصحابنا ثقة ثقة)(4). وهو من الطبقة السادسة.
وأمَّا سالم أبو خديجة، فهو سالم بن مُكرم بن عبد الله أبو خديجة، قال النجاشي (رحمة الله): (يقال أبو سلمة الكنَّاسي، يقال صاحب الغنم مولى بني أسد الجمَّال، يقال كنيته كانت أبا خديجة وأنَّ أبا عبد الله (علیه السلام) كنَّاه أبا سلمة ثقة ثقة)(5).
قد يقال: بأنَّ الشيخ الطوسي (قدس سره) حيث ذكر في الفهرست (6) سالم بن مكرم يكنَّى أبا
ص: 260
خديجة، ومُكرم يكنَّى أبا سلمة ضعيف. ومن القريب جداً أنَّ منشأ تضعيف الشيخ لأبي خديجة هو كونه من أصحاب أبي الخطَّاب قبل مقتله (1) .
فيقال: هذا لا يصلح وجهاً للخدش في وثاقة الرجل؛ فإنَّ الرجل بقي بعد ذلك التأريخ مدّة غير قصيرة كان فيها من أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام), ثمَّ من أصحاب الإمام الكاظم (علیه السلام) وقد روى ابن أبي عمير عنه, وهذا إنَّما يكون بعد الإمام الصادق (علیه السلام) ممّا يكشف عن صلاح حاله. وكذلك شهادة علي بن الحسن بن فضّال له بالصلاح التي وردت في كتاب اختيار معرفة الرجال (2) تكشف عن صحة ما ورد في ذيل خبر الكشّي من أنَّه تاب بعد ذلك.
ولعل في تأكيد النجاشي (رحمة الله) على توثيقه مرتين إشارة إلى الردّ على ما ذكره الشيخ في الفهرست من تضعيفه, إذ إنَّ النجاشي كان ناظراً إلى فهرست الشيخ.
وعليه فالصحيح ثبوت وثاقته. وهو من الطبقة الخامسة.
والنتيجة: أنَّ الرواية معتبرة ولا إشكال فيها من جهة السند.
وأمَّا دلالة المعتبرة فالإمام (علیه السلام) ذكر أنَّه أمرهم بهذا, ولو صلّوا في وقت واحد عُرِفوا فأُخذ برقابهم، وهذا ما أشرنا إليه في الدواعي للأحكام الموسَّعة, وهو أنْ يلقي الإمام (علیه السلام) الخلاف بين الشيعة ليعطي انطباعاً لدى السلطة الغاشمة أنَّهم ليسوا بجماعة منظّمة موجّهين من قيادة واحدة، بما يدفع الإمام (علیه السلام) بذلك عن نفسه وعن شيعته.
وهذا يدلُّ بوضوح على أنَّ الإمام (علیه السلام) لم يكن بصدد بيان الحكم الواقعي بحدِّه, وأنَّ وقت صلاة الظّهر أو العصر هو الوقت الواقعي ولا يجوز مخالفته, وإلّا لما كان
ص: 261
للإمام (علیه السلام) أنْ يذكر أوقاتاً مختلفة, فهذا ممّا يكشف عن أنَّ أمر الوقت هو من الأحكام الموسّعة, بمعنى أنَّ هناك سعة في التشريع, وما ورد فيه التحديد بوقت معين فهو لم يصدر لأجل بيان الحكم الواقعي بحدِّه.
ما رواه الكشِّي بقوله: حدَّثني أبو عبد الله محمّد بن إبراهيم الورَّاق، قال: حدَّثني علي بن محمّد بن يزيد القمِّي، قال: حدَّثني بنان بن محمّد بن عيسى, عن ابن أبي عمير, عن هشام بن سالم, عن محمّد بن أبي عمير (عمر), قال دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فقال: (كيف تركتَ زرارة؟) فقلت: تركته لا يصلِّي العصر حتَّى تغيب الشمس. فقال: (فأنت رسولي إليه فقل له فليصلِّ في مواقيت أصحابه فإنّي حرقت(1)). قال: فأبلغته ذلك. فقال: أنا والله أعلم أنَّك لم تكذب عليه, ولكنْ أمرني بشيء فأكره أنْ أدعه(2).
وهذه الرواية تؤكد ما ذكرناه من أنَّ الحكم بذكر الوقت من الأحكام الموسَّعة, ولأجل هذا يذكر الإمام (علیه السلام) وقتين لصلاة العصر لأحد أصحابه وهو زرارة (رحمة الله) .
ص: 262
فقد اختلفت الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة (علیهم السلام) في أعداد النوافل اختلافاً شديداً مما أدَّى الى اختلاف عمل الأصحاب في عصر الأئمة (علیهم السلام) حتَّى استمّر ذلك إلى عهد الإمام الرضا (علیه السلام)، ونُبّه في بعض هذه الروايات كمعتبرة عبد الله بن زرارة على أنَّ السرّ في الاختلاف هو كون الأمر من الموسّعات.
فلنذكر اختلاف روايات الباب أوّلاً, ثمّ نذكر تلك المعتبرة.
ويلاحظ أنّ تلك الروايات بعضها صادر في عصر الصادقين (علیهما السلام), والآخر ما بعد عصرهما.
أمّا الروايات الواردة عن الإمام أبي جعفر والإمام أبي عبدالله (علیهما السلام) فهي على ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: ما تضمّنت أنّ أعداد النوافل إحدى وخمسون.
الطائفة الثّانية: ما تضمّنت أنّ أعداد النوافل أربع وأربعون.
والطائفة الثالثة: ما تضمّنت غيرهما.
وهي عدّة روايات:
ما رواه الكليني، عن علي بن إبراهيم, عن أبيه, عن ابن أبي عمير, عن ابن أُذينة, عن فضيل بن يسار, عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (الفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة, منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدّان بركعة وهو قائم. الفريضة منها
ص: 263
سبع عشرة ركعة والنافلة أربع وثلاثون ركعة)(1).
والسند معتبر لعدم وجود خلل في الطريق:
أمَّا علي بن إبراهيم فهو ثقة كما عن النجاشي (2) . وهو من الطبقة الثامنة.
وأمَّا إبراهيم بن هاشم فالصحيح أنَّه ثقة؛ لوجوه ذكرها الأعلام وقرائن اعتمدوا عليها. وهو من الطبقة السابعة.
وأمَّا ابن أبي عمير فقد ذكر العلمان(3) وغيرهما جلالة قدره ووثاقته. وهو من الطبقة السادسة.
وأمَّا ابن أُذينة فهو عمر بن أُذينة وثَّقه الشيخ(4), ومدحه النجاشي(5). وهو من الطبقة الخامسة.
وأمَّا الفضيل بن يسار فقد وثَّقه العلمان(6). وهو من الطبقة الرابعة.
وأمَّا دلالة المعتبرة فهي تصرَّح بكون النوافل أربعاً وثلاثين ركعة.
رواية الحارث بن المغيرة النصري عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سمعته يقول: (صلاة النّهار ست عشرة ركعة: ثمان إذا زالت الشمس، وثمان بعد الظهر، وأربع ركعات بعد المغرب, يا حارث, لا تدعهنّ في سفر ولا حضر. وركعتان بعد العشاء
ص: 264
الآخرة كان أبي يصلّيها وهو قاعد, وإنَّما اُصليها وأنا قائم، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يصلِّي ثلاث عشرة من الليل)(1).
أمّا السند فقد رواه الكُليني, وقد ذكره بصيغة التعليق على سابقه بقوله (عنه), والمذكور في الإسناد السابق محمّد بن يحيى - أي العطّار، عن أحمد بن محمّد - أي ابن عيسى -، عن علي بن حديد، عن علي بن النّعمان، عن الحارث بن المغيرة النصريّ. فالرواية ضعيفة سنداً من جهة علي بن حديد فقد ضعّفه الشيخ (قدس سره) (2).
وأمَّا دلالة الرواية فهي تشير بوضوح إلى أنّ أعداد النوافل هي أربع وثلاثون ركعة, فيكون مجموع الركعات إحدى وخمسين.
ما رواه الكليني، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع, عن حنّان، قال: سأل عمر بن حريث أبا عبد الله (علیه السلام) وأنا جالس فقال له: أخبرني - جُعلتَ فداك - عن صلاة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقال له: (كان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يصلّي ثماني ركعات الزوال, وأربعاً الأولى, وثماني بعدها, وأربعاً العصر, وثلاثاً المغرب, وأربعاً بعد المغرب, والعشاء الآخرة أربعاً, وثمان صلاة الليل وثلاثاً الوتر, وركعتي الفجر, وصلاة الغداة ركعتين). قلت: جعلت فداك فإنْ كنت أقوى على أكثر من هذا يعذبني الله على كثرة الصلاة؟ فقال: (لا، ولكن يعذَّب على ترك السُنَّة)(3).
ص: 265
والرواية معتبرة لعدم وجود خلل في طريقها.
أمَّا محمّد بن يعقوب فهو الكليني فقد تقدّم ذكر وثاقته.
وأمَّا محمّد بن إسماعيل بن بزيع فهو كوفي, وثَّقه العلمان(1). وهو من الطبقة السادسة.
وأمَّا حنَّان فهو حنَّان بن سدير, وثَّقه الشيخ(2). وهو من الطبقة الرابعة الّتي أدركتها السادسة.
وعليه تكون الرواية معتبرة.
وأمَّا دلالة المعتبرة فهي تثبت كون الركعات إحدى وخمسين ركعة, الفرائض سبع عشرة, والنوافل أربع وثلاثون ركعة.
ما رواه الشيخ, بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن عثمان بن عيسى، عن ابن مسكان، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (صلاة النافلة ثمان ركعات حين تزول الشمس, وأربع ركعات بعد المغرب, وركعتان بعد العشاء الآخرة تقرأ فيهما مائة آية قائماً أو قاعداً، والقيام أفضل ولا تعدّهما من الخمسين, وثمان ركعات من آخر الليل تقرأ في صلاة الليل بقل هو الله أحد، وقل يا أيُّها الكافرون في الركعتين الأوليتين, وتقرأ في سائرها ما أحببت من القرآن, ثم الوتر ثلاث ركعات تقرأ فيهما جميعاً (قل هو الله أحد) وتفصل بينهما بتسليم, ثم الركعتان اللتان قبل الفجر تقرأ في الركعة الأولى منهما ب- [قل يا أيُّها الكافرون] وفي الثانية ب- [قل هو الله أحد])(3).
ص: 266
أمَّا السند فهو معتبر؛ لكون طريق الشيخ إلى الحسين بن سعيد صحيحاً ولا إشكال فيه.
وأمَّا الحسين بن سعيد فقد وثَّقه الشيخ الطوسي (قدس سره) (1). وهو من صغار الطبقة السادسة.
وأمَّا عثمان بن عيسى فقد وصفه الشيخ(2) بالوثاقة. هذا, مضافاً إلى إمكان توثيقه لكونه من مشايخ صفوان وابن أبي عمير كما في القبسات(3). وهو من الطبقة الخامسة التي أدركتها السابعة.
وأمَّا ابن مسكان فهو عبد الله بن مسكان, وقد وثَّقه العلمان (4) . وهو من الطبقة الخامسة.
وأمَّا سليمان بن خالد فقد وصفه النجاشي(5) بالوجاهة, وهو دالّ على الوثاقة. وهو من الطبقة الرابعة.
وعليه فالرواية معتبرة سنداً.
وأمَّا دلالة المعتبرة فهي تصرّح بكون النوافل أربعاً وثلاثين ركعة فتكون من روايات الإحدى وخمسين ركعة.
هذه هي الطائفة الأولى من الروايات والتي تضمَّنت الإحدى والخمسين ركعة.
ص: 267
الطائفة الثانية: وهي ما تضمَّنت الأربع والأربعين ركعة, والتي وردت عن الصادقين (علیهما السلام), وهي ثلاث روايات:
ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن علي ابن بنت إلياس، عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: (لا تصلِّ أقلّ من أربع وأربعين ركعة)، وقال: ورأيته يصلِّي بعد العتمة أربع ركعات(1).
قال الشيخ (قدس سره) بعد كلام له حول الرواية: (ولا يمتنع أنْ يحثّ (علیه السلام) على هذه الأربع والأربعين ركعة؛ لتأكّدها وشدّة استحبابها بهذا الخبر ويحثّ على ما عداها بحديث آخر) .
أمَّا سند الحديث فطريق الشيخ (قدس سره) إلى أحمد بن محمّد بن عيسى صحيح لا إشكال فيه.
وأمَّا أحمد بن محمّد بن عيسى فقد وثَّقه العلمان(2). وهو من الطبقة السابعة.
وأمَّا الحسن بن علي بن بنت إلياس فهو الحسن بن علي بن زياد الوشَّاء. وهو من وجوه الطائفة كما عن النجاشي(3). وهو من الطبقة السادسة.
وأمَّا عبد الله بن سنان فقد نصَّ النجاشي(4) على جلالته وعظّم محلَّه في الطائفة. وهو من الخامسة. وعليه تكون الرواية معتبرة السند.
وأمَّا دلالة المعتبرة فهي تشير بوضوح إلى أنَّ الأربع والأربعين ركعة كانت موضع
ص: 268
اهتمام الأئمّة (علیهم السلام), ولذلك حثّوا على أنْ لا تكون الركعات أقلّ من أربع وأربعين ركعة.
ما رواه الشيخ عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن ابن بكير، عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) ما جرت به السُنّة في الصلاة؟ فقال: (ثمان ركعات الزوال، وركعتان بعد الظهر، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعد المغرب، وثلاث عشرة ركعة من آخر الليل ومنها الوتر, وركعتا الفجر) قلت: فهذا جميع ما جرت به السُنّة؟ قال: (نعم) . فقال أبو الخطَّاب: أفرأيتَ أنْ قَوِي فزاد قال: فجلس وكان متَّكئاً فقال: (إنْ قويت فصّلها كما كانت تُصلّى, وكما ليست في ساعة من النهار فليست في ساعة من الليل إن الله عزّ وجلّ يقول: [وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ])(1).
أمَّا الكلام في السند فقد مرَّ أنَّ طريق الشيخ إلى الحسين بن سعيد صحيح، كما مرَّ توثيق الحسين بن سعيد وهو من صغار السادسة.
وأمَّا صفوان فهو ابن يحيى بيَّاع السابري كوفّي ثقة ثقة. وهو من الطبقة السادسة.
وأمَّا ابن بكير فهو عبد الله بن بكير كوفُّي، فقيه فطحيّ، ثقة كما ذكره الشيخ(2). وهو من كبار الخامسة.
وأمَّا زرارة فهو بن أعين كوفي مدحه النجاشي كثيراً(3). وهو من الطبقة الرابعة.
وعليه فالسند معتبر لعدم وجود خلل في الطريق.
وأمَّا الدلالة فإنّ عدد ركعات النوافل المذكورة فيها بعد جمعها يكون المجموع (27) ركعةً, ومع ضمّ الفرائض يكون العدد أربعاً وأربعين, فتكون من الروايات
ص: 269
المتضمّنة للأربع والأربعين ركعة.
ما رواه الشيخ عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن ابن أُذينة، عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله: (علیه السلام) إنِّي رجل تاجر, اختلف واتَّجر فكيف لي بالزوال والمحافظة على صلاة الزوال, وكم تُصلَّى؟ قال: (تُصلَّى ثماني ركعات إذا زالت الشمس وركعتين بعد الظهر, وركعتين قبل العصر فهذه اثنتا عشرة ركعة، ويصلي بعد المغرب ركعتين، وبعدما ينتصف الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر، ومنها ركعتا الفجر فتلك سبع وعشرون ركعة سوى الفريضة، وإنَّما هذا كلّه تطوّع وليس بمفروض, إنَّ تارك الفريضة كافر, وإنَّ تارك هذا ليس بكافر, ولكنَّها معصية؛ لأنَّه يستحب إذا عمل الرجل عملاً من الخير أنْ يدوم عليه)(1).
أمَّا السند فطريق الشيخ إلى الحسين بن سعيد فقد قلنا بأنَّه صحيح، وكذلك مَرّ توثيق الحسين بن سعيد وأبن أبي عمير، وعمر بن أذينة وزرارة.
فالرواية صحيحة السند.
وأمَّا الدلالة فقد ذكرت الرواية أنَّ النوافل سبع وعشرون ركعة, وبضمِّها إلى الفرائض تكون الركعات أربعاً وأربعين ركعة، وعليه فهذه الرواية هي من روايات المتضمّنة للأربع والأربعين ركعة.
وهي رواية واحدة وقد رواها الكُليني عن محمّد بن يحيى، عن أحمد ابن محمّد، عن محمّد بن سنان، عن ابن مسكان، عن محمّد بن أبي عمير قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن أفضل ما جرت به السُنّة من الصلاة؟ فقال: (تمام الخمسين)(2).
ص: 270
والرواية ضعيفة بمحمّد بن سنان.
والظاهر أنّ محمّد بن أبي عمير هنا ليس هو المشهور الذي هو من أصحاب الرضا (علیه السلام) بل هو رجل آخر كان من أصحاب الصادق (علیه السلام) كما نبّه على وجوده جماعة, وهو ممّن لم تثبت وثاقته.
وأمّا دلالة الرواية فهي صرَّحت بكون ما جرت به السُنَّة من الصلاة هي تمام الخمسين.
الطائفة الرابعة: - ما دلّت على كون العدد ستاً وأربعين - وهي رواية واحدة أيضاً وهي ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حمَّاد بن عيسى، عن شعيب، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله
(علیه السلام) عن التطوّع بالليل والنهار فقال: (الذي يستحب أنْ لا يقصر عنه ثمان ركعات عند زوال الشمس، وبعد الظهر ركعتان، وقبل العصر ركعتان، وبعد المغرب ركعتان, وقبل العُتمة ركعتان, ومن السحر ثمان ركعات ثمَّ يوتَّر والوتر ثلاث ركعات مفصولة، ثُمَّ ركعتان قبل الفجر، وأحبّ صلاة الليل إليهم آخر الليل)(1).
وأمّا الكلام في السند فقد تقدم الكلام في طريق الشيخ إلى الحسين بن سعيد وأنّه صحيح.
وأمَّا حمَّاد بن عيسى فقد وثَّقه العلمان (2). وهو من الخامسة.
وأمَّا شعيب فهو شعيب بن يعقوب العقرقوفي، ثقة، عين كما عن النجاشي(3).
ص: 271
وهو من الطبقة الخامسة.
وأمَّا أبو بصير فهو يحيى بن أبي القاسم الأسدي، وشعيب العقرقوفي هو ابن أخت يحيى بن أبي القاسم، وهو ثقة وجيه كما عن النجاشي(1). وهو من الطبقة الرابعة.
وعليه فالرواية معتبرة لعدم وجود خلل في سندها.
وأمَّا دلالة الرواية فإنّها من روايات الطائفة الثّالثة؛ إذ تضمَّنت صلاة ستّ وأربعين ركعة.
هذه هي الطوائف التي وردت في عصر الإمامين الصادقين (علیهما السلام) .
وأمَّا الروايات التي وردت بعد عصر الصادقين (علیهما السلام) فهي أيضاً على طوائف متعدّدة, ممّا يُبيّن أنّ الأئمة اللاحقين اهتمّوا ببقاء هذا الخلاف.
وهي عدّة روايات:
ما رواه محمّد بن الحسن، عن سهل، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: قلت لأبي الحسن: (علیه السلام) إنَّ أصحابنا يختلفون في صلاة التطوَّع بعضهم يصلّي أربعاً وأربعين، وبعضهم يصلّي خمسين، فأخبرني بالذي تعمل به أنت كيف هو حتَّى أعمل بمثله؟ فقال: (أُصلّي واحدة وخمسين ثُمَّ قال أمسك - وعقد بيده - الزوال ثمانية وأربعاً بعد الظهر، وأربعاً قبل العصر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين قبل عشاء الآخرة، وركعتين بعد العشاء من قعود تُعدان بركعة من قيام، وثماني صلاة الليل، والوتر ثلاثاً، وركعتي الفجر، والفرائض سبع عشرة فذلك أحد وخمسون)(2).
ص: 272
أمَّا سند الحديث فهو ضعيف بسهل بن زياد الآدمي حيث ضعّفه ابن الغضائري(1) وكذلك النجاشي(2), والشيخ في الفهرست(3).
وأمَّا دلالة الرواية فهي تذكر أنَّ أصحاب أهل البيت (علیهم السلام) يختلفون في ذكر أعداد الصلوات فبعضهم يذكر أنَّها أربع وأربعون، والبعض الآخر يذكر أنَّها خمسون ممّا يدلّ على التوسعة في أعداد النوافل؛ لأنَّ الفرائض ثابتة ولا تغيَّر فيها.
ما رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن محمّد بن عيسى اليقطيني، عن يونس بن عبد الرحمن, قال: حدَّثني إسماعيل بن سعد الأحوص القمِّي, قال: قلت للرضا (علیه السلام) كم الصلاة من ركعة؟ قال: (إحدى(4) وخمسون ركعة)(5).
أمَّا سند الرواية فإنَّ طريق الشيخ إلى محمّد بن أحمد بن يحيى صحيحُ لا خلل فيه.
وأمَّا محمّد بن أحمد بن يحيى، فقد ذكر النجاشي وثاقته(6)، وذكر الشيخ جلالة قدره(7). وهو من صغار الطبقة السابعة.
وأمَّا محمّد بن عيسى اليقطيني، فقد وثَّقه النجاشي(8). وهو من كبار السابعة.
ص: 273
وأمَّا يونس بن عبد الرحمن فهو عظيم المنزلة كما عن النجاشي(1), ووثَّقه الشيخ أيضاً(2). وهو من كبار السادسة.
وأمَّا إسماعيل بن سعد الأحوص فهو قمي وثَّقه الشيخ(3). وهو من السادسة. وعليه تكون الرواية معتبرة السند.
وأمَّا الدلالة فالرواية تصرَّح بكون الركعات التي ينبغي أنْ يأتي بها المكلَّف هي إحدى وخمسون ركعة.
ما دلّت على أنّها ست وأربعون ركعة, وهي رواية واحدة رواها الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن يحيى بن حبيب قال: سألت الرضا (علیه السلام) عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله تعالى من الصلاة قال: (ست(4) وأربعون ركعة فرائضه ونوافله) .
قلت: هذه رواية زرارة. قال: (أوَ ترى أحداً كان أصدع بالحق منه)(5).
أمّا الكلام في السند فالرواية ضعيفة بيحيى بن حبيب؛ حيث لم يرد في حقَّه توثيق من قبل الشيخ والنجاشي، بل لم يُذكر.
وأمَّا دلالة الرواية فهي تشير بوضوح إلى أنَّ الصلوات هي ست وأربعون ركعة، وهذا يعني أنَّ أعداد النوافل هي تسع وعشرون بينما لو كانت الركعات إحدى وخمسين
ص: 274
لكانت أعداد النوافل أربعاً وثلاثين ركعة.
ما دلّت على أنّها خمسون ركعة, وهي رواية واحدة أيضاً رواها الشيخ بإسناده عن سعد، عن معاوية بن حكيم، عن معمّر بن خلاد، عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام): (أنَّ أبا الحسن (علیه السلام) كان إذا اغتم ترك الخمسين)(1).
قال الشيخ (قدس سره): (قوله (علیه السلام): ترك الخمسين. يريد به تمام الخمسين؛ لأنَّ الفرائض لا يجوز تركها على كل حال).
أمَّا سند الحديث فسعد المذكور في الرواية هو سعد بن عبد الله الأشعري، وطريق الشيخ إلى سعد بن عبد الله في المشيخة صحيح لا إشكال فيه.
وأمَّا سعد بن عبد الله فهو شيخ هذه الطائفة وفقيهها وجيهها كما عن النجاشي(2). وهو من الطبقة الثامنة.
وأمَّا معاوية بن حكيم فهو كوفي ثقة جليل، كما عن النجاشي(3). وهو من الطبقة السابعة.
وأمَّا معمّر بن خلّاد فهو بغدادي ثقة، كما عن النجاشي(4). وهو من الطبقة السادسة.
وعليه تكون الرواية معتبرة السند.
وأمَّا دلالة المعتبرة فهي تدلّ بوضوح على أنَّ الركعات التي ينبغي أنْ يأتي بها المكلَّف هي خمسون ركعة، ولذلك قال الشيخ (قدس سره) المراد من ترك الخمسين هو ترك تمام
ص: 275
الخمسين, وهذا يكشف عن أنَّ الصلوات هي خمسون ركعة.
هذه هي مجموعة الروايات الواردة في أعداد النوافل سواء في عصر الصادقين (علیهما السلام) أم بعده, وهي كما ترى مختلفة في العدد.
وأمَّا الرواية التي نبَّهت على أنَّ الاختلاف في أعداد النوافل إنَّما هو من جهة التوسعة فهي معتبرة عبد الله بن زرارة، وهي ما رواه الكشي بقوله: حدثني حمدويه بن نصير، قال: حدثنا محمّد بن عيسى بن عبيد قال: حدثني يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن زرارة. ومحمد بن قولويه والحسين بن الحسن، قالا: حدثنا سعد بن عبد الله، قال حدثني هارون بن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن عبد الله بن زرارة وابنيه الحسن والحسين، عن عبد الله بن زرارة قال: (...وعليك بالصلاة الست والأربعين، وعليك بالحج أنْ تستهل بالإفراد, وتنوي الفسخ إذا قدمت مكة). ثم قال: (والذي أتاك به أبو بصير من صلاة إحدى وخمسين، والإهلال بالتمتع إلى الحج، وما أُمرنا به من أنْ يهلّ بالتمتع فلذلك عندنا معانٍ وتصاريف, لذلك ما يسعنا ويسعكم، ولا يخالف شيء من الحق ولا يضادّه)(1).
ومحلّ الشاهد من الرواية ما جاء في الصلاة, ولا شاهد لنا هنا فيما ذُكر في أمر الحجّ.
والكلام في هذه الرواية يقع تارة في السند. وأُخرى في الدلالة.
أمَّا السند فالرواية معتبرة كما عبّرنا، وذلك لأنّ للرواية طريقين:
أمَّا الطريق الأوّل فهو محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشّي هو صاحب كتاب الرجال
ص: 276
قال عنه النجاشي: (الكشّي أبو عمرو، ثقة، عين)(1). وقال الشيخ الطوسي (قدس سره): (محمّد ابن عمر بن عبد العزيز الكشي, يكنَّى أبو عمرو ثقة بصير بالأخبار وبالرجال, وحسن الاعتقاد)(2). وهو من صغار التاسعة.
وأمَّا حمدويه بن نصير فقال الشيخ الطوسي (قدس سره) عنه: (عديم النظير في زمانه, كثير العلم والرواية, ثقة, حسن المذهب)(3). وهو من الثامنة.
وأمَّا محمّد بن عيسى بن عبيد فقد قال النجاشي (رحمة الله) عنه: (ابن يقطين بن موسى مولى أسد بن خزيمة أبو جعفر من أصحابنا ثقة، عين)(4). وهو من كبار السابعة.
وأمَّا يونس بن عبد الرحمن فقد تقدّم ذكر وثاقته. وعليه تكون الرواية معتبرة.
ولو نُوقش في اعتبارها من جهة حمدويه بن نصير، إذ إنَّه لم يرد ذكره في رجال النجاشي, ولا في فهرست الشيخ.
فيمكن تصحيح اعتبارها بوجود طريق ثانٍ معتبر للرواية, ومع تعدّد الطريق للرواية يمكن الاطمئنان بصدور الرواية عن المعصوم (علیه السلام) على مبنى حجيّة الخبر الموثوق به دون مبنى حجيّة رواية الثقة.
وأمّا الطريق الثّاني فإنّ محمّد بن قولويه هو والد صاحب كتاب كامل الزيارات, قال عنه النجاشي(5) إنّه كان من خيار أصحاب سعد بن عبد الله. وهو من التاسعة .
ص: 277
وأمّا الحسين بن الحسن بن بندار فهو لم يوثّق. وليس هو الحسين بن الحسن بن برد الدينوري لكونه - أيّ الدينوري - من الطبقة السادسة, بينما بن بندار من الطبقة التاسعة؛ لكونه في طبقة محمّد بن قولويه. ولكن لا يضرّ عدم ثبوت وثاقته بعد أنْ كان ابن قولويه ثقة .
وأمّا سعد بن عبد الله فقد تقدّم ذكر وثاقته وهو من الثامنة .
وأمّا هارون بن الحسن بن محبوب فهو ثقة صدوق كما ذكره النجاشي(1). وهو من السابعة .
وأمّا محمّد بن عبد الله بن زرارة فقد ذكر النجاشي: أنّ محمّد بن الحسن بن الجهم كان يقول: (وكان والله محمّد بن عبد الله - أيّ ابن زرارة - أصدق عندي لهجة من أحمد بن الحسن - أيّ ابن فضّال - فإنَّه رجل فاضل ديّن)(2). ومن الواضح أنّ هذا لا يفيد التوثيق.
وأمّا الحسن والحسين ابنا محمّد بن عبد الله بن زرارة فلم يرد ذكرهما, فهما مجهولان.
وأمّا عبد الله بن زرارة فقد تقدّم ذكر وثاقته .
والحاصل: إنّ هذا الطريق الآخر ليس بمعتبر. ولكن وجود طريقين مع اختلاف طبقة الضعيف في كل من الطريقين يوجب الاطمئنان - على مبنى حجيّة الرواية الموثوق بها لا على مبنى رواية الثقة خاصّة - بصدور الرواية عن المعصوم (علیه السلام) لاستبعاد تواطؤهم على الكذب بعد اختلاف طبقة كلٍّ منهما. وعليه فالرواية معتبرة.
ص: 278
وأمّا الكلام في الدلالة فإنّ الإمام (علیه السلام) صرّح بأنّ ما قاله لأبي بصير غير ما قاله لزرارة، فالإمام (علیه السلام) يقول لزرارة عليك بالست والأربعين, فيكون مجموع النوافل تسعاً وعشرين ركعة، بينما يقول لأبي بصير أنّ الصلاة إحدى وخمسون, فيكون مجموع النوافل أربعاً وثلاثين ركعة, فيكون أعداد النوافل مختلفة، ثُمَّ يقول الإمام (علیه السلام) بعد ذلك (ولا يخالف شيء من ذلك الحق ولا يُضادّه), وهذا القول شديد الوضوح بأنّ كُلاً من الأمرين حقّ، ولكن ربّما لا يكون الحقّ بحدّه؛ فإنَّه إذا كان مجموع ركعات الصلوات المأمور بها إحدى وخمسين، يكون الأقلّ من ذلك حقّاً أيضاً, ولكن ليس كل الحقّ بل بعضه، فإذا اقتصر المكلّف على الست والأربعين, فإنّه يكون قد أتى بما أمر به الإمام (علیه السلام) ويكون محصّلاً للثواب .
وكيف كان: فإنّ هذه الرواية واضحة الدلالة على أنّ أعداد النوافل فيها سعة في التشريع, وأنّه يمكن الإتيان بالأقلّ - أيّ الست والأربعين - دون الواحد والخمسين, ويكون قد أتى ما أُمر به، لا أنّه لو أتى بالأقلّ لم يكن محصّلاً ومصيباً للثواب .
لا يقال: إنّ النوافل الرواتب مستحبة في نفسها, فيمكن الاقتصار على بعضها من دون أنّ تعدّ من الأحكام الموسّعة .
فإنّه يقال: إنَّ عدّ النوافل الرواتب من الأحكام الموسّعة يكشف على أنّ البعض الذي يجوز الاقتصار عليه يكون وارداً عن أهل بيت العصمة (علیهم السلام) .
ص: 279
اختلفت الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة عليه السلام, إذ الصلاة في الحرمين الشريفين ورد في بعضها القصر, وفي بعضها التمام, ممّا أدّى إلى اختلاف عمل الشيعة في ذلك في طبقة أصحاب أبي عبد الله (علیه السلام) ومن بعدهم, وقد جاء في معتبرة معاوية بن وهب - الآتية - حيث أمره الإمام (علیه السلام) بالقصر: فقلت: إنّ أصحابنا رووا عنك إنّك أمرتهم بالتمام؟ فقال: (أنّ أصحابك كانوا يدخلون المسجد فيصلّون ويأخذون نعالهم ويخرجون, والناس يستقبلونهم يدخلون المسجد للصلاة فأمرتهم بالتمام) .
وهو يدلّ على قصر جماعة من الأصحاب من الطبقة الرابعة والخامسة. كما جاء في رواية سعد بن عبد الله - الآتية في محلها - (سألت أيوب بن نوح عن تقصير الصلاة في هذه المشاهد: مكة والمدينة والكوفة وقبر الحسين (علیه السلام) والذي روي فيها؟ فقال: أنا أقصر, وكان صفوان يقصر وابن أبي عمير وجميع أصحابنا يقصرون ), فهذه الرواية تدلّ على أّن البغداديّين والكوفيّين من الطبقة السادسة كانوا يقصرون الصلاة, ومن الطبيعي أنّ جماعة آخرين من أصحابنا كانوا يتمّون في تلك الطبقة عملاً بأمرهم بالإتمام, ممّا يُنبّه على أنّ الصلاة في الحرمين الشريفين من الأحكام الموسّعة.
وقد أشارت أكثر من رواية إلى هذا المعنى كمعتبرة علي بن يقطين, والحسين بن المختار كما سنبيّن ذلك في آخر المورد.
وقبل ذلك نستعرض الروايات الواردة في عصر الصادقين (علیهما السلام) أوّلاً, ثُمَّ الروايات
ص: 280
الواردة ما بعد عصرهما (علیهما السلام) .
أمّا الروايات الواردة في عصر الصادقين (علیهما السلام) فهي على طائفتين.
الطائفة الأولى: ما ورد في الإتمام.
الطائفة الثانية: ما ورد في القصر .
أما الطائفة الأولى فهي عدّة روايات:
ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب, عن صفوان, عن مسمع, عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال لي: (إذا دخلت مكة فأتمّ يوم تدخل)(1).
والكلام أوّلاً في سندها ..
أمّا طريق الشيخ إلى محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب فهو مجهول, إذ لا طريق له إلى الرجل في المشيخة, وأمّا تصحيح الحديث بإسناده إليه في الفهرست حيث ذكر ما لفظه: (ابن أبي جيد, عن ابن الوليد عن الصفّار، عنه) فهو محلُّ نظر على تقدير صحّته. بل منع؛ لأنّ إسناد الفهرست ينتهي إلى كتاب الرجل, ولا يُحرز فيمن ابتدأ به في التهذيب أنّه نقله عن كتابه.
نعم, يُرجّح أخذ الرواية بشهادة سياقها عن كتاب محمّد بن علي بن محبوب؛ حيث إنّ كتابه أحد مصادر التهذيب.
وأمّا محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب فقد مرّ توثيقه. وهو من السابعة .
وأمّا صفوان فهو ابن يحيى كوفي ثقة، كما تقدّم. وهو من السادسة.
ص: 281
وأمّا مسمع فهو بن عبد الملك, وهو ثقة (1), من الطبقة الخامسة.
وعليه تكون الرواية معتبرة .
وأمّا الدلالة فالرواية صريحة في كون الصلاة في مكة المكرمة تامّة .
ما رواه الشيخ في التهذيب, عن محمّد بن علي بن محبوب, عن محمّد ابن عبد الجبار, عن صفوان, عن عبد الرحمن بن الحجاج, قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن التمام بمكة والمدينة؟ قال: (أتمّ, وإنْ لم تُصلّ فيها إلَّا صلاة واحدة)(2).
أمّا الكلام في السند فطريق الشيخ إلى محمّد بن علي بن محبوب في المشيخة صحيح لا إشكال فيه.
وأمّا محمّد بن علي بن محبوب فقد قال عنه النجاشي: (شيخ القميين في زمانه, ثقة, فقيه, صحيح المذهب)(3). وهو من صغار السابعة.
وأمّا محمّد بن عبد الجبار ويُعبّر عنه أيضاً بمحمّد بن أبي الصهبان فهو قميّ ثقة كما عن الشيخ(4). وهو من السابعة.
وأمّا صفوان فقد تقدّم ذكر وثاقته, وهو من السادسة .
وأمّا عبد الرحمن بن الحجّاج فهو كوفي ثقة ثقة, ثَبْتٌ, وجه, كما عن النجاشي(5). وهو من الخامسة.
ص: 282
وعليه تكون الرواية معتبرة.
وأمّا دلالة الرواية فهي صريحة في كون الصلاة التي يؤديها الفرد في الحرمين تامّة ولو كانت صلاة واحدة.
ما رواه الكُليني عن علي بن إبراهيم, عن أبيه, عن إسماعيل ابن مرار, عن يونس, عن معاوية, عن أبي عبد الله (علیه السلام): (إنّ من المذخور الإتمام بين الحرمين)(1).
أمّا سند الحديث ففي اعتبار الرواية بحثٌ من جهة إسماعيل بن مرار؛ إذ لم يرد في حقه توثيق خاصّ. وأمّا وروده في تفسير القميّ فلا يوجب التوثيق له لبحثٍ في هذا التفسير كبرى وصغرى لا يناسب إيراده في المقام.
نعم, ربما يُوثق به من جهة اعتماد القُميّين عليه في رواية كتب يونس بن عند الرحمن من غير طعن, بينما طُعن على الطريق الآخر إليه, وهو طريق محمّد بن عيسى بن عُبيد. وإنْ كان هذا الطريق قد تأمّل فيه السيد الأُستاذ (دامت افاداته) حيث قال: (إنّ الاعتماد على روايات إسماعيل بن مرار لا يخلو عن إشكال)(2).
وأمّا دلالة الرواية فهي تشير بوضوح إلى أنّ الصلاة في الحرمين تامّة من المذخور عن الأئمة (علیهم السلام) .
وأمّا الطائفة الثانية - وهي الواردة في كون الصلاة قصراً - فهي رواية واحدة رواها الشيخ في التهذيب عن موسى بن القاسم, عن عبد الرحمن, عن معاوية بن وهب, قال:
ص: 283
سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن التقصير بين الحرمين والتمام؟ فقال: (لا تتمّ حتى تجمع على مقام عشرة أيام) فقلت إنّ أصحابنا رووا عنك إنّك أمرتهم بالتمام، فقال: (إنّ أصحابك كانوا يدخلون المسجد فيصلّون ويأخذون نعالهم ويخرجون, والناس يستقبلونهم يدخلون المسجد للصلاة فأمرتهم بالتمام)(1).
والكلام في السند:
أمّا طريق الشيخ إلى موسى بن القاسم في المشيخة فصحيح.
وأمّا موسى بن القاسم فهو كوفي وثّقه العلمان (2). وهو من كبار السابعة.
وأمّا عبد الرحمن فهو ابن أبي نجران بدليل رواية موسى بن القاسم عنه، وثّقه النجاشي(3). وهو من السادسة.
وأمّا معاوية بن وهب فهو ثقة حسن الطريقة كما عن النجاشي(4). وهو من الخامسة.
وعليه تكون الرواية معتبرة السند.
وأمّا الكلام في دلالة المعتبرة فهي تدلّ على أنّ الصلاة في الحرمين هي القصر, كما هو ظاهر قول الإمام (علیه السلام): (لا تتمّ حتى تجمع على مقام عشرة أيام) . نعم, هي من جهة أُخرى تبيّن أنّ الصلاة تامّة جائزة رعايةً لبعض المصالح التي نُبّه عليها في الرواية, وهو أنّ لا يكون هناك تشنيع على الشيعة من خلال الصلاة قصراً, وأنّهم يخالفون الصف.
ص: 284
فالنتيجة أنّ هذه المعتبرة تعدّ من روايات الصلاة قصراً في الحرمين الشريفين.
كما أنّ الرواية تُشير إلى أنّ هذا المورد من الموسّعات بالنظر إلى تصريح الإمام (علیه السلام) فيها بأنّه أمر جماعةً من الأصحاب بالتمام؛ كي لا يخرجوا عندما يدخل الناس في المسجد, ولولا جواز التمام لم يكفِ هذا المقدار لأمرهم بالتمام؛ لأنّ الزيادة مبطلة للصلاة, إلّا إذا خاف عليهم ضرراً أو مفسدة.
وأمّا الروايات الواردة فيما بعد عصر الصادقين (علیهما السلام) فهي كثيرة جداً, وهي أيضاً طائفتان حيث دلّ بعضها على التمام وبعضها الآخر على القصر.
وهي روايات عدّة:
ما رواه الكُليني, عن عدة من أصحابنا, عن أحمد بن محمّد, عن عثمان بن عيسى, قال سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن إتمام الصلاة والصيام في الحرمين. فقال: (أتمها ولو صلاة واحدة)(1).
أمّا السند فعدّة الكُليني عن أحمد بن محمّد بن عيسى مذكورة وفيهم الثقة كمحمّد ابن يحيى العطار.
وأمّا أحمد بن محمّد فهو ابن عيسى, وقد مرّت وثاقته سابقاً. وهو من السابعة.
وأمّا عثمان بن عيسى فقد تقدّم توثيقه. وهو من الخامسة التي أدركتها السابعة.
وعليه فالرواية معتبرة السند.
أمّا الدلالة فهي صريحة بكون الصلاة في الحرمين تامّة ولو كانت صلاة واحدة.
ما رواه الكُليني أيضاً عن العدة, عن سهل بن زياد وأحمد بن محمّد
ص: 285
جميعاً, عن علي بن مهزيار, قال: كتبت إلى أبي جعفر (علیه السلام) أنّ الرواية قد اختلفت عن آبائك (علیهم السلام) في الإتمام والتقصير في الحرمين, فمنها بأنْ يتمّ الصلاة ولو صلاة واحدة. ومنها أنْ يقصر ما لم ينوِ مقام عشرة أيام. ولم أزل على الإتمام فيها إلى أنْ صدرنا في حجّنا في عامنا هذا, فإنّ فقهاء أصحابنا أشاروا عليّ بالتقصير, إذ كنت لا أنوي مقام عشرة أيام قصدت إلى التقصير, وقد ضقت بذلك حتى أعرف رأيك؟ فكتب إليّ بخطه: (قد علمتَ - يرحمك الله - فضل الصلاة في الحرمين على غيرهما فإنّي أحب لك إذا دخلتهما أنْ لا تقصر، وتكثر فيهما الصلاة). فقلت له بعد ذلك بسنتين مشافهة: إنّي كتبت إليك بكذا وأجبتني بكذا، فقال: (نعم). فقلت: أيّ شيء تعني بالحرمين. فقال: (مكة والمدينة)(1).
أمّا سند الرواية فهو معتبر كما مرّ آنفاً، كما مرّ أيضاً ذكر وثاقة أحمد بن محمّد بن عيسى.
وأمّا سهل بن زياد فهو ضعيف. ولكن لا يضرّ ضعفه بعد اقترانه بأحمد بن محمّد ابن عيسى.
وأمّا علي بن مهزيار فقد وثّقه العلمان(2). وهو من كبار السابعة .
وأمّا الدلالة فهي صريحة في التمام عند إيقاعها في الحرمين الشريفين.
ما رواه الكُليني عن العدة, عن أحمد بن محمّد وسهل بن زياد, عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر, عن إبراهيم بن شيبة, قال: كتبت إلى أبي جعفر (علیه السلام) أساله عن
ص: 286
إتمام الصلاة في الحرمين فكتب إليّ: (كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يحب إكثار الصلاة في الحرمين فأكثرْ فيهما وأتمّ)(1).
أمّا سند الحديث فلا إشكال فيه إلّا من جهة إبراهيم بن شيبة, فإنّ فيه بحثاً حيث إنّه لم يرد فيه توثيق. ولكن يمكن أن يُحكم بوثاقته بناءً على وثاقة مشايخ البزنطي وابن أبي عمير وصفوان بن يحيى فتكون الرواية معتبرة من هذه الجهة.
وأمّا الكلام في الدلالة فهي واضحة بالأمر بالتمام عند الصلاة في الحرمين الشريفين.
ما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب, عن صفوان, عن عمر بن رباح, قال: قلت: لأبي الحسن (علیه السلام) أقدِمُ مكة أتمّ أو أقصر؟ قال: (أتمّ). قلت: وأمرُّ على المدينة فأتمّ الصلاة أو أقصر؟ قال: (أتمّ)(2).
أمّا السند إلى محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب فقد تقدّم الكلام فيه، وكذلك فيه وفي صفوان.
وأمّا عمر بن رباح فهو وإنْ لم يرد فيه توثيق، لكن يكفي في توثيقه رواية صفوان ابن يحيى عنه, فهو أحد الثلاثة الذين لا يروون لا يرسلون إلَّا عن ثقة, فتكون الرواية معتبرة بهذا التوثيق العامّ.
وأمّا دلالة الرواية فهي صريحة بالأمر بالتمام عند الصلاة في مكة والمدينة.
وأمّا الروايات الواردة عمّن بعد عصرهما (علیهما السلام) من أهل بيت العصمة قصراً عند إيقاعها في الحرمين فهي روايات عديدة:
ص: 287
معتبرة محمّد بن إسماعيل بن بزيع, وهي ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى, عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع, قال: سألت الرضا (علیه السلام) عن الصلاة بمكة والمدينة تقصير أو إتمام؟ فقال: (قصّر ما لم تعزم على مقام عشرة)(1).أمّا السند فقد تقدّم ذكر وثاقة رجاله.
وأمّا الكلام في الدلالة فهي صريحة في أنّ الصلاة في الحرمين الشريفين قصر ما لم يعزم على مقام عشرة أيام .
ما رواه الشيخ بإسناده عن علي بن حديد, قال: سألت الرضا (علیه السلام) فقلت: إنّ أصحابنا اختلفوا في الحرمين فبعضهم يقصّر وبعضهم يتمّ, وأنا ممّن يتمّ على رواية قد رواها أصحابنا في التمام, وذكرتُ عبد الله بن جندب أنّه كان يتمّ. قال: (رحم الله ابن جندب، ثُمَّ قال لي: لا يكون الإتمام إلَّا أنْ تُجمع على إقامة عشرة إيام، وصلِ النوافل ما شئت) . قال ابن حديد: وكان محبتي أنْ يأمرني بالإتمام(2).
أمّا السند فغير معتبر لوجود علي بن حديد وقد تقدّم تضعيف الشيخ له.
وأمّا الدلالة فإنّ الرواية أشارت إلى أنّ الإمام الرضا (علیه السلام) أمر ابن حديد أنْ يصلي قصراً في الحرمين ما لم ينوِ إقامة عشرة أيام, فهي تدل على القصر عند الصلاة في الحرمين الشريفين.
ما رواه جعفر بن محمّد بن قولويه, عن أبيه, عن سعد بن عبد الله, قال: سألت أيوب بن نوح عن تقصير الصلاة في هذه المشاهد: مكة والمدينة والكوفة وقبر الحسين (علیه السلام) والذي روي فيها؟ فقال: أنا أقصّر وكان صفوان يقصّر وابن أبي عمير
ص: 288
وجميع أصحابنا يقصّرون(1).
أمّا السند فإنّ ابن قولويه هو صاحب كامل الزيارات, ثقة كما عن النجاشي(2). وهو من الطبقة العاشرة.
وأمّا محمّد بن قولويه - والد صاحب كامل الزيارات - وسعد بن عبد الله فقد تقدّم ذكر وثاقتهما.
وأمّا أيوب بن نوح فهو ابن درّاج, وهو كما ذكر النجاشي(3) عظيم المنزلة عند الإمامين الهادي والعسكري (علیهما السلام) . وعليه فالرواية تكون تامّة السند.
وأمّا الدلالة فالرواية وإنْ لم ترد عن المعصوم (علیه السلام) ولكنها تكشف بصورة واضحة عن أنّ أصحاب أهل البيت (علیهم السلام) لاسيّما صفوان وابن أبي عمير - وهم من أجلّ أصحاب الإمام الرضا - كانوا يعملون على ذلك, فيكشف هذا عن أنّ الروايات الواردة عن الإمام الكاظم أو الإمام الرضا (علیهما السلام) تأمر بالقصر, وإلّا لما عَمِل بالقصر أجلّ أصحابهم.
وأمّا الروايات التي تدلّ بوضوح على أنّ الصلاة في الحرمين الشريفين من الأحكام الموسّعة, وأنّ المكلّف مخيّر بين القصر والتمام فهي روايات ثلاث:
ما رواه الكُليني عن محمّد بن يحيى, عن أحمد بن محمّد, عن علي بن الحكم, عن الحسين بن المختار, عن أبي إبراهيم (علیه السلام) قال: قلت له: إنّا إذا دخلنا مكة والمدينة نُتمّ أو نقصّر قال: (إنْ قصّرت فذاك, وإنْ أتممت فهو خير تزداد)(4).
ص: 289
أمّا الكلام في السند فقد تقدّم الكلام في الكليني ومحمّد بن يحيى العطار وأحمد بن محمّد بن عيسى.
وأمّا علي بن الحكم فهو ثقة, جليل القدر, كما عن الشيخ (1), وهو من السابعة.
وأمّا الحسين بن المختار فهو القلانسي فقد ذكر المفيد (رحمة الله) في الإرشاد: أنّ (ممّن روى النصّ على الرضا علي بن موسى (علیهما السلام) بالإمامة من أبيه والإشارة إليه منه بذلك, من خاصّته وثقاته, وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته: داود بن كثير الرقي، ومحمّد بن إسحاق بن عمار، وعلي بن يقطين، ونعيم القابوسي، والحسين بن المختار، وزياد بن مروان، والمخزومي، وداود بن سليمان، ونصر بن قابوس، وداود بن زربي، ويزيد بن سليط، ومحمّد بن سنان)(2). وهذا تصريح بكونه من خاصة الإمام الكاظم (علیه السلام) وثقاته.
ولو نوقش(3) في وثاقته على أساس أنّ عبارة المفيد في الإرشاد يصعب البناء على أنّها مسوقة لبيان الواقع بالنسبة إلى جميع المذكورين. فيمكن توثيقه من جهة أنّ العلّامة ذكر عن ابن عقدة أنّ ابن فضّال وثّقه(4), وهو كافٍ في التوثيق. وهو من الخامسة. وعليه تكون الرواية معتبرة السند.
وأمّا الدلالة فالمعتبرة تشير بوضوح إلى أنْ المكلّف إنْ صلّى قصراً فقد أدّى ما عليه من التكليف, كما أنَّ له أنْ يصلّي تماماً فيزداد خيراً, وهذا يكشف عن أنّ الصلاة في الحرمين الشريفين من الأحكام الموسّعة, وأنّ المكلّف في سعة من التشريع بين القصر والتمام.
ص: 290
ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى, عن محمّد بن أبي عمير, عن سعد بن أبي خلف, عن علي بن يقطين, عن أبي الحسن (علیه السلام) في الصلاة بمكة قال: (منْ شاء أتمّ, ومن شاء قصّر)(1).
وأمّا السند فقد تقدّم الكلام فيه إلى سعد.
وأمّا سعد بن أبي خلف فقد وثّقه العلمان(2). وهو من الخامسة.
وأمّا علي بن يقطين فهو ثقة جليل القدر(3), وهو من الخامسة أيضاً. وعليه فالرواية معتبرة.
وأمّا دلالة المعتبرة فهي تصرّح بأنّ المكلّف مخيّر بين الصلاة تماماً أو قصراً، ممّا يدلّ على أنّ الصلاة في الحرمين الشريفين من الأحكام الموسّعة التي يكون فيها سعة في التشريع, بحيث لا ينحصر بمورد واحد وهو التمام أو القصر بل أيّهما يأتي به يكون ممتثلاً.
ما رواه الشيخ بإسناده إلى الكُليني عن علي بن إبراهيم, عن أبيه, عن إسماعيل بن مرار, عن يونس, عن علي بن قطين, قال: سألت أبا إبراهيم (علیه السلام) عن التقصير بمكة فقال: (أتمّ, وليس بواجب, إلَّا أنيّ أحبّ لك مثل الذي أحبّ لنفسي)(4). وهذه الرواية قد تُعدّ من الروايات الدالة على التوسّعة أيضاً بتصريح فيها بأنّه ليس بواجب.
ص: 291
واعتبار الرواية محلّ كلام لوجود إسماعيل بن مرار, وقد تقدّم الكلام فيه.
وأمّا دلالة الرواية فهي تبيّن أنّ الأئمة كانوا يحثّون على الإتمام في الصلاة عند إيقاعها في الحرمين الشريفين.
والظاهر اتحاد هذه الرواية مع سابقتها؛ لوحدة الراوي المباشر والمروي عنه وتماثل المضمون.
والحاصل من هذا المورد: إنّ اختلاف الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة (علیهم السلام) وكذلك عمل الأصحاب يدلّ بوضوح على أنّ هذا الباب - الصلاة في الحرمين - من الأحكام الموسّعة التي يكون التشريع فيها موسّعاً, بحيث يمكن للمكلّف أنْ يأخذ بأيّ منها, ولم يكن صدور البعض منها لأجل بيان الحكم الواقعي حتى يكون الأخذ بخلافها منهيّاً عنه ومخالفاً للحكم الإلزامي, بل يكون الأخذ بالبعض الآخر مُجزياً ومحصِّلاً للثواب. نعم, قد يكون هناك فضلٌ أكثر عند الإتيان بالصلاة التامّة من باب أنّ أفضل الأمور أحمزها, إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ الإتيان بالصلاة قصراً يكون مخالفاً للحكم الواقعي وغير مجزٍ, فيكون اقتصار الإمام (علیه السلام) - حينئذٍ - على القصر في بعض الأحيان لأجل رعاية بعض المصالح التي مرّ ذكرها.
ص: 292
اختلفت الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) في كيفية الإحرام لحجّ التمتع ممّا أدّى إلى اختلاف عمل الأصحاب, إذ إنّ بعضها ورد بالتلفظ بالعمرة عند التلبية. وأُخرى بالتلفظ بالحج. وثالثة بالتلفظ بالعمرة والحج جميعاً. ورابعة لم تذكر شيئاً منها. فهنا أربع طوائف من الروايات سوف نذكرها, ثمّ نذكر معتبرة عبد الله بن زرارة التي تدلّ بوضوح على أنّ الإحرام لحجّ التمتع من الميقات من الأحكام الموسّعة التي يسع المكلّف أنْ يأتي بأي لفظ شاء.
وهي روايتان:
ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد, عن حمّاد، عن حريز, عن عبد الملك بن أعين, قال: حجّ جماعة من أصحابنا, فلمّا وافوا المدينة ودخلوا على أبي جعفر (علیه السلام) فقالوا: إنّ زرارة أمرنا أنْ نهلّ بالحجّ إذا أحرمنا فقال لهم: (تمتّعوا). فلمّا خرجوا من عنده دخلت عليه, فقلت له: - جعلت فداك - والله لئن لم تخبرهم بما أخبرت به زرارة ليأتينّ الكوفة وليصبحنّ بها كذاباً، قال: (ردّهم علي). قال: فدخلوا عليه, فقال: (صدق زرارة). ثُمَّ قال: (أمَا والله لا يسمع هذا بعد اليوم أحد مني)(1).
أمّا سند الحديث فقد تقدّم بيان طريق الشيخ إلى الحسين بن سعيد، وهو صحيح.
ص: 293
وأمّا الحسين بن سعيد وحمّاد فقد تقدّم ذكرهما.
وأمّا حريز فهو السجستاني كوفي ثقة كما عن الشيخ (1) . وهو من الخامسة.
وأمّا عبد الملك بن أعين فهو وإنْ لم يرد في حقه توثيق خاصّ, ولكن ذكر الكشي بإسناده المعتبر إلى الحسن بن علي بن يقطين قال: (حدثني المشايخ أن حمران وزرارة وعبد الملك وبكيراً وعبد الرحمن بني أعين كانوا مستقيمين، ومات منهم أربعة في زمان أبي عبدالله (علیه السلام) )(2). ويكفي هذا في حسن عبد الملك واستقامته.
وكيف كان فالرجل حسن. فتكون الرواية معتبرة.
وأمّا الدلالة فسوف نتعرّض لها بعد ذكر الرواية الثانية؛ لأنّها تنقل الحادثة نفسها.
معتبرة إسماعيل الجعفي قال: خرجت أنا وميّسر وأناس من أصحابنا, فقال لنا زرارة: لبّوا بالحج. فدخلنا على أبي جعفر (علیه السلام), فقلنا له: أصلحك الله, إنّا نريد الحج, ونحن قوم صرورة فكيف نصنع؟ فقال: (لبّوا بالعمرة). فلمّا خرجنا قدم عبد الملك بن أعين, فقلت له: ألا تعجب من زرارة؟ قال لنا: لبُّوا بالحج وأنّ أبا جعفر (علیه السلام) قال لنا لبّوا بالعمرة, فدخل عليه عبد الملك بن أعين فقال له: إنّ أناساً من مواليك أمرهم زرارة أنْ يلبّوا بالحجّ عنك, وأنّهم دخلوا عليك فأمرتهم أنْ يلبّوا بالعمرة. فقال أبو جعفر (علیه السلام): (يريد كلّ إنسان منهم أنْ يسمع على حدة. أعدهم عليّ). فدخلنا, فقال: (لبّوا بالحجّ, فإنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لبّى بالحجّ)(3).
أمّا السند فالرواية رواها الشيخ بقوله: (وعنه - أي الحسين بن سعيد - عن صفوان,
ص: 294
عن جميل بن دراج وابن أبي نجران, عن محمّد بن حمران جميعاً, عن إسماعيل الجعفي). أيّ هناك طريقان للرواية:
الأوَّل: الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن جميل بن دراج، عن محمّد بن حمران.
الثّاني: الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن ابن أبي نجران، عن محمّد بن حمران.
وأمّا جميل بن درّاج فقد قال عنه النجاشي: (شيخنا ووجه الطائفة, ثقة)(1). وهو من الخامسة.
أمّا ابن أبي نجران فهو عبد الرحمن بن أبي نجران, وهو ثقة ثقة، كما عن النجاشي(2). من السادسة.
وأمّا محمّد بن حمران فقد قال النجاشي: (أبو جعفر, ثقة)(3). من الخامسة.
وأمّا إسماعيل الجعفي فهو إمّا إسماعيل بن جابر الجعفي الذي وثّقه الشيخ قائلاً: (إسماعيل بن جابر الخثعمي الكوفي ثقة ممدوح له أصول)(4). والظاهر أنّ الخثعمي هو تصحيف الجعفي, فيكون الرجل ثقة, وهو من معمري الرابعة الذين أدركتهم السادسة. وإمّا هو إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفي, فقد ذكر النجاشي في ترجمة بسطام ابن الحصين بن عبد الرحمن الجعفي ما لفظه: (كان وجهاً في أصحابنا وأبوه وعمومته، وكان أوجههم إسماعيل)(5). وهو أيضاً من الطبقة الرابعة, وقد روى جميل بن درّاج
ص: 295
عن كلٍّ منهما, ومهما يكن فالرجل ثقة, فتكون الرواية معتبرة حينئذٍ.
وهذان الخبران تضمّنا الأمر للسائل بالإهلال بلفظ (العمرة إلى الحج), وأنّ التلفظ في التلبية بالعمرة ممّا يجوز, ولكن لمّا رأى الإمام (علیه السلام) أنّ ذلك يؤدّي إلى الفساد وإلى الطعن على منْ يختصّ به من أجلّة أصحابه قال لهم لبّوا بالحج, ممّا يدلّ على أنّ الإهلال في التلبية بلفظ العمرة ممّا لا إشكال فيه وأنّه جائز شرعاً.
وهي أربع روايات:
معتبرة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): كيف أتمتع؟ قال: (تأتي الوقت فتلبّي بالحجّ، فإذا دخلت مكة طفت بالبيت, وصليت الركعتين خلف المقام, وسعيت بين الصفا والمروة, وقصّرت, وأحللت من كل شيء, وليس لك أنْ تخرج من مكة حتى تحجّ)(1).
أمّا سند الحديث فقد ذكر الشيخ في التهذيب: (وما رواه أيضاً عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن زرارة بن أعين).
وهذا السند جاء تعليقاً على السند السابق له وهو عن موسى بن القاسم.
فيكون السند موسى بن القاسم, عن حمّاد بن عيسى, وطريق الشيخ إلى موسى بن القاسم صحيح لا إشكال فيه. وموسى بن القاسم ثقة من السابعة.
وأمّا بقية رجال السند فقد تقدّم ذكرهم.
فالرواية معتبرة السند.
وأمّا دلالة المعتبرة فهي صريحة بالتلفظ بالحجّ في التلبية عند الميقات, حيث يقول الإمام (علیه السلام) لزرارة تأتي الوقت، أي الميقات فتلبّي بالحج - أيّ تتلفظ بالحج في التلبية - فهي
ص: 296
من روايات التلفظ بالحجّ في التلبية.
ما رواه الشيخ بإسناده عن موسى بن القاسم, عن صفوان بن يحيى, عن عبد الله بن مسكان, عن حمران بن أعين قال: دخلت على أبي جعفر (علیه السلام) فقال لي: (بما أهللت؟). فقلت: بالعمرة. فقال لي: (أفلا أهللت بالحجّ ونويت المتعة، فصارت عمرتك كوفية، وحجتك مكية، ولو كنت نويت المتعة وأهللت بالحج كانت عمرتك وحجتك كوفيتين)(1).
أمّا سند الحديث فتقدّم الكلام في رجاله ومنه يظهر أنّ الرواية معتبرة.
وأمّا دلالة الرواية فالإمام (علیه السلام) أراد بقوله: (ولو كنت نويت المتعة وأهللت بالحجّ) هي العمرة التي يتمتع بها إلى الحجّ, ومع ذلك ذكر الإمام (علیه السلام) لفظ الحج عند التلبية، فهذه من الروايات التي تذكر لفظ الحج عند التلبية في الميقات.
ما رواه الشيخ بإسناده عن موسى بن القاسم, عن أبان بن عثمان, عن حمران بن أعين, قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن التلبية فقال لي: (لبِّ بالحجّ فإذا دخلت مكة طفت بالبيت وصليت وأحللت)(2).
أمّا السند فقد تقدّم الكلام في أغلب رجاله ما عدا أبان بن عثمان، وهو لم يرد في حقه توثيق خاصّ. ولكنّ الكشي عدّه من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم, فيمكن توثيقه بهذا الاعتبار. وهو من الخامسة.
وأمّا دلالة الرواية فهي دالّة بوضوح على أنّ التلبية عند الميقات تكون بلفظ الحجّ, فتكون من روايات الطائفة الواردة بلفظ الحجّ في التلبية.
ص: 297
والظاهر اتحاد هذه الرواية مع الرواية السابقة.
ما رواه الشيخ بإسناده عن موسى بن القاسم, عن أحمد بن محمّد, قال: قلت لأبي الحسن علي بن موسى (علیه السلام) كيف أصنع إذا أردت أن أتمتع؟ فقال: (لبِّ بالحجّ وانوِ المتعة, فإذا دخلت مكة طفت بالبيت وصليت الركعتين خلف المقام وسعيت بين الصفا والمروة وقصّرتَ ففسختها وجعلتها متعة)(1).
أمّا الكلام في السند فقد تقدّم ذكر وثاقة رجاله.
وأمَّا دلالة الرواية فهي تدلّ صريحاً على أنَّ التلفظ في التلبية عند الميقات إنَّما يكون بلفظ الحجّ, فتكون من روايات الطائفة الثانية.
وهي روايتان:
ما رواه الشيخ بإسناده عن موسى بن القاسم، عن ابن أبي عمير، عن حمَّاد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام): (إنَّ عثمان خرج حاجّاً فلمَّا صار إلى الأبواء أمر منادياً ينادي بالناس أجعلوها حجَّة ولا تمتعوا فنادى المنادي، فمرَّ المنادي بالمقداد ابن الأسود فقال: أمَا لتجدنّ عند القلائص رجلاً ينكر ما تقول, فلمَّا انتهى المنادي إلى علي (علیه السلام) وكان عند ركائبه يلقمها ضبطاً ودقيقاً، فلمَّا سمع النداء تركها مضى إلى عثمان فقال: ما هذا الذي أمرت به!! فقال رأي رأيته فقال: والله لقد أمرت بخلاف رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ثُمَّ أدبر مولَّياً رافعاً صوته (لبيك بحجّة وعمرة معاً لبيك), وكان مروان بن الحكم (لعنه الله) يقول بعد ذلك فكأنِّي أنظر إلى بياض الدقيق مع خضرة الخبط على ذراعيه)(2).
ص: 298
والكلام تارة في السند، وأخرى في الدلالة.
أمَّا السند فلم يبقَ إلَّا الحلبي لم نتعرض له وهو عبيد الله بن علي الحلبي, وقد وثَّقه النجاشي(1), وهو من الرابعة. وعليه فالرواية معتبرة.
وأمَّا دلالة الرواية فهي صريحة بالتلفظ بالحج والعمرة معاً في التلبية عند الميقات فهي من روايات الطائفة الثّالثة.
صحيحة يعقوب بن شعيب، وهي ما رواه الشيخ بإسناده عن موسى بن القاسم، عن صفوان وابن أبي عمير، عن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) فقلت له: كيف ترى أن أهلّ؟ فقال لي: (إنْ شئت سمَّيت, وإنّ شئت لم تسمِّ شيئاً). فقلت له: كيف تصنع أنت؟ فقال: (أجمعها فأقول لبيك بحجّة وعمرة معاً) ثمَّ قال: (أمَّا أنِّي قد قلت لأصحابك غير هذا)(2).
أمَّا السند فقد مرّ الكلام في وثاقة رجاله ما عدا يعقوب بن شعيب الذي وثَّقه النجاشي(3). وهو من الخامسة.
وأمَّا دلالة الصحيحة فهي تشير بوضوح إلى أنَّ التلفظ الذي ينبغي ذكره في التلبية عند الميقات هو الجمع بين لفظ الحجّ والعمرة، فهذه الرواية من الطائفة الثّالثة.
وهي روايتان:
ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد بن عبد الله، عن الحسن بن علي بن
ص: 299
عبد الله، عن علي بن مهزيار، عن فضالة بن أيوب، عن رفاعة بن موسى، عن أبان بن تغلب, قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) بأيّ شيء أهلُّ؟ فقال: (لا تسمِّ لا حجّاً ولا عمرة, وأضمر في نفسك المتعة, فإنْ أدركت متمتعاً وإلاّ كنت حاجّاً)(1).
والكلام تارة في السند، وأخرى في الدلالة.
أمَّا السند فقد تقدّم التعرض لبعض رجاله وبقي الحسن بن علي بن عبد الله فهو ابن المغيرة وثَّقه النجاشي(2), وهو من السابعة.
وفضالة بن أيوب قد وثَّقه العلمان (3), وهو من الطبقة الخامسة.
ورفاعة بن موسى أيضاً وثَّقه العلمان(4). وهو كذلك من الخامسة.
وأبان بن تغلب ثقة، جليل القدر، كما عن الشيخ(5)وهو من الرابعة.
وعليه فالرواية معتبرة.
وأمَّا الدلالة فهي صريحة في عدم الحاجة إلى ذكر لفظ الحجّ أو العمرة في التلبية عند الميقات, فتكون من روايات الطائفة الرابعة.
ما رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يعقوب، عن عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي وزيد الشحّام، عن منصور بن حازم قال: أمرنا أبو عبد الله (علیه السلام) أنْ نلبّي ولا نسمِّي
ص: 300
شيئاً، وقال: (لأصحاب الإضمار أحبّ إلي)(1).
أمَّا السند فقد تقدّم ذكر وثاقة جلّ رجاله، وبقي:
1. سيف بن عميرة وقد وثَّقه العلمان (2). وهو من الخامسة.
2. زيد الشحّام وهو زيد بن يونس، وقد وثَّقه الشيخ(3), وهو من الرابعة التي أدركتها السادسة.
3. منصور بن حازم وهو أيضاً ثقة كما عن النجاشي(4). وهو من الطبقة الخامسة.
وعليه فالرواية معتبرة.
وأمَّا دلالة الرواية فهي تشير إلى أنَّ الإمام (علیه السلام) أمرهم بأنْ يلبّوا من دون ذكر أيّ شيء سواء لفظ الحج أو العمرة, ممّا يكشف عن أنَّ الرواية من روايات الطائفة الرابعة.
هذه هي الطوائف الأربعة.
وأمَّا الرواية التي تشير بوضوح إلى أنَّ الإحرام لحجّ التمتع من الميقات من الأحكام الموسّعة, بحيث يسع المكلَّف أنْ يأتي بأيّ لفظ شاء فهي معتبرة: (عبد الله بن زرارة، عن أبي عبد الله (علیه السلام) في رسالته إلى زرارة: (وعليك بالحج أن تهل بالإفراد وتنوي الفسخ إذا قدمت مكَّة وطفت وسعيت... فهذا الذي أمرناك به حجّ التمتع، فألزم ذلك ولا يضيقنّ صدرك، والذي أتاك به أبو بصير من الإهلال بالتمتع بالعمرة إلى الحج وما أمرنا به من أنْ يهلّ بالتمتع, فلذلك عندنا معانٍ وتصاريف لذلك ما يسعنا ويسعكم
ص: 301
ولا يخالف شيء منه الحق ولا يضادّه)(1).
أمَّا سند الحديث فقد تعرّضنا له في المورد الثّاني - أعداد النوافل -, وأثبتنا اعتباره.
وأمّا الكلام في الدلالة فقد ذكر السيد الأستاذ (دامت افاداته) في دلالة هذه المعتبرة ما لفظه: (فيلاحظ أنّ التلفظ بنوع النّسك لمّا كان من الموسّعات - إذ العبرة بالنية القلبية وهي منعقدة على عمرة التمتع, ولا أثر لكون المتلفظ به هو الحجّ, أو العمرة, أو هما معاً, أو لا يكون شيء منهما - فإنّ الإمام (علیه السلام) مراعاة لبعض المصالح أمر أحد كبار أصحابه الكوفيين وهو زرارة بأنْ يلبى بالحجّ، في حين أمر أبا بصير بأنْ يُحرم بالعمرة, ولعلّ أراد لزرارة أنّ يشبه حجّه حجّ صحابة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في حجة الوداع, حيث إنّهم أحرموا بالحج ثُمَّ عدلوا إلى عمرة التمتع)(2).
ونزيد على كلام الأستاذ (دامت افاداته) أنّ التلفظ بنوع النّسك لو كان له مدخلية في الحكم الواقعي وأنّه يلزم الإخلال بالحكم الواقعي لو أتى بغير ما هو واجب عليه لمّا صح للإمام (علیه السلام) أنْ يأمر زرارة بأنْ يتلفظ بالحجّ, ويأمر أبا بصير بالتلفظ بالعمرة, وهذا يكشف بوضوح عن أنّ التلفظ بنوع النّسك لمّا كان من الموسّعات وأنّ المكلّف في سعة من أمره فمن ثَمَّ اختلف كلام الإمام (علیه السلام) .
والشاهد عليه قول الإمام (علیه السلام): (فلذلك عندنا معانٍ لذلك ما يسعنا ويسعكم), أيّ لولا وجود معانٍ وتصاريف يمكن أنْ يحمل كلامنا عليها بحيث تكون هناك من السعة علينا وعليكم ما اختلف كلامنا بالنسبة إلى كيفية الإحرام, واختلف التلفظ بنوع النّسك.
ص: 302
وأيضاً يشهد على ذلك ذيل الرواية حيث ذكر الإمام (علیه السلام): (ولا يخالف شيء من ذلك الحق, ولا يضادّه), وهذا الكلام من قِبل الإمام (علیه السلام) يشهد أنّ كُلّا من التلفظ بالحجّ أو العمرة صحيح, ولكن رعاية لبعض المصالح, كأنْ يكون الفضل في بعضها أكثر فأمر الإمام (علیه السلام) زرارة بشيء يخالف ما أمر أبا بصير به, كأنْ تكون المصلحة ما ذكرها السيد الأستاذ (دامت افاداته) من أنّ الإمام (علیه السلام) أراد لزرارة أنْ يشبه حجّه حجّ صحابة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في حجّة الوادع, حيث إنّهم احرموا بالحجّ ثُمَّ عدلوا إلى عمرة التمتع.
والحاصل في هذا المورد: إنّ اختلاف الروايات الواردة عن أهل البيت (علیهم السلام) - وأنّ في بعضها يأمر الإمام (علیه السلام) بعدم ذكر شيء من الحجّ أو العمرة, وفي بعضها الآخر يأمر بذكر لفظ الحجّ أو العمرة - يكشف عن أنّ التلفظ بنوع من الموسّعات التي لو لم يأتِ بها المكلّف لا يغيّر ذلك بالحجّ مادامت النية القلبية منعقدة عن ذلك النّسك, ولكن رعاية لبعض المصالح يأمر الإمام (علیه السلام) بالإهلال بالحجّ, وأحياناً يأمر بالإهلال بالعمرة, وفي كلا الموردين يكون الحكم مجزياً.
ص: 303
اختلفت الروايات الواردة عن أهل البيت (علیهم السلام) في حدّ إدراك المتعة اختلافاً شديداً, فقد كان الأئمة (علیهم السلام) يأمرون أصحابهم بوجوه مختلفة لبعض المصالح كإيقاع الخلاف مثلاً، وأنْ لا يظهروا على رأي واحد وأنّهم تحت قيادة واحدة، أو لأجل المداراة والتخفيف، أو لأجل زيادة الفضل والثواب, أو لغيرها من المصالح ممّا اقتضى أنْ يكون الأمر على أنحاء مختلفة.
وأيّاً كان, فلنتعرّض لهذه الروايات التي هي على طوائف مختلفة لنرى مدى الاختلاف الوارد عن الأئمة (علیهم السلام) .
وهي عدّة روايات:
صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع، وهي ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن عيسى - وهو أحمد بن محمّد بن عيسى - عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، قال: سألت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) عن المرأة تدخل مكة متمّتعة فتحيض قبل أنْ تحل متى تذهب متعتها؟ قال: (كان جعفر (علیه السلام) يقول: زوال الشمس من يوم التروية، وكان موسى (علیه السلام) يقول: صلاة الصبح من يوم التروية) فقلت: جعلت فداك عامّة مواليك يدخلون يوم التروية, ويطوفون ويسعون ثم يحرمون بالحجّ فقال: (زوال الشمس). فذكرت له رواية عجلان بن أبي صالح قال: (لا، إذا زالت الشمس ذهبت المتعة).
ص: 304
فقلت: فهي على إحرامها أو تجدّد إحرامها للحج؟ فقال: (لا، هي على إحرامها) . فقلت: فعليها هدي؟ فقال: (لا، إلّا أنْ تحبّ أنْ تطوّع) ثم قال: (أمّا نحن فإذا رأينا هلال ذي الحجة قبل أنْ نحرم فاتتنا المتعة)(1).
والمقصود برواية عجلان أبي صالح هو ما رواه الكليني بإسناده عن محمّد بن إسماعيل - وهو ابن بزيع - عن درست الواسطي عن عجلان أبي صالح قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن امرأة متمتعة قدِمت مكة فرأت الدم، قال: (تطوف بين الصفا والمروة, ثم تجلس في بيتها، فإنْ طهرت طافت بالبيت. وإنْ لم تطهر فإذا كان يوم التروية أفاضت عليها الماء وأهلت بالحجّ من بيتها, وخرجت إلى منى, وقضت المناسك كلها, فإذا قدِمت مكة طافت بالبيت طوافين, ثم سعت بين الصفا والمروة. فإذا فعلت فقد حلّ لها كل شيء ما خلا فراش زوجها)(2).
ورواية محمّد بن إسماعيل بن بزيع صحيحة - كما ذكرنا - وقد تقدّم حال رجالها بما لا حاجة إلى تكراره.
والكلام في دلالة الحديث هو: أنّ الملاحظ أنّ الإمام الرضا (علیه السلام) أجاب عن سؤال محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن حدّ إدراك المتعة بنقل كلامين مختلفين عن جدّه وأبيه (علیهما السلام) ولم ينقلهما بصيغة رُوي ليُحمل أحد النقلين أو كلاهما على عدم الصحة، بل مع الجزم بالنسبة حيث قال: (كان جعفر (علیه السلام) يقول... وكان موسى (علیه السلام) يقول...)، فهو
- أي الإمام الرضا (علیه السلام) - نسب بصيغة الجزم إلى الإمامين الصادق والكاظم (علیهما السلام)، وهذا ليس له محمل صحيح إلّا أنْ يكون الحدّ لإدراك المتعة من الموسّعات التي يكون
ص: 305
التشريع فيها ذا سعةٍ, وأنّ ما صدر من الأئمة (علیهم السلام) يكون مراعاة لبعض المصالح: إمّا لبيان الفرد الأفضل, أو لأجل المداراة, أو لغير ذلك من المصالح التي ذكرناها سابقاً.
نعم, الرواية ظاهرة في أنّ الحدّ الأقصى لإدراك المتعة هو زوال الشمس من يوم التروية؛ لأنّ محمّد بن إسماعيل بن بزيع حاول انتزاع الترخيص في الإتيان بعمرة التمتع فيما بعد ذلك من خلال الإشارة إلى رواية عجلان أبي صالح, إلّا أنّ الإمام الرضا (علیه السلام) لم يُجز ذلك, ولكن بقرينة الروايات التي سوف نستعرضها من خلال الطوائف الأخرى تُحمل الرواية على خلاف ظاهرها, وأنّ الإمام الرضا (علیه السلام) إنّما اقتصر على كون الحدّ الأقصى لإدراك المتعة هو زوال الشمس من يوم التروية لأجل بعض المصالح والأغراض, مثل أنْ لا يتأخّر المكلّف ويتهاون فيفوته الحجّ.
والخلاصة: إنّ الصحيحة فيها دلالة واضحة على أنّ حدّ إدراك المتعة من الأحكام الموسّعة بحيث يمكن للمكلف أنْ يأتي بأعمال عمرة التمتع في أوقات مختلفة ولا يتحدّد بوقت معين.
نعم، يجب أنْ لا يتأخّر إلى وقت لا يستطيع أنْ يأتي بأعمال العمرة, وهو زوال يوم عرفة كما سيأتي في الروايات اللاحقة.
صحيحة جميل بن دراج وهي ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى وابن أبي عمير وفضالة، عن جميل بن درّاج، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن المرأة الحائض إذا قدمت مكة يوم التروية قال: (تمضي كما هي إلى عرفات فتجعلها حجّة, ثمّ تقيم حتى تطهر وتخرج إلى التنعيم فتحرم فتجعلها عمرة)(1). قال ابن أبي عمير: كما صنعت عائشة.
ص: 306
وسند الرواية صحيح، وقد تقدّمت ترجمة الجميع ما عدا فضالة وهو فضالة بن أيوب الأزدي قد وثّقه العلمان(1) - النجاشي والطوسي -, وهو من الخامسة روى عنه رجال السادسة.
وهناك قول بأنّ رواية الحسين بن سعيد عن فضالة كلّها بواسطة أخيه الحسن بن سعيد. وليس في ذلك أهمية كبيرة في روايتنا هذه طالما أنّ السند بالإضافة إلى فضالة يوجد صفوان وابن عمير وهما ممّن روى عنهما الحسين بن سعيد, فلا إشكال في السند من هذه الجهة.
وأمّا الكلام في دلالة الحديث فإنّ جميل بن دراج سأل الإمام الصادق (علیه السلام) عن قدوم المرأة الحائض لمكة يوم التروية, وهذا يعني أنّ قدومها بعد طلوع الفجر - ولو بدقائق قليلة - حيث يصدق عليه أنّه يوم التروية, ومِن ثَمَّ تذهب متعتها بعد طلوع الفجر من يوم التروية, ممّا يكشف أنّ هذه الرواية هي من الطائفة الأولى التي جعلت حدّ المتعة هو طلوع الفجر من يوم التروية, إذ نلاحظ أنّ الإمام (علیه السلام) أمر أنْ تجعل حجّها حجّ إفرادٍ, وتأتي بعمرة مفردة بعد الحجّ إنْ تمكنت.
هذا، وهذه الصحيحة لا تنافي ما سيأتي من الروايات التي تجعل حدّ المتعة زوال يوم التروية أو فجر يوم عرفة؛ لاحتمال أنّ الإمام (علیه السلام) عَلِم أنّ هذه المرأة لا تطهر إلى ما بعد زوال يوم عرفة, وحينئذٍ يكون حجّها إفراداً.
والحاصل: من هذه الطائفة: إنّ حدّ المتعة هو طلوع الفجر من يوم التروية, بحيث لا تصحّ المتعة في غير هذا الوقت. ولكن بقرينة الروايات الآتية من أنّ حدّ المتعة يستمر إلى فجر يوم عرفة وإلى الزوال من يوم عرفة سيتضح أنّ هذا الحكم الذي ورد عن أهل
ص: 307
البيت (علیهم السلام) من الأحكام الموسّعة التي يكون فيها سعة في التشريع, فليس مخالفتها توجب مخالفة الحكم الواقعي بحدِّه لفرض أنّها لم تصدر لبيان الحكم الواقعي, بل كان الاقتصار على بعضها لأجل بعض المصالح. إلّا أنّ هذا الاقتصار لا يعني أنّ مخالفة بعضها يؤدّي إلى مخالفة الحكم الواقعي.
ولا تصحّ بعد الزوال من يوم التروية، وهي صحيحة محمّد بن إسماعيل ابن بزيع المتقدّمة التي حكى الإمام الرضا (علیه السلام) عن جدّه الصادق (علیه السلام) أنّ متعة الحائض تذهب بزوال الشمس من يوم التروية حيث قال: (كان جعفر (علیه السلام) يقول زوال الشمس من يوم التروية) (1).
وقد أكد الإمام (علیه السلام) هذا المعنى - كون حدّ المتعة إلى زوال الشمس من يوم التروية - مرّتين: (مرة) في قوله: (وجُعلت فداك عامة مواليك يدخلون يوم التروية ويطوفون ويسعون ثم يحرمون بالحج فقال: زوال الشمس).
(وأُخرى) حين ذكر له السائل رواية عجلان أبي صالح فأجابه (علیه السلام): (لا، إذا زالت الشمس ذهبت المتعة).
وعليه, فهذه الرواية تدلّ على أنّ حدّ المتعة هو زوال الشمس من يوم التروية, فتكشف - كما مرّ آنفاً - عن أنّ حكاية الإمام (علیه السلام) لقول أبيه الإمام الكاظم (علیه السلام) ليس لبيان الحكم الواقعي, وأنّه على حدّ الإلزام. وإلّا - لو كان على نحو الإلزام - لكان ذكره لقول جدّه الصادق وكذلك كلامه (علیهما السلام) يكون مخالفاً للواقع, وهذا ممّا نستبعده، بل نمنعه, ممّا
ص: 308
يكشف عن أنّ ذكر حدّ المتعة من أنّها إلى زوال يوم التروية يكون من الأحكام الموسّعة. واقتصار الإمام الكاظم (علیه السلام) على فجر يوم التروية إنّما كان لمصلحة من قبيل حثّه على المبادرة وعدم التهاون, لأجل أنْ لا يفوته الحجّ.
والحاصل: من هذه الطائفة أنّ كون حدّ المتعة هو زوال يوم التروية يكشف عن كون جعل حدّ المتعة هو فجر يوم التروية لم يكن من الإلزام، وإلّا لاستلزم أن يكون جعل حدّ المتعة هو زوال الشمس من يوم التروية مخالفاً للواقع، وهذا ممتنع.
وعدم إدراكها بعد ذلك، وهي روايتان:
صحيحة عيص بن القاسم وهي ما رواها الشيخ بقوله: وعنه - أي موسى ابن القاسم لأنّه المتقدم في الرواية السابقة - عن صفوان, عن عيص بن القاسم، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن المتمتع يقدِم مكة يوم التروية صلاة العصر تفوته المتعة؟ فقال: (لا، له ما بينه وبين غروب الشمس). وقال: (قد صنع ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) )(1).
والرواية صحيحة السند لوثاقة جميع رجالها، وقد تقدمت ترجمتهم عدا العيص بن القاسم، فقد قال عنه النجاشي (قدس سره): (عيص بن القاسم بن ثابت بن عبيد بن مهران البجلي كوفي عربي يكنى أبا القاسم ثقة) (2). وهو من الخامسة.
وعليه تكون الرواية صحيحة السند لوثاقة جميع رواتها.
وأمّا الكلام في الدلالة فقد ذكر السيد الأستاذ (دامت افاداته) (3) أنّ في ذيل الصحيحة إشكالاً،
ص: 309
لأنّ من المسلّم أنّ النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يحجّ تمتعاً؛ فإنّ المتعة نزلت في حجّة الوداع, وهو (صلی الله علیه و آله و سلم) كان قارناً, ولم يكن بإمكانه العدول إلى المتعة.
إلّا أنّ ذلك لا يمنع دلالة الرواية على كون حدّ إدراك المتعة هو غروب الشمس من يوم التروية ممّا تكشف عن أنّ ما ذكره الإمام الرضا (علیه السلام), وكذلك الإمام الكاظم (علیه السلام) لم يكن لبيان الحكم الواقعي بحدِّه - وإلّا لاستلزم أنْ يكون ما ذكر في هذه الصحيحة ليس بصحيح مع أنّها تامّة السند. وأيضاً هي واضحة الدلالة على كون حدّ إدراك المتعة هو غروب الشمس من يوم التروية - وإنّما اقتصر الإمام (علیه السلام) في الروايات السابقة على فجر يوم التروية, أو زوال الشمس من يوم التروية لأجل بعض المصالح التي ذكرنا بعضها في الكلام السابق. وعليه تكون هذه الرواية أيضاً كاشفة عن كون حدّ إدراك المتعة من الأحكام الموسّعة التي يكون التشريع فيها موسعاً, بحيث يمكن للمكلّف أنْ يأخذ بأيّهما شاء.
ما رواه الشيخ بقوله: عنه - أي موسى بن القاسم لفرض أنّه المتقدّم - عن محمّد بن سهل عن أبيه عن إسحاق بن عبد الله، قال: سألت أبا الحسن موسى (علیه السلام) عن المتمتع يدخل مكة يوم التروية فقال: (للمتمتع ما بينه وبين الليل)(1).
أمّا سند الرواية: فقد تقدم الكلام في موسى بن القاسم وفي طريق الشيخ إليه.
وأمّا محمّد بن سهل فقد ذكره النجاشي(2), ولكنّه لم يوثّقه. وكذلك ذكره الشيخ (3) في الفهرست وأيضاً لم يوثقه. فالرجل لم يوثّق, وهو من السادسة.
ص: 310
وأمّا أبوه فهو سهل بن اليسع بن عبد الله, قال النجاشي (قدس سره) (1) سهل بن اليسع بن عبد الله بن سعد الأشعري قمي ثقة من الخامسة.
وأمّا إسحاق بن عبد الله فقد قال النجاشي (قدس سره) (2) إسحاق بن عبد الله بن سعد بن مالك الأشعري قمي ثقة, وهو من كبار الخامسة.
وعليه تكون الرواية ضعيفة بمحمّد بن سهل؛ لأنّه لم يوثّق في كتب الرجال. ولكن لا يضرّ ضعف سندها في المقام مع وجود رواية صحيحة السند تدلّ على أنّ حدّ إدراك المتعة هو غروب الشمس, وعندئذٍ تكون هذه الرواية صالحة لتأييد أنّ حدّ المتعة من الأحكام الموسّعة.
وأمّا الكلام في دلالة الرواية فمن الواضح أنّ الإمام الكاظم (علیه السلام) عندما سئل عن المتمتع الذي يدخل يوم التروية كان جوابه (علیه السلام) للمتمتع ما بينه وبين الليل, بمعنى أنّ المتمتع يمكن له أنْ يدرك المتعة قبل غروب الشمس من يوم التروية. وكلام الإمام الكاظم (علیه السلام) لو كان لبيان الحكم الواقعي بحدِّه - أي أنّه على حدّ الإلزام بحيث لا يجوز التخلّف عنه - لكان منافياً لما حكاه الإمام الرضا (علیه السلام) عن الإمام الكاظم (علیه السلام) من كون حدّ إدراك المتعة هو فجر يوم التروية, والذي يرفع هذا التنافي هو أنْ نحمل كلام الإمام (علیه السلام) على أنّ اقتصاره على غروب يوم التروية لإدراك المتعة لم يكن صادراً لبيان الحكم الواقعي بحدِّه بحيث لا يجوز التخلّف عنه, بل نحمله على كون حدّ إدراك المتعة من الأحكام الموسّعة, فلا يُلزَم المكلّف ببعضها دون بعض. وأمّا اقتصار الإمام (علیه السلام)
ص: 311
على بعض الموارد: فإمّا رعاية لبعض المصالح كأنْ لا يتهاون المكلّف في التأخير, أو من باب المداراة لبعض المكلّفين الذين لديهم ضعف أو غير ذلك.
وكيف كان, فهذه الرواية كسابقتها تكشف عن كون حدّ إدراك المتعة من الأحكام الموسّعة.
وهي صحيحة محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) إلى متى يكون للحاج عمرة؟ قال: (إلى السّحر من ليلة عرفة)(1).
والرواية واردة في التهذيب هكذا: (موسى بن القاسم عن حسن عن علا بن رزين عن محمّد بن مسلم). وقد تقدّم الكلام في صحّة طريق الشيخ (قدس سره) إليه, كما تقدّم ذكر وثاقته وطبقته.
وأمّا (حسن) فقد ذكر السيد الخوئي (قدس سره) في المعجم: (الحسن الراوي لكتاب العلاء يمكن أنْ يراد به الحسن بن محبوب, أو ابن فضال - كما سيأتي في كلام الشيخ -.ويمكن أنْ يراد به الحسن بن زياد الوشاء ... - إلى أن قال - وقال الشيخ: العلاء بن رزين القلاء ثقة جليل القدر له كتاب وهو أربع نسخ (منها): رواية الحسن بن محبوب)(2).
وجميع هؤلاء أي الحسن بن محبوب أو الحسن بن فضال أو الحسن بن زياد الوشاء من الطبقة السادسة؛ لأنّ العلاء بن رزين من الطبقة الخامسة فالطبقة تساعد، وجميع هؤلاء من الثقات.
ص: 312
وأمّا العلاء بن رزين فقد قال النجاشي (قدس سره) (1) العلاء بن رزين القلّاء, ثقفي مولى - إلى أنْ قال - وكان ثقةً, وجهاً, وقد مرّ آنفاً كلام الشيخ في حقّه الذي حكاه عنه السيد الخوئي (قدس سره) في المعجم، وهو من الخامسة.
وأمّا محمّد بن مسلم فقد قال عنه النجاشي: (قدس سره) (محمّد بن مسلم بن رباح أبو جعفر الأوقص الطحّان، مولى ثقيف الأعور، وجه أصحابنا بالكوفة، فقيه، ورع)(2). وهو من الرابعة، وعليه تكون الرواية صحيحة السند لوثاقة جميع رواتها.
وأمّا الكلام في الدلالة فقد ذكر السيد الأستاذ (دامت افاداته): (السّحر هو: الثلث الأخير من اللّيل فإنْ كانت الغاية داخلة في المغيّى دلّت الصحيحة على جواز الإتيان بعمرة التمتع إلى طلوع الفجر من ليلة عرفة، وإنْ كانت خارجة عنه دلّت على جواز الإتيان بها في الثلثين الأولين من اللّيل فقط)(3).
وهذه الصحيحة تصلح شاهداً لكون حدّ إدراك المتعة هو السّحر فيما لو كان المراد من (العمرة) في سؤال الراوي هو عمرة التمتع, وهذا هو الذي فهمه الشيخ في الاستبصار(4) فإنّه جعل الصحيحة في عداد الروايات الواردة في حدّ إدراك المتعة.
وهذه الصحيحة تدل على أنّ وقت إدراك المتعة متسع, ولا ينحصر في وقت معين كالفجر من يوم التروية أو الزوال من يوم التروية. وإلّا لكانت تلك الروايات صادرة لبيان الحكم الواقعي بحدِّه, وهذا يستلزم منافاته للروايات السابقة ممّا لا يمكن دفعه إلّا
ص: 313
بالحمل على كون إدراك المتعة من الأحكام الموسّعة التي يكون فيها التشريع موسّعاً, فلا يُلزَم المكلّف ببعضها دون بعض.
ومن المعروف أنّ إدراك الحجاج في منى إنّما يتحقّق من طلوع الفجر ليوم عرفة إلى طلوع الشمس وبعده من يوم عرفة؛ لأنّ الناس يبيتون ليلة عرفة بمنى, ويتوجّهون إلى عرفات من بعد طلوع الفجر ليوم عرفة, أو من بعد طلوع الشمس ليوم عرفة, ويستمر نزوحهم إلى عرفات إلى قبيل الزوال, فيكون إدراك الناس بمنى من طلوع الفجر ليوم عرفة وما بعده.
صحيحة الحلبي وهي ما رواه الشيخ بقوله: موسى بن القاسم عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (المتمتع يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ما أدرك الناس بمنى)(1).
تقدم الكلام في بعض رجال سند هذه الرواية وبقي: حمّاد فهو حمّاد بن عثمان الغاب؛ فإنّ ابن أبي عمير وإنْ روى عن حمّاد بن عيسى إلّا أنّ رواياته عن حمّاد بن عثمان بلغت ثمانية وستين مورداً كما ذكر السيد الخوئي (قدس سره) في المعجم (2) .
وكيف كان, فإنّ الرجلين ممّن وُثّقا من قِبل العلمين, فلا إشكال من هذه الجهة.
ص: 314
وأمّا الحلبي فهو عبيد الله بن علي الحلبي, قال النجاشي (قدس سره): (عبيد الله بن علي بن أبي شعبة الحلبي مولى بني تميم - إلى أن قال - وآل أبي شعبة بالكوفة بيت مذكور من أصحابنا - إلى أن قال - وكان جميعهم ثقات مرجوعاً إلى ما يقولون وكان عبيد الله كبيرهم ووجههم)(1).
والحاصل: إنّ الرواية صحيحة لوثاقة جميع رواة السند.
وأمّا الكلام في الدلالة، فمن الواضح أنّ الرواية تدلّ على أنّ حدّ إدراك المتعة هو إدراك الناس بمنى, وهذا يعني أنّه يستمر وقت إدراك المتعة إلى ما قبل الزوال من يوم عرفة، أو قبل ذلك بقليل؛ لأنّ الناس يبدأون بالإفاضة من بعد طلوع الفجر, وتستمر إفاضتهم: فبعضهم قد يفيض بعد طلوع الشمس بوقت - كأن يكون ساعة أو أكثر - .
وكيف كان: فالرواية دالّة على أنّ وقت المتعة يستمر إلى نهار يوم عرفة قبل الزوال، وهذا الوقت إذا التزمنا به على أنّه لا تجوز مخالفته بحيث يكون من باب الإلزام لاستلزم ذلك أنْ يكون منافياً لما ورد من الروايات السابقة من كون حدّ إدراك المتعة فجر يوم التروية، أو زوال يوم التروية، أو سحر ليلة عرفة, مع أنّها صحيحة السند وكذلك واضحة الدلالة على كون إدراك المتعة يكون في هذا الوقت المحدّد, يكشف عن أنّ وقت إدراك المتعة من الأحكام الموسّعة التي يكون فيها الوقت ممتدّاً وغير محدّد بوقت خاصّ, فإذا ورد في بعض الروايات التحديد بوقت خاصّ كالصحيحة هذه - وكذلك الروايات الآتية التي سوف نذكرها في هذه الطائفة - فإنّما يكون لرعاية بعض المصالح كالتخفيف على المكلّف وعدم التضييق عليه - مثلاً -, أو لأجل بعض المصالح الأخرى
ص: 315
التي يراها الإمام (علیه السلام) .
والكلام نفسه يأتي في الروايتين الآتيتين الّتين تحدّدان الوقت لإدراك المتعة بإدراك الناس بمنى.
صحيحة مرازم بن حكيم وهي ما رواه الشيخ بقوله: سعد بن عبد الله، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن مرازم بن حكيم، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) المتمتع يدخل ليلة عرفة مكة والمرأة حائض، حتى متى يكون لهما المتعة؟ فقال: (ما أدركوا الناس بمنى)(1).
وتقدم الكلام في بعض رجال السند وبقي:
1. أحمد بن محمّد بن أبي نصر فهو كوفي ثقة بلا خلاف، وهو أحد الثلاثة - ابن أبي عمير وصفوان - الذين لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة, وأحد أصحاب الإجماع الستة في الطبقة السادسة.
2. ومرازم بن حكيم قال النجاشي (قدس سره) مُرازم بن حكيم الأزدي المدائني مولى ثقة(2). وهو من الخامسة.
وأمّا الكلام في الدلالة فهو نفس ما مرّ في الرواية السابقة.
صحيحة هشام بن سالم ومرازم وشعيب وهي ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم ومرازم وشعيب عن أبي عبد الله (علیه السلام) عن الرجل المتمتع يدخل ليلة عرفة فيطوف ويسعى ثم يحلّ ثم يحرم ويأتي منى؟ قال:
ص: 316
(لا بأس)(1).
وتقدم الكلام في بعض رجال السند وبقي:
1. هشام بن سالم وقد قال النجاشي (قدس سره): (هشام بن سالم الجواليقي - إلى أنْ قال - روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (علیهما السلام) ثقة ثقة)(2). وهو من الخامسة.
2. وشعيب وهو ابن يعقوب العقرقوفي، قال النجاشي: (قدس سره) (أبو يعقوب ابن أخت أبي بصير يحيى بن القاسم روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (علیهما السلام) ثقة, عين)(3). وهو من الخامسة.
وعليه تكون الرواية صحيحة لوثاقة جميع رواتها.
والصحيحة ذكرت أنّ الرجل المتمتع بعد أنْ يكمل الأعمال لعمرة التمتع يذهب إلى منى, ولم تحدّد الوقت وإنْ كان بحسب الغالب يكون ذهاب المتمتع إلى منى ليلة عرفة, إلّا أنّ الصحيحة مطلقة وهي تشمل ما لو كان وصوله إلى منى بعد طلوع الشمس. وعليه تكون هذه الرواية من الروايات الدالّة على أنّ حدّ إدراك المتعة هو إدراك الناس بمنى, فهي تدل أيضاً - كما ذكرنا في الرواية الأولى - على أنّ التحديد بإدراك الناس بمنى ليس من باب الإلزام, وإلّا لكان منافياً مع ما مرّ من الروايات السابقة, وإنّما يكون التحديد من باب الموسّعات التي يكون التشريع فيها ذا سعة بحيث يمكن للمكلّف فيها أنْ لا يتحدّد بوقت محدّد, بل يجوز له التأخير, إلّا أنْ يستلزم فوات الوقت لعمرة التمتع كما سنذكره في الروايات الآتية.
ص: 317
والحاصل: إنّ هذه الطائفة لا تنافي ما ذُكر في الطوائف السابقة فيكون التحديد بإدراك الناس بمنى لأجل بعض المصالح التي لاحظها الإمام (علیه السلام) كأنْ يكون من قبيل التخفيف وعدم التضييق على المكلّف ما دام الوقت متسّعاً, ويمكن للمكلّف أنْ يكمل عمرة التمتع اذا لم يفت وقتها المحدد في الروايات الآتية.
وفي ختام هذه الطائفة نذكر كلاماً للسيد الأستاذ (دامت افاداته) حول هذه الطائفة, حيث قال: (وهنا سؤال وهو: هل أنّ إدراك الناس بمنى لوحظ في هذه الروايات على نحو الموضوعية, أو على نحو الطريقية إلى إدراك الوقوف الاختياري في عرفات في تمام الوقت الواجب، لوضوح أنّ من يدرك النّاس في منى يدرك الوقوف الاختياري في عرفات في تمام الوقت اللازم؟ فيه وجهان:
وقد يُرجّح الثاني بقرينة أنّ الكون في منى قبل الوقوف في عرفات ليس واجباً, فمقتضى مناسبات الحكم الموضوع أنْ يكون إدراك الناس بمنى ملحوظاً على نحو الطريقية إلى إدراك الوقوف الاختياري بعرفات في تمام الواجب.
ولكن هذا ليس بواضح، فإنّه كما أنّ التحديد بطلوع الفجر، أو زوال الشمس، أو غروبها من يوم التروية، أو بالسّحر من ليلة عرفة مبني على الموضوعية؛ لوضوح أنّ إدراك الوقوف الاختياري في عرفة لا يتوقف على الانتهاء من أعمال عمرة التمتع إلى هذه الأوقات, كذلك يحتمل أنْ يكون إدراك الناس بمنى قبل توجّههم إلى عرفات مبنيّاً على الموضوعية, وهو مقتضى الجمود على ظاهر اللفظ في النصوص المذكورة فلا معدل عنه إلّا بقرينة)(1).
ص: 318
فالسيد الأستاذ (دامت افاداته) يشير إلى أنّ عنوان (إدراك النّاس بمنى) ملحوظ بنفس لحاظ باقي العناوين الأُخرى.
وهي ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد بن عبد الله, عن محمّد بن عيسى, عن ابن أبي عمير, عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (والمتمتع له المتعة إلى زوال الشمس من يوم عرفة، وله الحجّ إلى زوال الشمس من يوم النحر)(1).
والرواية صحيحة وقد تقدم الكلام في ترجمة جميع رجال السند.
وأمّا الكلام في الدلالة فمحل الشاهد هو المقطع الأوَّل وهو ظاهر في أنّ من انتهى من أعمال عمرة التمتع في مكة قبل زوال الشمس من يوم عرفة يكون قد أدرك المتعة, بخلاف من لم ينتهِ منها حتّى الزوال.
وعليه فالصحيحة تدلّ على أنّ حدّ إدراك المتعة هو زوال الشمس من يوم عرفة, ولكن هذا لا ينافي ما ورد في الطوائف الأخرى من كون حدّ إدراك المتعة هو فجر يوم التروية، أو زوال يوم التروية، أو السحر من يوم التروية؛ لأنّ هذه الصحيحة إنّما تنافي ما سبق من الروايات لو كانت تلك الروايات بصدد بيان الحكم الواقعي بحدِّه وأنّها تُلزم الرجل المتمتع بأنْ يدرك المتعة قبل فجر يوم التروية - مثلاً - .
ولكن ذكرنا غير مرَّة أنّ هذا ليس بتام؛ فإنّ هذه الروايات لم تكن بياناً للحكم الواقعي بحدِّه, وإنّما ذُكرت لأجل بعض المصالح, وأنّ حدّ إدراك المتعة من الأحكام الموسّعة التي يكون التشريع فيها موسّعاً, بحيث لا تُلزم المكلّف بخصوص أيّ واحدة من تلك التحديدات، وعليه يكون اقتصار الإمام (علیه السلام) على كون حدّ إدراك المتعة هو
ص: 319
الزوال من يوم عرفة لأجل بعض المصالح التي لاحظها (علیه السلام) كالتخفيف وعدم التضييق على المكلّف, وإلّا فإنّه سوف يأتي في الطائفة الأخيرة أنّ الوقت يمتدّ إلى زمانٍ يمكنه إدراك مسمّى الوقوف.
إمّا بتمامه أو الوقوف الركني - أي مسمّى الوقوف -.
وهذه الطائفة هي مجموعة من الروايات تصل إلى خمس روايات, وجميع هذه الروايات قد نوقش في دلالتها على هذا المعنى(1).
ولنأخذ رواية واحدة لنرى مدى عدم دلالتها, وهي صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام): عن رجل أهلّ بالحجّ والعمرة جميعاً, ثمّ قَدِم مكة والناس بعرفات, فخشي إنْ هو طاف وسعى بين الصفا والمروة أنْ يفوته الموقف. فقال: (يدع العمرة فإذا أتمّ حجّه صنع كما صنعت عائشة ولا هدي عليه)(2).
والسند هو ما رواه الشيخ بإسناده عن (ابن أبي عمير, عن حمّاد, عن الحلبي). والرواية صحيحة لصحّة طريق الشيخ إلى ابن أبي عمير, وباقي رجال السند من ثقات الإمامية.
وأمّا الكلام في دلالة الصحيحة فقد ذكر السيد الأستاذ (دامت افاداته) أنّ من المحتمل أن يكون مراد السائل بقوله: (والناس بعرفات) هو كون الحجاج بعرفات في صباح يوم عرفة بعد خروجهم إليها من منى - كما هو السائد المتعارف من أنّهم يبيتون ليلة عرفة في منى, ويتوجّهون إلى عرفات بعد صلاة الصبح أو بعد طلوع الشمس - وعلى ذلك فما
ص: 320
يستفاد من قوله: (فخشي إنْ هو طاف وسعى بين الصفا والمروة أنْ يفوته الموقف) هو أنّه كان يبني على إدراك المتعة مع الإتيان بأعمال العمرة قبل ظهر يوم عرفة مع عدم خوف فوت الموقف في عرفات, وأمّا مع خوف فوت الموقف فكان جاهلاً بحكمه فسأل الإمام (علیه السلام) عنه(1).
وعليه لا تدل هذه الصحيحة على كون حدّ إدراك المتعة هو إدراك المسمّى من الوقوف بعرفات، وكذلك باقي الروايات أيضاً فيها مناقشة, فيكون الحدّ لإدراك المتعة الذي لا يجوز تجاوزه هو الزوال من يوم عرفة, فإذا أنهى أعمال عمرة تمتعه قبل الزوال من يوم عرفة فقد أدرك المتعة, وإلّا - أيْ إنْ لم يمكنه إنهاء أعمال عرفة قبل الزوال من يوم عرفة - لا يمكن له أنْ يدرك المتعة, ويعدل إلى حجّ الإفراد.
إنّك ترى أنّ هذا المورد الذي نحن بصدده قد وردت فيه طوائف كثيرة من الروايات، فقد ورد إدراك المتعة عند فجر يوم التروية، وزوال يوم التروية، والسّحر من ليلة عرفة، وإدراك الناس بمنى, وكذلك الزوال من يوم عرفة، وعليه فيمكن عدّ حدّ إدراك المتعة من الموسّعات، فإنّ الحكم الواقعي في المسألة هو جواز العدول إلى حجّ الإفراد فيما إذا لم يتمكن من إكمال عمرة التمتع من فجر يوم التروية إلى الزوال من يوم عرفة، وأمّا إذا تمكن من إكمال عمرته في هذا الوقت - أي قبل الزوال من يوم عرفة - فيمكنه أنْ يتمّ عمرته, ولا إشكال في ذلك هذا هو الحكم الواقعي، ولكن لفرض أنّ حدّ إدراك المتعة كان من الموسّعات التي يكون التشريع فيها ذا سعةٍ, فإنّ الأئمة (علیهم السلام)
ص: 321
يأمرون أصحابهم بوجوه مختلفة، مثل: أنْ يأمر الإمام (علیه السلام) بأنّ حدّ إدراك المتعة هو الفجر من يوم التروية فلا يمكن إدراكها بعد ذلك، أو أنْ يأمر الإمام (علیه السلام) بأنّ حدّ إدراك المتعة هو السّحر من ليلة عرفة ولا يمكن إدراك المتعة بعد ذلك وغيرها ممّا مرّ في الروايات السابقة، وكان أمر الأئمة (علیهم السلام) بهذه الوجوه لبعض المصالح التي كان يلحظها الأئمة (علیهم السلام) كأنْ يكون من قبيل إيقاع الخلاف بين الشيعة؛ ليعطي انطباعاً لدى السلطة الظالمة بأنّهم ليسوا بجماعة منظّمة وموحّدة من قبل قيادة واحدة, أو من قبيل التشديد على المكلفين من أجل أنْ لا يجعل لديهم تهاوناً ممّا يؤدّي إلى فوت الحج، إلى غير ذلك من المصالح. ولا يلزم أنّ أمر الأئمة (علیهم السلام) بهذه الوجوه لاختلاف درجات الفضل؛ فإنّه قد يكون الجميع على درجة واحدة, ولكن المصلحة التي كان يلحظها الإمام (علیه السلام) هي التي دفعته إلى الأمر بذلك الوجه.
والحاصل: إنّ تحديد إدراك المتعة من الأحكام الموسّعة التي يكون التشريع فيها موسّعاً بحيث لا يتقيّد المكلّف بوقت واحد.
نعم, لا يجوز أنْ يؤخّر أعمال عمرته إلى وقت زوال الشمس من يوم عرفة؛ فإنّه تفوت المتعة عند زوال الشّمس من يوم عرفة.
هذا ما أردنا بيانه في موارد الأحكام الموسعة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على خير خلقه محمّداً وآله الطيبين الطاهرين.
ص: 322
1. القرآن الكريم.
2. اختيار معرفة الرجال للشيخ أبي جعفر الطوسي (قدس سره), مؤسسة النشر الإسلامي، تحقيق جواد القيومي.
3. الاستبصار فيما اختلف من الأخبار للشيخ محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره), مطبعة النجف.
4. بحار الأنوار، العلامة المجلسي (رحمة الله)، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان, الطبعة الثالثة 1403ﻫ - 1983م.
5. بحوث في شرح مناسك الحج, تقريرٌ لأبحاث السيد محمّد رضا السيستاني (دامت افاداته), بقلم: الشيخ أمجد رياض والشيخ نزار يوسف, نسخة أوَّليَّة محدودة التداول.
6. تعارض الأدلة واختلاف الحديث, تقريرات بحث سماحة السيد السيستاني (مدظله العالی), بقلم: السيد هاشم الهاشمي (دامت افاداته) .
7. تهذيب الأحكام في شرح المقنعة لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره), دار الكتب الإسلامية.
8. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة للشيخ يوسف البحراني, دار الكتب الإسلامية النجف الأشرف.
9. خاتمة المستدرك للمحدث النوري, تحقيق مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.
10. خلاصة الأقوال للعلامة الحلي (رحمة الله), الناشر: مؤسسة نشر الفقاهة, طبعة مؤسسة
ص: 323
النشر الإسلامي, الطبعة الأولى, سنة 1417 ﻫ.
11. رجال النجاشي للشيخ أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد النجاشي (رحمة الله), مؤسسة النشر الإسلامي.
12. عدّة الأُصول للشيخ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (رحمة الله)، تحقيق الشيخ محمّد مهدي نجف, مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.
13. الفهرست للشيخ محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره), تحقيق جواد القيّومي.
14. قبسات من علم الرجال, أبحاث السيد محمّد رضا السيستاني (دامت افاداته), جمعها ونظّمها السيد محمّد البكاء, نسخة أوّليّة محدودة التداول, 1436 ﻫ.
15. قوانين الأصول للميرزا القمي (رحمة الله)، القرص الليزري.
16. الكافي: لثقة الإسلام أبي جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني (قدس سره), دار الكتب الإسلاميّة.
17. كامل الزيارات لأبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمي (قدس سره), تحقيق جواد القيّومي.
18. المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (رحمة الله), القرص الليزري للمكتبة الشاملة.
19. معجم رجال الحديث للسيد أبو القاسم الخوئي (قدس سره), الطبعة الأولى مطبعة الآداب - النجف.
20. وسائل الشيعة للحر العاملي (رحمة الله), تحقيق مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.
ص: 324
من جملة ما وقع البحث فيه بين الأعلام هو دعوى الشيخ الطوسي (قدس سره): أنّ ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي لا يرسلون إلّا عن ثقة، ما يستلزم معاملة مراسيلهم معاملة الصحاح، ما يعني سلامتها من الإرسال، وهذا ما يتكفّل بحثنا بدراسته.
ص: 325
ص: 326
بسم الله الرحمن الرحیم
إنَّ إثبات معظم الأحكام الشرعيَّة، وكذلك أغلب أجزاء الضّروريات وشرائطها، إنَّما يتم بخبر الآحاد؛ لأنَّ ما ثبت منها بالعلم الضروري، كوجوب الصّلاة، ونحوها من الضّروريات، أو العلم الحاصل من الخبر المتواتر، أو المحفوف بالقرينة القطعيّة، قليل بالقياس إليه، كما لا يخفى على المتتبّع.
ومن المعلوم أنّ إثبات الحكم الشرعي بخبر الآحاد يتوقف - بعد إثبات حجّيّة خبر الواحد - على مجموعة أمور، هي ثبوت أصل صدوره عن المعصوم (علیه السلام)، وثبوت جهة الصدور، بأن يثبت صدوره بداعي الجد دون التقيّة ونحوها، وثبوت ظهوره في المعنى بحسب العرف، وثبوت حجيّة ذلك الظهور، بعد تأمين سلامته ممّا يسبب اتّصافه بالضعف السندي .
ومن جملة ما وقع البحث فيه هو دعوى الشيخ الطوسي (قدس سره) أنّ ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي لا يرسلون إلّا عن ثقة، ما يستلزم معاملة مراسيلهم معاملة الصحاح، ما يعني سلامتها من الإرسال، وهو ما يتكفّل بحثنا هذا بدراسته، ويقع البحث عن ذلك في فصول:
ص: 327
وما يراد به في المقام: -
المُرسَل: - بصيغة المفعول - في اللغة، مأخوذ من إرسال الدابة، أي رفع القيد والربط عنها(1).
وفي الاصطلاح: ما سقط رواته أجمع، أو من آخرهم واحد أو أكثر، بل حتى وإن ذُكر الساقط بلفظ مبهم، كبعضٍ، وبعض أصحابنا(2)، فإنّه يدخل في المرسَل اصطلاحاً.
وقد يتوسّع فيه - بحسب اختلاف المبحوث عنه - ليشمل ما حذف من سنده راوٍ أو أكثر، من أوّله أو وسطه أو آخره ليدخل فيه المعلّق(3)، والمنقطع(4)، والمعضل(5)، بل أُدخل فيه(6) حتى المتّصل السند المشتمل على مجهول الحال أو المهمل، بل يطلق على
ص: 328
وما يخص محل كلامنا هو ما سقط فيه الواسطة بين المذكورين وبين المعصوم (علیه السلام) بإرسالٍ بالمعنى الأخصّ، أو بتعليق أو انقطاع أو إعضال أو عنعنة أو إضمار أو رفعٍ، أو ذُكرت بلفظ مبهم.
ص: 330
وهي أربعة:
سواء كان المرسِل الثقة صحابياً أو لا، وسواء كان جليلاً أو لا، وسواء أسقط راوياً واحداً من السند أم أكثر.
ونسبه الشهيد الثّاني (قدس سره) لجماعة من الجمهور، وأضاف أنّ الرازي نقله في المحصول عن الأكثرين(1)، إذ قال الرازي: (وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور المعتزلة: إنّه مقبول)(2) وأطال في إقامة الأدلة على بطلانه، حيث إنّه يختار قبول المراسيل بتفصيل خاص.
وقبله - مطلقاً - من أصحابنا، مَن كانوا يسمون بأهل الحديث أو الأخبار(3)، ونسب هذا القول إلى محمد بن خالد البرقي، والد أحمد مؤلف كتاب المحاسن، وربما ينسب إلى الأخير، إذ قيل فيه: (إنّه كان ثقة في نفسه، غير أنّه أكثر الرواية عن الضعفاء، واعتمد المراسيل، وكان لا يبالي عمّن أخذ، على طريقة أهل الأخبار)(4).
وقد استدل لهذا القول بأدلة كثيرة لا يهمنا التعرّض لها في المقام.
وذهب إليه جماعة، منهم الشيخ (قدس سره) في التهذيب والاستبصار(5)، بخلاف ما صرح
ص: 331
به في العدة (1) من استثناء أصحاب الإجماع، ووصفهم بأنّهم لا يرسلون إلّا عن ثقة.
وقد تأمّل سيد أساتذتنا (مدظله العالی) في الاستشهاد بكلام الشيخ (قدس سره) في التهذيبين. وبيَّنَ مقرّر محاضراته (حفظه الله) وجه هذا التأمّل بما حاصله: أنّه مدفوع نقضاً وحلّا ً، فذكر في معرض بيان الحلّ (... أنّ الشيخ قد تكفّل في التهذيبين بحلّ ظاهرة التعارض بين الأخبار، وذلك ممّا ألجأه أحياناً إلى اتباع الأسلوب الإقناعي في البحث المتمثّل في حمل جملةٍ من الروايات على بعض المحامل البعيدة، أو المناقشة في حجّيتها ببعض الوجوه التي لا تنسجم مع مبانيه الرجالية والأصولية المذكورة في سائر كتبه، وهذا ظاهر لمن تتبع طريقته (قدس سره) في الكتابين، ولتوضيحه وذكر الشواهد عليه مجال آخر، وعلى هذا فلا يمكن الاستناد إلى ما ذكر في التهذيبين، خلافاً لما صرّح به هو في كتاب العدة، أو ذكره غيره من أعلام الرجاليين)(2).
ص: 332
واختار القول بعدم الحجّية العلّامة (قدس سره) في تهذيب الأصول(1)، والشهيد الثاني (قدس سره) في درايته، قائلاً: (والمرسل ليس بحجّةٍ مطلقاً، سواء أرسله الصحابي أم غيره، وسواء سقط منه واحدٌ أم أكثر، وسواء كان المرسِل جليلاً أم لا)(2)، بل تنظّر فيه حتى في حالة تحقّق العلم بكون المرسل لا يروي إلّا عن الثقة، كابن أبي عمير.
واختاره أيضاً السيد الخوئي (قدس سره)، وبذل قصارى جهده في إقامة الأدلة على مختاره، واعتبر دعوى الشيخ (قدس سره) في العدة - بأنّ أصحاب الإجماع لا يرسلون إلّا عن ثقةٍ - باطلةً، واجتهاداً من الشيخ (قدس سره) استنبطه من اعتقاده التسوية بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم, ونقل عن المحقّق (قدس سره) الالتزام بذلك في المعتبر(3).
وهو مذهب جماعة من العامّة كالحاجبي والعضدي والرازي، ونسبه الأخير للشافعي، إلّا أنّه غير صحيح، لأنّ الشافعي لا يرفض المرسل مطلقاً، بل يقبله بشروطٍ. فيكون رأيه التفصيل وليس المنع من الحجّية مطلقاً، والذي دعا الرازي لنسبة هذا القول للشافعي هو أنّه ذكر قولين فقط، وهما القبول وعدمه فلا بُدَّ من أن يدخل القول بالتفصيل تحت واحد منهما(4).
وهو ما نسبه صاحب المعالم (قدس سره) للمحقّق (قدس سره) في المعارج اعتماداً على اقتصاره على نقله عن الشيخ القول بأنّ الراوي إذا كان ممّن عرف أنّه لا يروي إلّا عن ثقة، من غير
ص: 333
إشعار بالقبول والردّ، فبعد أن نقل عبارة المحقّق (قدس سره) في المعارج, وهي: (قال الشيخ (رحمة الله): إن كان ممّن عرف أنّه لا يروي إلّا عن ثقة، قبلت مطلقاً، وإن لم يكن كذلك قبلت بشرط أن لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة.
واحتج لذلك: بأنّ الطائفة عملت بالمراسيل عند سلامتها عن المعارض كما عملت بالمسانيد، فمن أجاز أحدهما أجاز الآخر)(1).
قال صاحب المعالم: (هذه عبارة المحقّق بلفظها، وهي تدلّ على توقفه في الحكم حيث اقتصر على نقله عن الشيخ بحجّته من غير إشعار بالقبول والردّ)(2).
وله صور متعدّدة أوصلها البعض إلى أكثر من عشر صور(3)، إحداها الصورة التي هي محل البحث، وهي التفصيل بين مراسيل مَن حكي الإجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم والمعبّر عنهم بأصحاب الإجماع، وبين مراسيل غيرهم.
ص: 334
وهي على قسمين:
وهي أربعة، نذكرها إجمالاً:
مثل: ما ورد بسند صحيح مِنْ تَرحُّم الإمام الجواد (علیه السلام) على صفوان بن يحيى(1).
أو الكشّي، أو الصدوق، أو المفيد، أو النجاشي، أو الشيخ، أو ابن عقدة، أو ابن فضّال، أو ابن الغضائري، وأضرابهم(2).
وهو ما لم يعتمد عليه البعض لوجود شواهد على انقطاع طرق المتأخّرين، فضلاً عن متأخّري المتأخّرين في التوثيق، لضياع كتب الرجال، وحصر طرقهم في الإجازات الصادرة عنهم كلّها إلى الشيخ، وانقطاع السلسلة بعد الشيخ، وبناء بعض المتأخّرين - كالعلّامة - على أصالة العدالة في المسلم(3).
ص: 335
وذلك لتنزيله منزلة الإخبار عن استفاضة التوثيق واشتهاره، وهو كافٍ لحصول العلم العادي به.
وهي كثيرة، نذكرها إجمالاً، مع التنبيه على وقوع الخلاف في بعضها.
وقد اختلف في نسبة هذا النوع من التوثيق، وأنّه لابن عقدة أم للشيخ المفيد؟ والمراد من هذا الطريق هو بيان أنّ هناك عدةً ممّن رووا عن الإمام الصادق (علیه السلام) هم من العيون والثقات، وهم عمدة النقلة عنه، وإنّ مستند هذه المقولة هو استقراء القائل بها لكل مفردة رجالية ممّن روى عنه، وليس المراد منها - وإن صدرت من ابن عقدة - شهادة حسية عامّة استقرائية، عبر وسائط معاصرة لتلك الطبقات. كيف وأنّ هناك عدّة ممّن روى عنه (علیه السلام) هو ممّن عرف بالضعف، كوهب بن وهب البختري - مثلاً - لذلك عدّوها قرينة ظنية حدسية تحتاج إلى أن تنضم إليها قرائن أخرى.
وقد عدّها البعض من أقوى أمارات المدح، بل العدالة والوثاقة، واستشكل آخرون في دلالتها على الوثاقة، لعدم اشتراطها شرعاً بالعدالة، بل غايتها أنّ العادة جارية على عدم توكيل من لا يوثق بأمانته في الأمور المالية، وقد عدّ الشيخ في الغيبة جملة من الوكلاء المذمومين، ممّا يدل على إمكان الانفكاك بينهما, وفيها قول بالتفصيل.
والأقوال فيه كسابقه.
ص: 336
وقد استدل على أماريَّته على الوثاقة بمجموعة من الروايات، منها ما رواه الكشي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر روايتهم عنّا)(1) وغيرها.
وأشكل عليه: بأنّ هذه الروايات ضعيفة سنداً، بل ودلالةً، إذ إنّ المراد من كثرة الرواية كثرتها بعد ثبوت حجية قول الراوي.
وقد اعترض عليه بأنّه ربّ مؤلف كذاب وضّاع، وبأنّ الحسن بن صالح بن حي الثوري البتري صاحب أصل إلّا أنّه متروك العمل بما يختصّ بروايته، وكذلك علي بن أبي حمزة البطائني وأبو الجارود وأضرابهم.
لذلك اشترط البعض في الاعتماد عليه، انضمام تلقي الطائفة للأصل، أو الكتاب، أو كون رواياته مبثوثةً في الأبواب، ووجود الطرق إليه في كتب الفهارس والمشيخة، كما يلاحظ ذلك من الشيخ في العدّة.
ولبعضهم تفاصيل أخرى في الاعتماد على هذا الطريق من طرق التوثيق.
كما في تنصيص الصدوق على تصحيح بعض الأسانيد.
واعترض عليه، باحتمال كون الحاكم بالصحة قد اعتمد على أصالة العدالة، أو القرائن الموجبة للوثوق بالصدور، لا إلى تصحيح الطريق.
ص: 337
وأشكل عليه بتضعيف النجاشي لجملة من مشايخ الإجازة كالحسن بن محمّد بن يحيى، وبعدم استغناء أصحاب الإجماع عن التوثيق(1)، فما بالك في مشايخ الإجازة؟ وأجيب عن الثاني: بأنّ تعرض كتب الرجال وعدم تعرضهم قد لا يندرج تحت ضابطة، فقد تراهم يتعرضون لذكر بعض أصحاب الإجماع دون بعض مع تقارب وثاقتهم في الدرجة.
وعن الأوّل: بأنّ قرائن التوثيق ليست من قبيل اللوازم التكوينية غير المنفكة عن العدالة والوثاقة.
باعتبار ما ذكره المشايخ الثلاثة في أوائل هذه الكتب من أنّهم استخرجوا أحاديثها من الكتب المشهورة المعوّل عليها والآثار الصحيحة أو المقترنة بقرائن تدلّ على صحتها.
كحفص بن غياث، وغياث بن كلوب، ونوح بن دراج، والسكوني من العامّة، وعبد الله بن بكير وغيره من الفطحية، وسماعة بن مهران، وعلي بن أبي حمزة، وعثمان بن عيسى من الواقفة، ومن بعد هؤلاء عملت الطائفة بما رواه بنو فضّال وبنو سماعة والطاطريون وغيرهم، عن أئمتنا (علیهم السلام) فيما لم ينكروه، ولم يكن عندهم خلافه(2).
وقد اختلفوا في مفاد هذا التوثيق على غرار اختلافهم في مفاد تصحيح ما يصح عن أصحاب الإجماع.
ص: 338
وممّن قيل في حقه ذلك جعفر بن بشير، وأحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري، وعلي ابن الحسين الطاطري، وابن قولويه صاحب كامل الزيارات.
وقد أشكل عليه برواية هؤلاء عن الضعفاء، كرواية الأوّل عن صالح بن الحكم الذي ضعّفه النجاشي، ورواية الثاني عن محمد بن سنان، وهكذا.
وأجيب عنه: بأنّ هذا النوع من التوثيق يفيد أنّ مجمل من روى عنهم قد عرفوا بالوثاقة، بنحو لا يمانع روايته عن بعض الضعاف.
عدم استثناء القميين الراوي من رجال نوادر الحكمة(1):
وأشكل عليه بأنّ استثناء القميّين من الكتاب المذكور ليس توثيقاً بالمعنى المصطلح له، وإنّما أرادوا به عدم روايتهم لتلك الروايات لما لاح لهم من قرائن الوضع والتدليس، ولو بحسب المباني الخاصة بهم.
والمراد من الإجماع الكبير هو الإجماع في ثمانية عشر أو اثنين وعشرين رجلاً. بل عمّمه البعض ليشمل جميع الفقهاء الأوّلين من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (علیهما السلام)، وأنّ الستّة المصرح بأسمائهم أفقههم، واعتمد في ذلك على ظاهر المقطع الأوّل من عبارة الكشي الآتية، وإن لم تُفد توثيق أحد بعينه، لعدم ذكر اسم غير الستّة المذكورين.
ص: 339
والمراد من الإجماع الصغير، هو الإجماع في الثلاثة موضوع البحث، أعني محمّد بن أبي عمير، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر، وصفوان بن يحيى.
فقد قال الكشي تحت عنوان (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر (علیه السلام) وأبي عبد الله (علیه السلام) ): (أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر (علیه السلام) وأبي عبد الله (علیه السلام)، وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة، ومعروف بن خربوذ، وبُريد، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي.
قالوا: و أفقه الستّة زرارة، وقال بعضهم: مكان أبي بصير الأسدي، أبو بصير المرادي، وهو ليث بن البختري)(1).
وقال أيضاً: تحت عنوان تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله (علیه السلام) (أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح من هؤلاء الستة الذين عددناهم وسميناهم، ستة نفر، جميل بن دراج، وعبد الله بن مسكان، وعبد الله بن بكير، وحماد بن عيسى، وحماد بن عثمان، وأبان بن عثمان.
قالوا: وزعم أبو إسحاق الفقيه، يعني ثعلبة بن ميمون، أنّ أفقه هؤلاء جميل بن دراج)(2).
وقال أيضاً، تحت عنوان (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم (علیه السلام) وأبي الحسن الرضا (علیه السلام): (أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم، وأقروا لهم بالفقه والعلم، وهم ستة نفر أُخر، دون الستّة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد الله (علیه السلام) منهم يونس بن عبدالرحمن، وصفوان بن يحيى بياع السابري، ومحمّد بن أبي
ص: 340
عمير، وعبد الله بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمد بن أبي نصر، وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب، الحسن بن علي بن فضّال، وفضالة بن أيوب.
وقال بعضهم مكان ابن فضّال، عثمان بن عيسى، وأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى)(1).
ونقل هذا الإجماع الشيخ (قدس سره) في العدّة(2)، وآخرون.
ص: 341
قال سيدنا الأستاذ (دامت افاداته): (إنّ الصحّة في العرف واللّغة إنّما هي بمعنى المطابقة للواقع، والظاهر أنّها تستخدم في هذا المعنى في توصيف الحديث بها في كلمات المتقدمين. ولكن قد يلاحظ في التوصيف بها أصل صدور الحديث عن الإمام (علیه السلام) ولو من جهة توفر القرائن الدالة على ذلك بغض النظر عن كون الصدور لبيان حكم الله الواقعي، أو لداعٍ آخر كالتقية ...، وقد يلاحظ في التوصيف بها مطابقة مضمون الحديث للواقع بغض النظر عن كونه صادراً عن الإمام بالسند المنقول به أولاً، ...
وبالجملة، الخبر المروي عن الإمام (علیه السلام) إذا وصف بالصحّة يراد به مطابقته للواقع بأحد اللّحاظين المتقدّمين.
وإذا وصف الراوي بأنّه صحيح الحديث ...، فالظّاهر أنّ المراد بالصحّة فيه هو المعنى اللّغوي أي مطابقة الخبر للواقع.
والظاهر أنّ الصحّة تستخدم بهذا المعنى - وهو مطابقة الواقع - في توصيف الحديث بها في كلمات المتقدّمين)(1).
أمّا الصحّة في اصطلاح المتأخّرين فهي وصف للسند المتّصل المتّسم بوثاقة جميع رواته أو عدالتهم، على اختلاف الآراء فيه.
ص: 342
وقد اختلفوا - نتيجة لاختلافهم في تفسير الموصول في قوله (تصحيح ما يصح عنهم) - على قولين رئيسين(1):
وهو قول مَن فسروا الموصول في عبارة الكشي بالمروي لا بالرواية بالمعنى المصدري، فيكون حاصل هذا القول، تصحيح الروايات المنقولة عن هؤلاء ونسبتها إلى الإمام بمجرد صحتها عنهم، حتى لو رووا عن معروف بالفسق أو الوضع، أو كان مجهول الحال أو مهملاً، والحكم بصدوره منه (علیه السلام)، وكون مضمونه مطابقاً لحكم الله الواقعي.
وعلّلوا ذلك بأنّ الصحة وصف للمتن دون السند.
ص: 343
وعلى هذا القول فإنّه لا دلالة لكلام الكشي والشيخ (قدس سره) على توثيق المروي عنهم لهؤلاء الثقات، إذ الفرض صحة الروايات حتى مع كذب المروي عنه.
وبعبارة أخرى: إنَّ معنى الصحة - على هذا القول - هو الوثوق بالصدور، والاطمئنان به، وهو أجنبي عن إفادة التوثيق لمن رووا عنه.
وقد نسب المحقّق الكاشاني هذا القول إلى فهم جماعة من المتأخرين(1)، ونسبه الوحيد البهبهاني إلى المشهور، قائلاً: (فالمشهور أنّ المراد صحة كل ما رواه حيث تصح الرواية إليه، فلا يلاحظ ما بعده إلى المعصوم (علیه السلام) وإن كان فيه ضعف. وهذا هو الظاهر)(2) بل عبّر عنه المحقّق الداماد بقوله: (إنّ عليه الأصحاب)(3).
وقد نوقش هذا الرأي بنقاشات عديدة، منها:
إنّ جرح الشيخ (قدس سره) أو قدح النجاشي برجل روى عنه أحد هؤلاء المذكورين في كلام الكشي يعارض تفسير عبارة الكشي بهذا التفسير، أي أنّه لو كان تفسير الموصول في عبارة الكشي بالمروي صحيحاً لما كان لجرح الشيخ أو قدح النجاشي وجه.
إنّ الشيخ (قدس سره) لو كان يرى صحّة الروايات الواردة عن المذكورين في عبارة الكشي، كما يقتضيه تفسير الموصول في عبارة الكشي بالمروي، لما ترك العمل ببعض أخبار أصحاب الإجماع.
وسيأتي زيادة توضيح لهذه المناقشات والجواب عنها عند الحديث عن تفسير عبارة الكشي بكون المذكورين لا يرسلون إلّا عن ثقة؛ إذ إنّ هذه الإيرادات وغيرها أوردت
ص: 344
بعينها على هذا التفسير، فانتظر.
وهو قول مَنْ فسروا الموصول في تعبير الكشي (تصحيح ما يصح عنهم) بالرواية - بالمعنى المصدري - لا المروي، قال المحقّق الكاشاني في أوائل كتاب الوافي: (وأنت خبير بأنّ هذه العبارة ليست صريحة في ذلك - يعني القول الأوّل المتقدم - ولا ظاهرةً فيه فإنّ ما يصح عنهم إنّما هو الرواية لا المروي)(1).
وقد اختلف أصحاب هذا التفسير فيما بينهم - بعد تفسيرهم للموصول بسند الرواية لا متنها - في المقصود بالتحديد من تصحيح السند على أقوال:
توثيق هؤلاء المذكورين في عبارة الكشي فقط(2). فقد نقل الاتفاق على وثاقة المذكورين من غير منازع، أي لم يختلف الرجاليون أو الرواة أو الفقهاء في وثاقتهم، بخلاف غيرهم من الرواة، كونه يمثل القدر المتيقّن. إذ لو لم يستفد ذلك من كلام الكشي لكان وجودها كعدمه، كما لا يخفى.
وهو ما نقل عن صاحب الرياض (قدس سره)، ومال إليه الفيض في الوافي بقوله: (يحتمل كونه كنايةً عن الإجماع على عدالتهم وصدقهم، بخلاف غيرهم ممّن لم ينقل الإجماع على
عدالته)(3)، ونسبه البعض إلى الأكثر كما حكي عن الفصول(4).
ص: 345
وهو مختار السيد الخوئي (قدس سره) في المعجم حيث قال: (إنّ من الظاهر أنّ كلام الكشي إنّما ينظر إلى بيان جلالة هؤلاء، وأنّ الإجماع قد انعقد على وثاقتهم وفقههم وتصديقهم فيما يروونه)(1).
وقد نوقش هذا القول بمناقشات كثيرة منها:
إنّ في مجموع كلام الكشي عن الطوائف الثلاث تعبيرين، الأوّل: تصديقهم والإقرار لهم بالفقه، والآخر تصحيح ما يصح عنهم، فالإجماع على وثاقتهم وفقههم هو مفاد التعبير الأوّل، فيبقى التعبير الثّاني من دون مفاد، إلّا أن يدعى أنّ مفاد لفظ التصحيح هو عين مفاد لفظ التصديق، وهو بعيد جداً كما لا يخفى. فلا بُدَّ من مزية خاصة للفظ التصحيح، فيكون المعنى أنّ المذكورين في الطوائف الثلاث جميعاً وإن أجمعت العصابة على تصديقهم وثقتهم، فقد امتاز ما عدا الأوائل بتصحيح العصابة لأخبارهم أيضاً.
إنّ كون الراوي ثقةً أمر مشترك، فلا وجه لاختصاص الإجماع بالمذكورين في عبارة الكشي.
وقد أجيب عن هذه المناقشة بجوابين:
ما عن الوحيد البهبهاني (قدس سره) من أنّ (هذا الاعتراض بظاهره في غاية السخافة، إذ كون الرجل ثقةً لا يستلزم الإجماع على وثاقته، إلّا أن يكون المراد ما أورده بعض المحققين من أنّه ليس في التعبير بها لتلك الجماعة دون غيرهم ممّن لا خلاف في عدالته فائدة.
ص: 346
وفيه: أنّه إن أردت عدم خلاف من المعدّلين المعروفين في الرجال، ففيه: إنّا لم نجد مَنْ وثقه جميعهم. وإن أردت عدم وجدان خلاف منهم، ففيه: أنّ هذا غير ظهور الوفاق...)(1).
إنّ مراد الكشي ليس هو مجرد نقل الإجماع على وثاقتهم، بل مراده نقل الإجماع المذكور عليها. مع بيان انقياد العصابة لهم بالفقه والعلم، بل الأفقهية في الجملة، والمجموع مزية جليلة، وفضيلة عظيمة غير مشتركة بينهم وبين غيرهم (2).
ولكن كلا المجيبين - في آخر المطاف - رفضا هذا القول، حيث استقر الأوّل على (أنّ رواية هؤلاء إذا صحت إليهم لا تقصر عن أكثر الصحاح)(3)
واستعان الثّاني بعبارة المحدّث النوري (قدس سره) إذ قال: (بل التعبير بها - أي بعبارة تصحيح ما يصح عنهم - أشبه شيء بالأكل من القفا, ولفظ ثقة من الألفاظ الدائرة الشائعة لا داعي للتعبير عنها بما لا ينطبق عليها مدلوله إلّا بعد التكلّف)(4).
أضبطية هؤلاء المذكورين وحفظهم وتثبتهم وفقاهتهم فقط، أي أنّ هؤلاء قد وقع الاتفاق على تفوقهم على من سواهم في هذه الصفات.
والفرق بين هذا القول وسابقه يظهر بالتفريق بين مصطلحي الثقة والضابط، فالأوّل هو من يُوثَق بخبره، ويُؤمَن من الكذب عادةً، والثاني هو كونه (حافظاً لما يرويه، متيقظاً غير مغفّل إن حدَّث من حفظهِ، ضابطاً لكتابه، حافظاً له من الغلط والتصحيف
ص: 347
والتحريف إن حدّث فيه، عارفاً بما يختل به المعنى إن روى بالمعنى)(1).
إلّا أنّ المحقّق الداماد (قدس سره) جعل الضبط مضمّناً في الثقة(2)، وعليه يكون هذا القول داخلاً ضمن القول السابق فالثقة ضابط من غير عكس، لذلك جعلهما البعض قولاً واحداً. ولكنّه غير صحيح لوضوح الفرق بين المصطلحين كما تقدم، لإمكان أن يكون الثقة غير ضابط كما لا يخفى.
توثيق من يروي عنه هؤلاء مباشرةً أو مع الواسطة، أي أنّ هذا الإجماع توثيق لهؤلاء الأشخاص المذكورين ومَنْ روى عنهم إلى الإمام (علیه السلام)، فإنّ روايتهم عنهم تكون بمثابة الشهادة على تعديل المروي عنهم إذا كانوا مجهولي الحال أو مهملين، فضلاً عمّا إذا كانوا من الثقات.
وهل يعم الكلام ما إذا كان المروي عنهم من الضعفاء أو الوضاعين؟
قولان:
أوّلهما: التعميم، بناءً على أنّ رواية هؤلاء عن الضعيف بمثابة الشهادة على تعديله، ولهذا عُدّ الخبر المروي عن أحد المذكورين في كلام الكشي من جملة القرائن(3) التي يعتمد عليها المتقدمون في الحكم بصحة الخبر، حتى وإن عُد ضعيفاً باصطلاح المتأخّرين.
ص: 348
والآخر: عدم التعميم، فلا يشمل الأخبار التي روى فيها هؤلاء عن الضعفاء أو الوضاعين، وهو ما يقتضيه الجمع بين الأدلة، ويؤيده ما نقل عن صاحب الرياض (قدس سره) من دعواه (أنّه لم يعثر في الكتب الفقهية، من أوّل كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الديات، على عمل فقيه من فقهائنا بخبرٍ ضعيف محتجاً بأنّ في سنده أحد الجماعة وهو إليه
ص: 349
صحيح)(1).
وهو ما استفاد منه السيد الخوئي (قدس سره) في دعوى أنّه لم يعثر على هذا التصحيح في كلمات المتقدمين وأنّ وجوده إنّما هو في كلمات المتأخرين، ومِن ثَمّ فإنّ غاية ما يفيده هذا الإجماع بيان جلالة هؤلاء وأنّ الإجماع قد انعقد على وثاقتهم وفقههم وتصديقهم فيما يروونه، ونصّ عبارته (أقول: لا بُدَّ أنّ السيد صاحب الرياض أراد بذلك أنّه لم يعثر على ذلك في كلمات من تقدم على العلّامة (رحمة الله) وإلّا فهو موجود في كلمات جملة من المتأخرين كالشهيد الثاني، والعلّامة المجلسي، والشيخ البهائي، ويبعد أن يخفى ذلك عليه.
ثُمَّ إنّ التصحيح المنسوب إلى الأصحاب في كلمات جماعة منهم: صاحب الوسائل - على ما عرفت - نسبه المحقق الكاشاني في أوائل كتابه الكافي إلى المتأخرين، وهو ظاهر في أنّه أيضاً لم يعثر على ذلك في كلمات المتقدمين.
قال في المقدمة الثّانية من كتابه بعد ما حكى الإجماع على التصحيح من الكشي: (وقد فهم جماعة من المتأخرين من قوله أجمعت العصابة أو الأصحاب على تصحيح ما يصح عن هؤلاء الحكم بصحة الحديث المنقول عنهم ونسبته إلى أهل البيت (علیهم السلام) بمجرد صحته عنهم، من دون اعتبار العدالة في مَن يروون عنه، حتى لو رووا عن معروف بالفسق، أو بالوضع فضلاً عمّا لو أرسلوا الحديث، كان ما نقلوه صحيحاً محكوماً على نسبته إلى أهل بيت العصمة - صلوات الله عليهم - .
وأنت خبير بأنّ هذه العبارة ليست صريحة في ذلك ولا ظاهرة فيه، فإنّ ما يصح عنهم إنّما هو الرواية لا المروي، بل كما يحتمل ذلك يحتمل كونها كناية عن الإجماع على
ص: 350
عدالتهم وصدقهم، بخلاف غيرهم ممّن لم ينقل الإجماع على عدالته)(1).
ثم قال (قدس سره): (إنّ ما ذكره متين).
أقول: إنّ عبارة المحقّق الكاشاني (قدس سره) لا تفيد نسبة الإجماع إلى المتأخرين ونفيه عن القدماء، وإنّما أفادت بيان فهم المتأخرين للإجماع بشكل لا يرتضيه المحقّق المذكور لا غير، لذلك تراه يقدم تفسيرات أخرى تحتمل من عبارة الكشي.
ومن الواضح أنّ هذا القول يصلح وجهاً لطرح الشيخ (قدس سره) لروايات أصحاب الإجماع المشتمل سندها على ضعيف.
إذا اتضحت هذه الأقوال في تفسير كلام الكشي، فاعلم أنّ الشيخ (قدس سره) في أواخر بحثه عن خبر الواحد في كتاب العدة - وهو الأصل في هذه الدعوى كما صرّح بذلك السيد الخوئي (قدس سره) (2)- قال: (وإذا كان أحد الراويين مسنداً والآخر مُرسلاً، نظر في حال المرسِل، فإن كان ممّن يعلم أنّه لا يرسل إلّا عن ثقة موثوق به، فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمّد بن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر، وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عمّن يوثق به، وبين ما أسنده غيرهم..)(3) وقد تبعه في ذلك جمع ممّن اطلعنا على كلماتهم كالمحقّق في المعتبر، والعلّامة في المختلف، والشهيد في الذكرى، وشارح الدروس، والوحيد في الفوائد، وصاحب الرياض، والسيد بحر العلوم في فوائده، وصاحب كشف الرموز، والشيخ البهائي وغيرهم.
ص: 351
ومن الواضح أننا إذا أردنا إرجاع عبارة الشيخ (قدس سره) هذه إلى الأقوال المتقدمة في تفسير كلام الكشي، فإنّها تناسب القولين الأوّل والأخير، أمّا الأوّل - أعني تصحيح المروي دون الرواية بالمعنى المصدري - فإنّه يواجه مشكلة طعن الشيخ نفسه ببعض مرويات هؤلاء معلّلاً ذلك بالإرسال، وهو ما سيأتي بيانه ومحاولة الإجابة عنه لاحقاً.
وأما الأخير - أعني توثيق من يروى عنه هؤلاء - فيواجه - مضافاً لما تقدم - مجموعة من المشاكل التي سنتعرض لها وللإجابة عنها قريباً.
لذلك ذهب الرافضون لدعوى الشيخ (قدس سره) إلى أنّ منشأ التسوية هو عبارة الكشي المتقدمة، كما صرّح بذلك السيد الخوئي (قدس سره) في أكثر من موضع من الجزء الأوّل من المعجم.
والحاصل أنّ في المقام ثلاث دعاوٍ:
الأولى: دعوى الكشي إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عن جماعة، منهم الثّلاثة موضوع البحث، وقد تقدم الكلام فيها.
الثّانية: دعوى الشيخ (قدس سره) أنّ المذكورين في عبارة الكشي - أو خصوص الثلاثة - لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة.
الثّالثة: دعوى الشيخ أيضاً تسوية الطائفة بين مراسيل هؤلاء وصحاح غيرهم.
فهل أنّ الدعوى الأولى هي المنشأ للأخيرتين. فتكونان تفسيراً وتعليلاً لها، اجتهد في فهمه الشيخ (قدس سره) ؟ أم أنّه إخبار مستقل منه، وأنّه يشهد لهم بذلك، فيكون التصحيح ثابتاً للطوائف الثّلاثة التي ذكرها الكشي، أمّا التسوية وعدم الإرسال إلّا عن ثقة فثابت لخصوص الثلاثة. إن سُلِّما؟
التزم جماعة منهم السيد الخوئي (قدس سره) بأمور:
إنّ منشأ الدعويين الأخيرتين للشيخ (قدس سره) هو كلام الكشي من إجماع العصابة،
ص: 352
وأنّه مجتهد في استخراج علّة وسبب قبولهم وتصحيحهم لأخبار هؤلاء، لا أنّه مخبر بذلك شاهد به، إذ صرح بذلك غير مرة، فتارةً قال: (هذه الدعوى باطلة - أي دعوى أنّهم لا يرسلون إلّا عن ثقة - فإنّها اجتهاد من الشيخ، قد استنبطه من اعتقاده تسوية الأصحاب - المنصوص عليها في عبارة الكشي - بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم، وهذا لا يتم)(1)، وقال أخرى: (فمن المطمأن به أنّ منشأ هذه الدعوى هو دعوى الكشي الإجماع على تصحيح ما يصح عن هؤلاء، وقد زعم الشيخ أنّ منشأ الإجماع هو أنّ هؤلاء لا يروون إلّا عن ثقة، وقد مرّ قريباً بطلان ذلك)(2).
ولازم ذلك عدم اختصاص الثّلاثة بالتسوية المزبورة، بل ستثبت لجميع مَن ذكرهم الكشي، ويؤكد ذلك أنّ الشيخ (قدس سره) لم يقتصر على الثّلاثة، بل قال: (وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عمّن يوثق به)(3).
لذلك انصبّ تركيز الرافضين لدعوى الشيخ (قدس سره) - في هذه المرحلة - على إثبات اختصاص الثّلاثة دون غيرهم بالتسوية المزبورة ليتسنى لهم إضعاف دعوى الشيخ (قدس سره) اعتماداً على أمرين:
أحدهما: إنّ الشيخ (قدس سره) نفسه قد خصّهم بذلك. قال السيد الخوئي: (قدس سره) (الشيخ بنفسه أيضاً لم يدعِ ذلك في حقّ أحدٍ غير الثّلاثة المذكورين في كلامه)(4).
والآخر: إنّ رواية جملةٍ ممّن عدا الثلاثة موضوع البحث من أصحاب الإجماع عن
ص: 353
غير المعصوم قليلة جداً، فلا مجال لتصور الإرسال أصلاً في رواياتهم، حتى يحكم لهم بعدم الإرسال إلّا عن ثقة، مضافاً إلى أنّ جماعة منهم قد روى عن الضعفاء، فهذا سالم ابن أبي حفصة قد تضافرت الروايات في ذمّه وضلاله وإضلاله، قد روى محمد بن يعقوب بسندٍ صحيح عن زرارة عنه(1).
وقد نوقشت دعوى انحصار منشأ التسوية المزبورة في دعوى الكشي بإمكان وجود منشأ آخر يحتمل اعتماد الشيخ عليه في هذه التسوية، خصوصاً أنّ الجميع - بمن فيهم الرافضون لدعوى الشيخ (قدس سره) - يعترفون بوجود عشرات المصادر الرجالية التي لم تصل إلينا، فاحتمال وجود منشأ آخر لهذه الدعوى عند الشيخ (قدس سره) غير دعوى الكشي وارد جداً.
على أنّ الأمرين الذَين اعتمد عليهما - من أنّ الشيخ نفسه قد خصّ الثّلاثة بذلك، وأنّ رواية جملة ممّن عداهم عن غير المعصوم قليلة جداً - تؤيد عدم كون عبارة الكشي منشأً لدعوى الشيخ.
إنّه على فرض التسليم بأنّ منشأ دعوى الشيخ (قدس سره) ليس هو دعوى الكشي، وأنّ الشيخ (قدس سره) لم يكن مجتهداً في استخراج سبب تصحيحهم لأخبارهم، بل كان مخبراً بعدم إرسالهم إلّا عن ثقة، شاهداً بذلك، فإنّه مع ذلك يبقى (ما ذكره الشيخ من أنّ هؤلاء الثلاثة، صفوان وابن أبي عمير، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر، لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة، غير قابل للتصديق)(2).
ص: 354
وأنّ (هذه الدعوى باطلة)(1)، وأنّها (دعوى دون إثباتها خرط القتاد)(2).
إنّ التسوية المذكورة لو كانت صحيحةً، وأمراً معروفاً متسالماً عليه بين الأصحاب لذكرت في كلام أحدٍ من القدماء لا محالة، والحال أنّه ليس منها في كلماتهم عين ولا أثر(3).
وقد رُدّ هذا الدليل بعين ما تقدم من مناقشة انحصار منشأ التسوية المذكورة بدعوى الكشي إمكان ذكرها في المصادر الرجالية التي يعترف حتى المستدل نفسه بعدم وصول العشرات منها إلينا، فقد اعترف السيد الخوئي (قدس سره) نفسه عند الكلام في ثبوت الوثاقة بنص أحد أعلام المتقدمين، أن عدد الكتب الرجالية من زمان الحسن بن محبوب إلى زمان الشيخ بلغ نيفاً ومائة كتاب(4)، وذكر أيضاً عند الكلام في ثبوت الوثاقة بنصّ أحد أعلام المتأخّرين، أنّ باقي الكتب الرجالية المعروفة في عصر الشيخ والنجاشي لم يبقَ منها عين ولا أثر في عصر المتأخرين(5)، وأنّ ما وصل إلى المتأخرين كتابا الشيخ وفهرست النجاشي ورجال البرقي واختيار الكشي.
وقد اتضح لك فيما مضى أنّ الشيخ (قدس سره) قد أخبر بذلك ونقله، بل ووصف الثّلاثة موضوع البحث بأنّهم عُرفوا بأنّهم لا يرسلون إلّا عن ثقة، بل نسب التسوية بين مراسيلهم وصحاح غيرهم للطائفة، والنجاشي قد ذكرها في ترجمة ابن أبي عمير باعتراف
ص: 355
المعترض نفسه(1)، وعبارة الكشي قد تقدّم نقل تصريحه: بإجماع العصابة على تصحيح ما يصح عن طوائف ثلاث، أحدها المشتملة على الثلاثة موضوع البحث. إلّا أنّ المعترض أبى إلّا أن يفسِّر الإجماع بالوثاقة ليس إلّا.
إن قلت: إنّ التسوية لو كانت أمراً معروفاً لذكرها ابن أبي عقيل في كتابه، أو ابن قولويه في مقدمة كامل الزيارات، أو النعماني في الغيبة، أو الكليني، أو الصدوق في توحيده.
قلنا: إنّ عدم ذكر التسوية في الكتب المذكورة لا يكشف عن عدم وجودها واقعاً، وغاية مايقتضيه ذلك التوقف في الجزم بالتسوية المذكورة لا الرفض. هذا، إن قطعنا النظر عن كتابي الشيخ (قدس سره) وفهرست النجاشي واختيار الكشي، وإلّا فلا داعي للتوقف، خصوصاً مع عدم وجود معارض، وبعدما نقلنا لك تصريح الرافضين أنفسهم بوجود كتب رجالية للمتقدمين لم يبقَ منها عين ولا أثر في عصر المتأخّرين.
إنَّ ممّا يكشف عن أنَّ نسبة الشيخ (قدس سره) التسوية المذكورة إلى الأصحاب ليست إلّا اجتهاداً منه، وأنّها غير ثابتة في نفسها، أنّ الشيخ نفسه ذكر رواية محمّد ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) (2)، ثم قال في كلا كتابيه - التهذيب والاستبصار - (فأوّل ما فيه أنّه مرسل، وما هذا سبيله لا يعارض به الأخبار المسندة)، وأيضاً ذكر مثل هذه العبارة في حقّ غير ابن أبي عمير من أصحاب الإجماع، فقد ذكر رواية محمّد بن علي بن محبوب عن العباس عن عبد الله بن المغيرة عن بعض
ص: 356
أصحابه، عن أبي عبد الله (علیه السلام) (1)، قال في التهذيب (وهذا خبر مرسل)، وقال في الاستبصار (فأوّل ما في هذا الخبر أنّه مرسل) وغير ذلك من الموارد التي ناقش الشيخ فيها بالإرسال.
وقد يناقش فيه من وجوه:
أوّلاً: إنّ إيراد عبارة الشيخ (قدس سره) في حقّ غير الثلاثة موضع البحث، كعبد الله بن المغيرة، دليل قاطع على أنّ منشأ الدعوى ليس عبارة الكشي الناصّة على الإجماع على تصحيح ما يصح عنهم، كما ادّعاه المستدل فيما تقدم من الحديث عن الأمر الأوّل الذي التزم به، بل وصرّح باطمئنانه به.
ثانياً: إنّ طعن الشيخ (قدس سره) في مراسيل غير الثلاثة - كعبد الله بن المغيرة - لا يؤثر على المدّعى، لأنّه لم يدعِ أنّ أصحاب الإجماع لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة، وإنّما ادّعى أنّ الثلاثة وغيرهم عرفوا بأنّهم لا يرسلون إلّا عن ثقة، فكيف تأتى له الجزم بأنّ الكلام في أصحاب الإجماع، خصوصاً بعدما تقدّم من إبطال كون عبارة الكشي هي المنشأ لدعوى الشيخ (قدس سره)، فتأمل.
ثالثاً: إنّ المتتبع للموارد التي طعن الشيخ (قدس سره) فيها بأخبار الثّلاثة موضوع البحث في كتابي التهذيب والاستبصار لا يجد غير ثمانية موارد من ضمنها المورد الذي ذكره المستدل، فلو سلّمنا أنّ الشيخ (قدس سره) قد رفض هذه الروايات الثّمانية لكونها مرسلةً، فإنّ في قبالها عشرات الروايات المرسلة ممّن كان المرسِل فيها أحد الثلاثة موضوع البحث قد عمل بها الشيخ (قدس سره) واستند إليها.
ص: 357
توضيح ذلك: أنّ الشيخ (قدس سره) - بحسب الظاهر - قد طعن في كل من التهذيب والاستبصار بما مجموعه ثمان روايات من روايات الثلاثة موضوع البحث بالإرسال، لكن بعد التأمل يمكن تحصيل وجهٍ آخر للطعن، لذا يحسن أن نتتبع الروايات لينكشف حالها، وهذه الروايات هي:
وهي الرواية التي ذكرها المستدل، وهي رواية محمد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (السائبة وغير السائبة سواء في العتق)(1).
وقد طعن بها الشيخ (قدس سره) بقوله إنّ (أوّل ما فيه أنّه مرسَل، وما هذا سبيله لا يعارض به الأخبار المسندة)(2) والتعبير ب-(أوّل ما فيه) صريح في أنّ الإرسال ليس هو السّبب الوحيد للطعن بالرواية، ولو فُسرت الرواية بعدم التفريق بين السائبة وغيرها في الولاء فإنّها ستكون معارضة لروايات عديدة صحيحة قد فرّقت بين السائبة وغيرها في العتق لا في الولاء - كما هو ظاهر لفظ الرواية - فهي مقبولة عنده، لأنّه يقول بالمساواة بينهما في العتق، وهو ما صرّح به بقوله: (إنّه ليس في ظاهر الخبر أنّ ولاء السائبة مثل ولاء غيرها، وإنّما جعلهما سواء في العتق، ونحن نقول بذلك)(3)، ثم ذكر خمسة أحاديث تكشف عن هذه المساواة، وتؤكّد مفاد هذه المرسلة.
ص: 358
عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (الكر من الماء الذي لا ينجسه شيء ألف ومائتا رطل)(1).
ومن الواضح أنّ الشيخ (قدس سره) لم يطعن في هذه الرواية بالإرسال أصلاً، بل أوردها للاستدلال على أنّ مقدار الكر ألف ومائتا رطل، ورفع توهم مناقضتها للروايات التي تتضمن التحديد بثلاثة أشبار وذراعين، وما أشبه ذلك، بأنّه (لا يمتنع أن يكون ما قدره هذه الأقدار - يعني الثّلاثة أشبار والذراعين وما أشبه ذلك - وزنه ألف ومائتا رطل)(2)، ثم أورد طرفاً من الأخبار التي ذكرت ذلك، من دون تعرض لإخلال الإرسال فيها.
ما رواه محمّد بن أبي عمير قال: روي لي عن عبد الله، يعني ابن المغيرة، يرفعه إلى أبي عبد الله (علیه السلام) أنّ الكر ستمائة رطل (3).
وقد علّق عليها الشيخ (قدس سره) بقوله: (فأوّل ما فيه أنّه مرسل غير مسند)(4).
ومن الواضح أيضاً أنّ الطعن في هذه الرواية كسابقتها لم يكن للإرسال فحسب، بل ولأنّها مضادة لأحاديث تثبت أنّ مقدار الكر ألف ومائتا رطل. مضافاً إلى ذلك أنّه لم يعمل بها أحد من فقهائنا(5)، ومع ذلك حاول في النهاية قبول مفادها برفع التعارض بإمكان (أن يكون الذي سأل عن الكر كان من البلد الذي عادة أرطالهم ما يوازي
ص: 359
رطلين بالبغدادي، فأفتاه على ما علم من عادته، ويكون مشتملاً على القدر الذي قدمناه في الكر)(1).
فالحاصل: أنّ الطعن لو كان منحصراً بالإرسال مع عدم معارضتها لروايات أخرى لأمكن أن يكون راجعاً إلى أصل دعوى الشيخ (قدس سره)، والحال أنّ الأمر ليس كذلك كما لا يخفى.
عن صفوان عن علي بن إسماعيل الدعشي، عن رجل من أهل الشام، عن عبد الله بن أبان الزيات، عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) قال: (سألته عن رجل تزوج ابنة عمه، وقد أرضعته أم ولد جده، هل تحرم على الغلام أم لا؟ قال: لا)(2).
وقد علّق الشيخ (قدس سره) على هذا الخبر بأنّه (خبر مقطوع الإسناد، وما هذا حكمه لا يعترض به الأخبار الصحيحة)(3)، فالطعن بالإرسال لكونه في مقام التعارض، لا أنّ المرسل مرفوض مطلقاً، لذلك حاول تأويله بما لا يتعارض مع الروايات الصحيحة فيُقبل على الرغم من كونه مرسلاً، لذلك قال: (ولو سَلِم من ذلك لكان محمولاً على أنّه إذا كانت أم ولدٍ قد أرضعته بغير لبن جده، أو تكون أرضعته إرضاعاً لا يُحرِّم، ولو كان رضاعاً تاماً لكان قد صار عمها إن كان الجد من قبل الأب، وإن كان الجد من قبل الأم
فليس هناك وجه يقتضي التحريم)(4).
ص: 360
أحمد بن محمّد بن عيسى عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عمّن رواه، قال: (لا تورثوا من الأجداد إلا ثلاثة، أبو الأم، وأبو الأب، وأبو أب الأب)(1).
وقد طعن الشيخ بهذا الخبر بأنّه غير معمول به؛ لأنّه مرسل غير مسند. وثانياً لأنّ الجد الأعلى لا يرث مع الجد الأدنى، بل الجد الأدنى يحوز المال كله(2)، واستدل على ذلك بروايتين. وواضح أنّه جعل الإرسال أحد وجوه الطعن. لا أنّ الطعن منحصر في الإرسال، بل ضم إليه معارضته لما يدل على أنّ الجد الأعلى لا يرث مع الجد الأدنى، مضافاً إلى أنّه حمل الرواية في الاستبصار على التقية؛ لأنّه يجوز أن يكون في متقدمي العامّة من يفتي بذلك.
فالنتيجة أنّه قَبِل المرسلة على الرغم من إرسالها.
ما رواه علي بن الحسين بن فضّال، عن أيوب بن نوح، عن محمّد ابن أبي عمير، عن جميل، فيما يعلم، رواه قال: إذا ترك الميت جدتين، أم أبيه وأم أمه، فالسّدس بينهما (3) وقد طعن الشيخ (قدس سره) في هذه الرواية مع رواية ثانية بقوله: (هذان الخبران غير معمول بهما، لأنّ الخبر الأول - وهو الذي بين أيدينا - مرسل مقطوع الإسناد)(4).
ص: 361
ولكن طعنه لم يقتصر أيضاً على الإرسال ليكون خادشاً في أصل المدّعى موضوع البحث، بل ولأنّه مخالف لما قدمه من الأخبار، حيث قال: (والثّاني مع الأوّل مخالفان لما قدمناه من الأخبار، لأنّا قد بيّنا أنّ الجدة إنّما تستحق الطعمة من نصيب ولدها، والخبر يتضمن أيضاً أنّها تعطى الطعمة إذا لم يكن هناك ولدها)(1). على أنّه في نهاية المطاف احتمل أن يكون الخبران وردا مورد التقية، لأنّ هذه القضية قضى بها أبو بكر في خلافته، فيجوز أن يكون روى على ما قضى به(2).
وهي في الحقيقة ليست رواية واحدة، بل روايتان:
الأولى: ما رواه أحمد بن محمّد عن محمّد بن أبي عمير عن خلّاد عن السّري،
يرفعه إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) في الرجل يموت ويترك مالاً ليس له وارث؟ فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) أعطه همشاريجه(3) (4).
الثانية: ما رواه أيضاً عن داود، عمّن ذكره، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: مات رجل على عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يكن له وارث، فدفع أمير المؤمنين (علیه السلام) ميراثه إلى همشهريجه(5).
وقد طعن الشيخ (قدس سره) في التهذيب بالرواية الثّانية فقط بالإرسال بقوله (فهذه رواية
ص: 362
مرسلة لا تعارض ما قدمناه من الأخبار)(1).
والظاهر أنّ الطعن موجه للروايتين معاً، لأنّ مفاد المتن فيهما واحد، وكلتاهما مرسلة. كذلك قال عن الخبر الثاني (ورواه أيضاً)، فيكون قوله: (فهذه رواية مرسلة) راجعاً للخبرين لا لخصوص الأخيرة، على الرغم من أنّه في الاستبصار طعن في كل منهما بالإرسال على حدة.
وكيفما كان، فإنّ طعن الشيخ (قدس سره) فيهما لا للإرسال فحسب، بل ولأنّهما معارضتان للروايات الصحيحة الدالة على أنّ من لا وارث له فماله من الأنفال، على أنّه في نهاية المطاف - أيضاً - قد فسّرهما بما يرفع التنافي بينهما وبين غيرهما من الروايات الصحاح، فتقبل حينئذٍ، قائلاً: (مع أنّه ليس فيها ما ينافي ما تقدّم، لأنّ الذي تضمن أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) أعطى تركته همشاريجه، ولعل ذلك فِعْل لبعض الاستصلاح؛ لأنّه إذا كان المال له خاصة على ما قدمناه، جاز له أن يعمل به ما شاء، وليس في الرواية أنّه قال: إنّ هذا حكم كل مال لا وارث له، فيكون منافياً لما تقدم من الأخبار)(2).
ما رواه الحسن بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن سوقة، عمّن أخبره، قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل يأتي أهله من خلفها؟ قال: هو أحد المأتيين، فيه الغسل)(3).
ص: 363
ففي التهذيب لم يطعن بهذه الرواية، بل قبلها، وجعلها مؤيدةً لغيرها من الروايات المسندة في بيان حكم إتيان الزوجة من الدبر، ولكنه في الاستبصار طعن فيها بالإرسال، وقال: (وما هذا حكمه لا يعارض به الأخبار المسندة) النافية لوجوب الغسل عند إتيان الزوجة من الدبر، وأضاف إلى خدشة الإرسال كون الخبر من أخبار الآحاد التي لا توجب العلم ولا العمل، فلا يجب العمل بها، ولكنّه في نهاية الأمر أورد احتمال أن يكون هذا الخبر قد ورد مورد التقية، لأنّه موافق لمذاهب بعض العامة(1).
فالنتيجة: إنّ طعن الشيخ (قدس سره) في هذه الروايات الثمانية لم يكن للإرسال فحسب، بل لمعارضتها للأخبار الصحيحة، ومع ذلك رأيناه يحاول تأويلها جميعاً بتأويلات يرتفع معها التعارض، فتُقبل حينئذٍ.
على أنّا لو سلّمنا أنّ الشيخ (قدس سره) قد رفض هذه الروايات الثمانية لكونها مرسلةً، فإنّ في قبالها عشرات الروايات المرسلة ممن كان المرسِل فيها أحد الثلاثة، قد عمل بها الشيخ (قدس سره) واستند إليها.
ولكنّ الإنصاف أنّ عشرات المراسيل التي عمل بها الشيخ (قدس سره) لم نجد مورداً عمل بها فيه وحدها، بل عمل بها منضمّةً لغيرها من الصحاح، فيمكن أن يكون العمل بها ليس اعتماداً على كونهم لا يرسلون إلا عن ثقةٍ، إذ إنّ مراسيل غيرهم قد تذكر إلى جانب الصحاح .
نعم، لو عثر على مورد أو أكثر قد عمل الشيخ (قدس سره) فيه بمراسيل هؤلاء الثلاثة في حال انفرادهم في الرواية، وهو ما أكّده الشيخ (قدس سره) في العدة بقوله: (لذلك عملوا
ص: 364
بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم)(1) كما يحتمل ذلك جداً في الحكم بثبوت الأرش دون القصاص على الرجل يضرب سنّ الصبي فتسقط ثم تنبت، ويد الرجل تكسر ثم تبرأ، اعتماداً على مرسلتين لابن أبي عمير(2)، لأمكننا القطع بالتزام الشيخ (قدس سره) بالدعوى، فتأمل.
(إنّ هذه الدعوى، وإنّ هؤلاء الثلاثة وأضرابهم من الثقات لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقةٍ، دعوى دون إثباتها خرط القتاد، فإنّ معرفة ذلك في غير ما إذا صرّح الراوي بنفسه أنّه لا يروي ولا يرسل إلّا عن ثقةٍ، أمر غير ميسور، ومن الظاهر أنّه لم ينسب إلى أحد هؤلاء إخباره وتصريحه بذلك، وليس لنا طريق آخر لكشفه..)(3).
ويمكن أن يناقش هذا الدليل: بأنّ عدم نسبة الشيخ (قدس سره) ما ادّعاه في العدة إلى تصريحهم بذلك أنفسهم لا يستلزم عدم صدور تصريح منهم بذلك، والشيخ (قدس سره) أو غيره غير ملزمين بنقل كل شأن من شؤون الرواة، فيمكن أن يكون التصريح موجوداً لدى الطبقة الأولى التي يعترف المستدل نفسه بضياع تراثهم، وعدم وصوله إلينا كما تقدم نقل ذلك عنه. ثم جرت الطائفة عملياً على مقتضاه دون التزامهم بنقل التصريح إلى من بعدهم، ومع إمكان ذلك فلا ترجع شهادة الشيخ في العدة إلى أمرٍ حدسي، بل تكون شهادته وإخباره حجّة قطعاً بعد كفاية احتمال حسيّة المنشأ في حجّية الخبر، وهو ما يعترف به المستدل نفسه عند كلامه في ثبوت الوثاقة بنصّ أحد المتقدمين قائلاً: (فإن قيل: إنّ إخبارهم عن الوثاقة والحسن - لعلّه نشأ من الحدس - ... قلنا: إنّ هذا الاحتمال
ص: 365
لا يُعتنى به بعد قيام السيرة على حجّية خبر الثقة فيما لم يعلم أنّه نشأ من الحدس، ولا ريب في أنّ احتمال الحس في أخبارهم موجود وجداناً)(1) ثم إنّ وصف المستدل للاطلاع على كون الراوي لا يروي أو لا يرسل إلّا عن ثقة مع عدم تصريحه بنفسه، بأنّه أمر غير ميسور، قد يصح بالنسبة إلى مَن طال الزمان بينه وبينه، أمّا بالنسبة لمن قرب عهده منه، أو عاصره، وعرف أنّه في غاية التحرز عن الرواية عن غير الثقة، يتيسر له الاطمئنان والقطع بأنّه لا يروي عن غير الثقة.
(قد ثبت رواية هؤلاء عن الضعفاء في موارد ذكر جملةً منها الشيخ نفسه، ولا أدري أنّه مع ذلك كيف يدعي - يعني الشيخ (قدس سره) - أنّ هؤلاء لا يروون عن الضعفاء؟ فهذا صفوان روى عن علي بن أبي حمزة البطائني كتابه، ذكره الشيخ، وهو الذي قال فيه علي بن الحسن بن فضّال (كذّاب ملعون) وروى محمّد بن يعقوب بسندٍ صحيح عن صفوان بن يحيى، عن علي بن أبي حمزة)(2).
وتتبع المستدل موارد رواية الثّلاثة عن الضعفاء فذكر تسعةً منها، وادّعى أنّ روايتهم عن الضعفاء غير منحصرة فيما ذكره. مضافاً إلى دعواه كثرة روايتهم عن المجاهيل غير المذكورين في الرجال، حتى حكم في نهاية كلامه بأنّ (ما ذكره الشيخ من أنّ هؤلاء الثلاثة، صفوان، وابن أبي عمير، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر، لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقةٍ، غير قابل للتصديق، وهو أعلم بما قال)(3).
ويمكن أن يناقش هذا الدليل بوجوه، منها:
ص: 366
أوّلاً: بعد الاعتراف بأنّ الشيخ (قدس سره) في العدة قد ذكر تعبيري (لا يروون) و(لا يرسلون) إلّا عن ثقةٍ، فلو ثبت ما ادّعاه المستدل من رواية الثلاثة عن الضعفاء المتسالم على ضعفهم، وبناءً على عدم التفريق بين المعطوف، والمعطوف عليه (أعني لا يروون ولا يرسلون) فإنّ دعوى الشيخ (قدس سره) تكون ساقطةً لا محالة، ولكننا لا نسلّم بالشقين معاً.
أمّا الأوّل فلأنّ الضعفاء الذين ادّعى المستدل رواية الثلاثة عنهم لم يتسالم الأصحاب على القول بضعفهم، أو ما يقرب من ذلك، فتضعيف ابن فضّال - مثلاً - لبعض رجال ابن أبي عمير لا يستلزم عدم صحة دعوى الشيخ (قدس سره)، أو ابتناءها على الاجتهاد والحدس.
وأمّا الثاني فلأنّ هناك فرقاً بين عدم الرواية عن الضعفاء وبين عدم الإرسال إلّا عمّن يوثق به، فحتى لو ثبتت روايتهم عن الضعفاء في المسانيد، لا يستلزم ذلك كون الساقط في مراسيلهم هو من الضعفاء أيضاً.
ثانياً: يمكن أن يكون المراد من التعبير بالرواية في كلام الشيخ (قدس سره) خصوص الإرسال، بقرينة عطفه (لا يرسلون) على (لا يروون) - وإن كان حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التأكيد - فيكون العطف عطف تفسير، فيصير المعنى أنّ الثلاثة إذا أرادوا أن يرسلوا فإنّهم لا يرسلون إلّا عن ثقة، حتى وإن ثبتت روايتهم عن الضعفاء في غير حال الإرسال، فيكون المعنى أنّ أحد الثلاثة إذا أراد أن يُسقط الواسطة بينه وبين المعصوم (علیه السلام) فلا بُدَّ أن يكون الساقط ثقةً، وهذا لا ينافي روايتهم عن الضعفاء، إن سلّمنا ذلك، فتأمل.
ثالثاً: لو سُلّمَ رواية الثلاثة عمّن تسالم الأصحاب على ضعفه، فإنّه معارض بشهادة
ص: 367
الشيخ (قدس سره) وإخباره بتسوية الطائفة بين مراسيلهم ومسانيد غيرهم، فمع التسليم بالمكافأة لا يستلزم ذلك أكثر من سقوط الشهادتين في خصوص مورد التعارض، دون استلزامه القدح بأصل الدعوى.
وبعبارة أخرى: إنّنا لو سلّمنا بتمامية المعارض، فإنّ دعوى الشيخ (قدس سره) لا تتوقف صحتها على عدم وجود معارض، بل تكون شهادة أحدهم بضعف أحد ممّن روى عنه الثلاثة - كالبطائني مثلاً - نظير شهادة النجاشي بوثاقة الحسن اللؤلؤي في قبال شهادة الشيخ بضعفه، فإنّه لا يلزم منه إلّا سقوط قوليهما في خصوص مورد التعارض.
رابعاً: إنّ المحقّق الحلي (قدس سره) في المسألة السّادسة من الفصل الثّالث من المعارج حكى عن الشيخ (قدس سره) أنّه (إذا أرسل الراوي الرواية، قال الشيخ (رحمة الله): إن كان ممّن عرف أنّه لا يروي إلّا عن ثقةٍ، قُبلت مطلقاً، وإن لم يكن كذلك، قُبلت بشرط أن لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة، واحتج لذلك بأنّ الطائفة عملت بالمراسيل عند سلامتها من المعارض، كما عملت بالمسانيد...)(1).
فلو سلّمنا ثبوت رواية الثّلاثة عمّن، تسالم الأصحاب على ضعفه - كما ادّعى المستدل ذلك - فإنّ الشّق الثاني من عبارة الشّيخ (قدس سره) وهو قوله: (وإن لم يكن كذلك قبلت بشرط أن لا يكون لها معارض..) هو الذي ينطبق على الثّلاثة موضوع البحث، وهو ما يتناسب مع طريقة تعامله مع مراسيل الثلاثة، فإنّه يطعن بها عند وجود معارض من الروايات الصحيحة، ويقبلها عند خلوها من المعارض. كما تقدم بيانه مفصلاً.
ص: 368
وعليه، فلا يكون الثلاثة موضوع البحث مصاديق لدعوى وجود جماعة لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقةٍ، فتُقبل مراسيلهم مطلقاً، وإن كانت الدعوى في نفسها سالمةً من الطعن، يصلح أن يكون مصداقاً لها كل من ثبت في حقه أنّه لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة..
فالمتحصَّل ممّا تقدم كله: أنّ الشيخ (قدس سره) صرّح في العدّة، وحُكي عنه في المعارج، وجود جماعة عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة، وذكر أنّ منهم الثلاثة موضوع البحث وغيرهم، ولكن كون منشأ هذه الدعوى هو عبارة الكشي المتقدمة - كما ذهب إلى ذلك السيد الخوئي (قدس سره) اعتماداً على عدم وجودها في كلمات المتقدمين في رأيه - فتكون هذه الدعوى مجرد اجتهاد من الشيخ (قدس سره) في تفسير الإجماع المذكور في عبارة الكشي(1)، أو هو غير عبارة الكشي من المصادر الحديثية التي يعترف السيد الخوئي (قدس سره) نفسه بعدم وصول أغلبها إلى المتأخرين، وهو احتمال وارد، خصوصاً وأنّ الشيخ (قدس سره) نسب ذلك إلى الطائفة، ولكن حتى على فرض ترجيح هذا الاحتمال فإنّ وقوع الضعفاء في مرويات الثلاثة، وطعن الشيخ (قدس سره) نفسه في الموارد الثمانية المتقدمة، وتعامله مع مراسيل الثلاثة بنفس طريقة تعامله مع مراسيل غيرهم، وعدم الاعتماد - في الغالب - على مراسيل الثلاثة في الاستدلال إلّا مع انضمامها إلى غيرها من الصحاح، يلزمنا بالقول بقبول مراسيل الثلاثة في حال خلوها عن المعارض، لا أنّها تُقبل مطلقاً، كما حكى ذلك المحقّق (قدس سره) في المعارج عن الشيخ (قدس سره) بأنّه (إن كان ممّن عرف بأنّه لا يروي إلّا عن ثقةٍ، قبلت مطلقاً)(2) بجعل الثلاثة مصاديق لمن لا يروي إلّا عن ثقة؛ لوقوع
ص: 369
الضعفاء في مروياتهم، كما تقدم، وطعن الشيخ (قدس سره) نفسه في الموارد الثمانية فيها بالإرسال في مقام تعارضها مع الروايات الصحيحة.
اللهم إلّا أن يلتزم بعدم إمكانية الاستناد إلى ما ذكر في التهذيبين، من الطعن برواياتهم بالإرسال، والاعتماد على ما صرّح به في العدّة من أنّهم لا يرسلون إلّا عن ثقة، اعتماداً على ما نقلناه سابقاً عن سيدنا الأستاذ (دامت افاداته) من بيان وجه تأمل سيد أساتذتنا (مدظله العالی) من النقض بالالتزام بحجّية مراسيلهم اعتماداً على كلام الشيخ نفسه في العدّة من أنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقةٍ(1)، ولعلّ السبب في ذلك ما ذكره سيدنا الأستاذ (دامت افاداته) في القبسات (من أنّ الشيخ (قدس سره) قد شرع في تأليف التهذيب في حياة أستاذه الشيخ المفيد (رضوان الله علیه) المتوفى عام أربعمائة وثلاثة عشر، وله آنذاك أقل من ثمان وعشرين سنة، وقد أكمله بعد وفاة الشيخ المفيد، ثم ألّفَ الاستبصار معتمداً على ما ورد في التهذيب، إلّا بعض الإضافات الطفيفة.
وأمّا كتاب العدّة في أصول الفقه الذي اشتمل على ما تقدّم بشأن ابن أبي عمير وأضرابه، فقد ألّفه - في ما يبدو - بعد وفاة أستاذه الآخر، وهو السيد المرتضى (قدس سره) المتوفى عام أربعمائة وستة وثلاثين، كما يقتضيه الترحم عليه في مواضع شتى من هذا الكتاب.
وبقي الشيخ (قدس سره) على قيد الحياة إلى عام أربعمائة وستين، وعلى ذلك فلا يستغرب أنّه لم يكن حين تأليفه التهذيبين مطّلعاً على ما حكاه من عمل الطائفة بمراسيل ابن أبي عمير وأضرابه، لاسيّما وأنه لم يبقَ مع أستاذه المفيد (قدس سره) إلّا أقلّ من خمس سنين، وأمّا السيد المرتضى (قدس سره) فمن المعروف عنه أنّه لم يكن يعمل بأخبار الآحاد، ولذلك لم يكن
ص: 370
الأمر المذكور موضع اهتمامه بطبيعة الحال)(1).
ويمكن الحل بالالتزام بتكفّل الشيخ (قدس سره) في التهذيبين بحل ظاهرة التعارض بين الأخبار، وذلك ممّا ألجأه - أحياناً - إلى إتّباع الأسلوب الإقناعي في البحث، المتمثّل في حمل جملة من الروايات على بعض المحامل البعيدة، أو المناقشة في حجّيتها ببعض الوجوه التي لا تنسجم مع مبانيه الرجالية أو الأصولية المذكورة في سائر كتبه، وهذا ظاهر لمن تتبع طريقته (قدس سره) في الكتابين (2)، ويؤيده ما حكاه المحقق في المعارج عن الشيخ نفسه بأنّ الراوي (إن كان ممّن عرف بأنّه لا يروي إلّا عن ثقة، قبلت مطلقاً)(3).
إلّا أنَّ هذا البيان على الرغم من تماميّته في إثبات اختلاف آراء الشيخ - في الجملة - في العدَّة عنها في التهذيبين, لا ينهض على إثبات عدم كون دعوى الشيخ في العدَّة حدسيَّة.
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.
ص: 371
1. اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي), محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشي, طبعة مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث, 1404ﻫ, قم المقدسة.
2. الاستبصار فيما اختلف من الأخبار, الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي, دار التعارف للمطبوعات, 1412ﻫ, بيروت.
3. بحوث في علم الرجال, الشيخ محمّد آصف المحسني, طبعة المسؤول العام للقسم الثقافي في الحركة الإسلامية الأفغانية, إسلام آباد, الطبعة الثالثة .
4. تهذيب الأحكام في شرح المقنعة, الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي, دار الكتب الإسلامية, ايران.
5. تهذيب الوصول إلى علم الأصول, العلّامة الحلي الحسن بن يوسف بن المطهر, منشورات مؤسسة الإمام علي (علیه السلام), لندن, الطبعة الأولى.
6. توضيح المقال في علم الرجال, الملا علي الكني الطهراني, الطبعة الحجرية,1302ﻫ, إيران.
7. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة, الشيخ يوسف البحراني, مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين, قم المقدسة.
8. الرواشح السماوية, المير داماد محمّد باقر الحسيني, دار الحديث للطباعة والنشر, الطبعة الاولى,1422ﻫ, قم المقدسة.
9. شرح البداية في علم الدراية, الشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي العاملي, منشورات الفيروزآبادي, قم المقدسة, 1414ﻫ.
ص: 372
10. شرح عقائد الصدوق أو تصحيح الاعتقاد, الشيخ المفيد محمّد بن النعمان العكبري البغدادي.
11. العدّة في أصول الفقه, الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي, مطبعة ستارة, قم, الطبعة الأولى.
12. الفوائد الرجالية, الشيخ محمّد باقر بن محمّد اكمل الوحيد البهبهاني, طبعة مجمع الفكر الإسلامي, الطبعة الثانية, 1424ﻫ, قم المقدسة.
13. قاعدة لا ضرر ولا ضرار, محاضرات آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني, دار المؤرخ العربي, الطبعة الأولى, 1414ﻫ, بيروت .
14. قبسات من علم الرجال, أبحاث السيد محمّد رضا السيستاني, نسخة أوّلية محدودة التداول, 1436ﻫ.
15. كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع, الشيخ أسد الله التستري, طبعة مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث, قم المقدسة .
16. لبّ اللّباب, غلام نبي الله احمد الحائري, الطبعة الحجرية, مطبعة رحماني موراس,1320ﻫ.
17. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل, الميرزا حسين النوري الطبرسي, مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث, قم المقدسة.
18. مشرق الشمسين وأكسير السعادتين, الشيخ البهائي بهاء الدين محمّد بن الحسن, طبع الاستانة الرضوية المقدسة, مجمع البحوث الإسلامية, ايران.
19. معارج الأصول, الشيخ نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن الحلي, مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) للطباعة والنشر, الطبعة الاولى,1403ﻫ, قم المقدسة.
ص: 373
20. معالم الأصول, الشيخ حسن بن الشهيد الثاني مع تعليقة سلطان العلماء, طبعة دار الفكر, الطبعة الثانية, 1376ش, قم المقدسة.
21. المعتبر في شرح المختصر, المحقق نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن الحلي, منشورات سيد الشهداء (علیه السلام), قم المقدسة.
22. معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة, السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي, مطابع مركز نشر الثقافة الإسلامية, إيران، الطبعة الخامسة.
23. مقباس الهداية في علم الدراية, الشيخ عبد الله المامقاني, منشورات دليل ما, الطبعة الأولى, 1428ﻫ, إيران.
24. منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان, الشيخ جمال الدين الحسن بن زين الدين, مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين, قم المقدسة, 1362ش.
25. نفائس الأصول في شرح المحصول, شهاب الدين أحمد بن إدريس الصنهاجي المصري القرافي, منشورات دار الكتب العلمية, بيروت .
26. الوافي, المولى محمد محسن الفيض الكاشاني, مكتبة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام), الطبعة الأولى, 1312ﻫ, أصفهان.
ص: 374
يعدّ جابر بن يزيد الجعفي من مشاهير علماء الكوفة، وقد تتلمذ على مشاهير علماء الأمصار من التابعين، وأخذ عنه مشاهير العلماء كأبي حنيفة - صاحب المذهب المعروف - وسفيان الثوري.
ولم تختص معارف جابر بالفقه، بل شملت التفسير وعلوم القرآن الأخرى، والعقائد والفضائل والأخلاق والتاريخ، ومن ثَمَّ ذكر الذهبي في ترجمته أنَّه أحد أوعية العلم، وقد نقل الكشي حكاية في ترجمة يونس بن عبد الرحمن أنَّ علم الأئمّة (علیهم السلام) انتهى إلى أربعة أحدهم جابر بن يزيد الجعفي.
ص: 375
ص: 376
بسم الله الرحمن الرحیم
كان الكلام في الحلقتين الأوَّليين في جهات حول شخصية التابعي المشهور جابر ابن يزيد الجعفي، وكانت الجهة الأخيرة في العلاقة بين جابر والغلاة، وهي تتضمن محورين، الأوَّل: مقدمة حول الغلوّ وعلاقة جابر بالغلاة، والآخر - الذي وصل الكلام إليه - هو:
إنَّ آثار جابر عند الغلاة لا تنحصر بالضرورة فيما يتضمن غلوّاً واضحاً في شأن أئمة أهل البيت (علیهم السلام)، بل قد يكون فَهْم هذا الانتماء من جهة أنْ يكون مضمون الرواية من سنخ تلفيقات الغلاة وأسلوب وضعهم، وذلك لأنَّ للغلاة - كما لبعض الصوفية والفلاسفة الإشراقيين، أو الموصوفين بالعرفان النظري - نمطاً من التلفيق الفكري الخاص ممَّا يعدّونه ضرباً راقياً من المعرفة، كما أنَّ كثيراً من الخوارق التي يروونها هي على نمط خاصّ يغاير المعهود لدى عامّة المسلمين والشيعة عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأئمة أهل البيت (علیهم السلام) كما يظهر ذلك جلياً لمن لاحظ رسائلهم التي بقي شيء غير قليل منها محفوظاً في ضمن التراث العلوي منسوباً إلى مشاهير الموصوفين بالغلوّ في علم الرجال لدى الشيعة.
وقد يتوقع تسرب جملة من الأخبار التي وضعها أهل الغلوّ والتخليط عن جابر إلى بعض مصنفات الإمامية ممَّا كان طريقه عمرو بن شمر، ويونس بن ظبيان، ومحمَّد بن
ص: 377
سنان، وعبد الرحمن بن عبد الله الأصم، ومحمَّد بن الحسن بن شمون، ومحمَّد بن علي أبو سمينة وغيرهم.
وهذا أمر طبيعي بالالتفات إلى تستر كثير من الغلاة على ما يكون صريحاً في الغلوّ عن عامّة الرواة، بل يكون من الأسرار التي يلقونها إلى خاصتهم، كما نجد أنَّ الخصيبي - مثلاً - ألّف الهداية الكبرى - القسم المتعلّق بالأئمة - بما يناسب - في الغالب - الفكر الشيعي العامّ، ولكن من دقّق في حيثياته، أو لاحظ سائر مصنفاته كالرسالة الراستباشية يجده يصرح بتأليه أمير المؤمنين (علیه السلام) والالتزام بتناسخ الأرواح، وحليّة المحرمات لأهل المعرفة وغير ذلك.
وكذا نجد الحسن بن شعبة الحرّاني صاحب تحف العقول ألّف كتابه هذا - على العموم - مقتصراً على ما يكون مقبولاً لدى عموم الشيعة الإمامية.
ولكنّه في مصنفات أخرى له محفوظة لدى العلويين تبنّى بنحو صريح مبادئ الغلاة، ويرى لزوم الحفاظ على الظاهر مع عامّة الناس.
وينقسم ما يرويه الغلاة عن جابر إلى مجموعتين:
المجموعة الأولى: أخبار ذات مضامين معهودة في التراث الإمامي المعتبر ممَّا يخلو عن شوائب الغلوّ والتخليط.
وهذه قد استخرجها الغلاة من كتب الإمامية - التي يعدّونها من المؤلفات في الظاهر - ولكن عرضوها إمَّا في المصنفات التي ألّفوها لمقام الظاهر، أو وجهوها إلى عقائدهم الباطنة التي يعتبرونها من الأسرار بشيء من التوجيه والتأويل، وربما جعلوا بعضها، لأنَّ نسبة الروايات إلى هؤلاء الذين يغالي فيهم الغلاة أحبّ من نسبتها إلى عامّة الشيعة من أهل الظاهر مثل زرارة، وأبي بصير، وعبد الله بن أبي يعفور.
ص: 378
ولعلَّ من جملة المجموعة الأولى ما أورده الحسن بن شعبة في تحف العقول في غرر الروايات الواردة عن الباقر (علیه السلام)، وهي روايتان عن جابر الجعفي كلتاهما ذات مضامين راقية:
الأولى: وصية الإمام الباقر (علیه السلام) لجابر حيث جاء فيها: (يا جابر اغتنم من أهل زمانك خمساً: إنْ حضرتَ لم تُعرَف. وإنْ غِبتَ لم تُفتَقد. وإنْ شهدتَ لم تُشاوَر. وإنْ قَلتَ لم يُقبَل قولك. وإنْ خَطبتَ لم تُزوَج. وأوصيك بخمس: إنْ ظُلمتَ فلا تَظلِم. وإنْ خانوك فلا تَخُن. وإنْ كُذبتَ فلا تغضب. وإنْ مُدحتَ فلا تفرح. وإنْ ذُممتَ فلا تجزع...)(1).
وهذه الوصية لم نعثر عليها في كتب الإمامية، ومضمونها حسن، إلَّا أنَّ بعض تعابيرها أشبه بتعابير العلماء من أسلوب تعبير الروايات مثل قوله: (إنَّ المؤمن معنيٌ بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها فمرة يقيم أودها ويخالف هواها في محبة الله، ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه الله فينتعش، ويقيل الله عثرته فيتذكر، ويفزع إلى التوبة والمخافة فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف).
والأخرى: كلام آخر منه (علیه السلام) لجابر حيث جاء فيه: (خرج يوماً وهو يقول: أصبحت والله يا جابر محزوناً مشغول القلب، فقلت: جعلت فداك ما حزنك وشغل قلبك، كل هذا على الدنيا؟ فقال (علیه السلام): لا يا جابر، ولكنْ حزن هَمِّ الآخرة، يا جابر من دخل قلبه خالص حقيقة الإيمان شغل عمّا في الدنيا من زينتها، إنَّ زينة زهرة الدنيا إنَّما هو لعب ولهو وإنَّ الدار الآخرة لهي الحيوان. يا جابر إنَّ المؤمن لا ينبغي له أنْ يركن ويطمئن إلى زهرة الحياة الدنيا. وأعلم أنَّ أبناء الدنيا هم أهل غفلة وغرور وجهالة وأنَّ
ص: 379
أبناء الآخرة هم المؤمنون العاملون الزاهدون...)(1).
وهذه الرواية نقلها الكليني بإسناده في الكافي عن محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمَّد ابن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي عبد الله المؤمن، عن جابر(2).
المجموعة الثّانية: الروايات التي تتضمن الغلوّ والتخليط، أو تكون مريبة.
ومنها روايات مفردة قصيرة ممَّا يكون اسطراً عدة أو بمقدار صفحة. وهذا ممَّا يسهل تتبعه بملاحظة كتب الغلاة.
ومن الكتب القديمة للغلاة - حسب ادعائهم - ما يؤْثَر لديهم عن المفضل بن عمر - وهو في طبقة تلامذة جابر تقريباً وروى عنه حسب أسانيدهم مكرراً - وقد تضمن غير واحد من الآثار المنسوبة إليه ذكر جابر والرواية عنه.
ولنذكر مثالين منها:
وهذا الكتاب من الكتب المنسوبة إلى المفضل بن عمر، إلَّا أنَّ فيه روايات عن آخرين من معاصريه، أو تلامذته وغيرهم ممّن لم تعهد روايته عنهم، ومنها قطعة عن جابر بعضها سأل هو عنه، وبعضه عن الباقر (علیه السلام)، وبعضه عن الصادق (علیه السلام)، وأوله: (وقد روي عن جابر لما سئل عن قوله: [وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ] فأطرق إلى الأرض، ثُمَّ رفع رأسه إلى السائل، قال: أنبئك أنَّ الله خاطب الناس بالتين المأكول والزيتون المعصور! بل ذلك اسم الحسن والحسين، وطور سنين هي فاطر المقدسة التي ما فيها كدر، وهذا البلد الأمين عنى به مكة ويعلمون أنَّه غير أمين بل يشرب فيه الخمر ... ولكنَّ الإيمان
ص: 380
والأمن حبّ آل محمَّد ...)(1).
وقد ذكر في مقدمته أنَّ هذا الكتاب عن المفضل بن عمر الجعفي، وهو أصل كل رواية باطنة عن أبي عبد الله (علیه السلام)، وأنَّ لفظ أوَّل الحديث عنه وعن آخرين ذكروا من أصحاب الأئمة (علیهم السلام) ... (وجابر الجعفي وكان قد رزقه جعفر العلم رزقاً)(2).
وقد جاء في ضمن الكتاب: (قلت: يا مولاي يروى عن جابر عن الباقر في قوله: [وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ] أنَّ إسحاق هو الحسن، والحسين هو إسماعيل. قال الصادق: صدقوا بما قالوه فالحسين أعظم خطراً من الله أنْ يذبح...)(3).
ويتلو ذلك فقرة سأل فيها المفضل عن (قصة الحسين كيف اشتبه على الناس قتله وذبحه، كما اشتبه على من كان قتلهم في قتل المسيح).
ومنها: آثار مطولة هي أشبه بكتاب مستقل، أو رسالة مفردة، أو هي في قوة ذلك، وهذه التي نشير إليها جملة ممَّا عثرنا عليه في كتب الغلاة.
وكان النجاشي (قدس سره) قد أشار إلى أنَّ الغلاة يروون عن جابر أشياء لا تصح نسبتها إليه وقال: إنَّ ذلك موضوع(4).
ولم ينحصر ما أضافته الغلاة إلى جابر على فرقة محددة منهم، بل كلهم اهتموا بأنْ يجعلوا جابراً من جملتهم في الباطن، وينسبوا من طريقه عقائدهم إلى الأئمة من آل
ص: 381
البيت (علیهم السلام) .
فمن انقسامات الغلاة البارزة أنَّهم ينقسمون إلى مَن يرى تجلي الله سبحانه وتعالى في النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، ويعتبر أمير المؤمنين (علیه السلام) وسائر أهل البيت تجليات ثانوية، أو ما يقرب من هذا المعنى، وهؤلاء يعرفون بالمحمَّديّة والميميّة.
ومنهم مَن يرى أنَّ التجلي الأوَّل هو للإمام علي (علیه السلام) ويجعل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حجاباً له، وهؤلاء هم الذين عرفوا بالعلويّة والعينيّة. والمراد أنَّهم يلتزمون بتجلي الإله أوَّلاً في علي (علیه السلام) ثُمَّ في غيره. وكان منهم محمَّد بن نصير النميري.
ومنهم مَن يرى أنَّ التجلي في النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين (علیه السلام) سيان فهما ندان في ذلك.
ثُمَّ هذه الفرق عموماً تسري ما تعتقده من الغلوّ الخاصّ إلى ثلاثة آخرين غير النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وعلي (علیه السلام) .
فالمخمسة على قسمين:
قسم يضيفون الزهراء والحسن والحسين إلى النبي والإمام علي (علیهم السلام) .
وقسم يُخْرِج علياً (علیه السلام) من الخمسة باعتباره تجلياً محضاً للذات الإلهية - كما هو اعتقاد العلويين - فيجعل الخامس (المحسن) الولد الثالث للإمام أمير المؤمنين الذي أسقطته الزهراء – بعد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) .
وعلى هذا تجري النصيرية في دستورها وسائر كتبها.
وفي هؤلاء مَن يعترف بإمامة آخرين من الأئمّة، أو يغلو فيهم، ولكنَّه لا يجعلهم في مصاف هؤلاء الخمسة.
ثُمَّ إنَّ أغلب هذه الفرق تغلو في أئمة يعتقدون بهم بعد الحسين (علیه السلام) وإنْ كان كثير منهم لا يبلغ بهم درجة الخمسة، وهؤلاء منهم مسبعة واثنا عشرية.
ص: 382
فالمسبعة يضيفون الأئمة حتى الصادق وابنه إسماعيل إلى هؤلاء، ومنهم فريق من الإسماعيلية.
وفي هؤلاء من يلتزم بإمامة أئمة آخرين وهم باقي أئمة الاثني عشرية، أو غيرهم كأولاد إسماعيل - كما تعتقد فرقة من الإسماعيلية الغلاة - ولكنهم لا يرفعون الباقي إلى مصاف الأئمة السبعة.
والاثنا عشرية يجعلون باقي الأئمة الاثني عشر على حدّ أصحاب الكساء.
ويجمع كثير من الغلاة بين اعتبار امتياز للخمسة وبين اعتبار امتياز لباقي الأئمة السبعة، واعتبار امتياز أدنى لسائر الأئمة الذين يعتقدون بهم، ومن ثَمَّ يهتمون في آن واحد بعدد الخمسة والسبعة والاثني عشر.
فهذه الفرق كلها اهتمت بالرواية عن جابر وإسناد اعتقاداتهم إلى الأئمة (علیهم السلام) من طريقه، وهذا الاهتمام بطبيعة الحال كان تدريجياً يأخذ سيراً صعودياً إلى تدوين مجموعة كاملة تمثّل أفكار الغلاة، ثُمَّ يأخذ منحى نزولياً ويتوقف عند استقرار التراث الروائي للغلاة.
ويجد الباحث بتتبع ما روي عن جابر ما يناسب هذه الاعتقادات كلّها.
من الآثار التي تضاف إلى جابر كتاب عثر عليه المستشرقون الروس لدى الإسماعيلية في بعض البلاد الإسلامية جنوب روسيا وشمال أفغانستان، وفي الهند مع اختلاف في نسخها(1).
ص: 383
ص: 384
ص: 385
ص: 386
وكان الكتاب باللغة الفارسية، إلَّا أنَّ الظاهر أنَّ أصله كان عربياً لقرائن عديدة فيه مثل استخدام المصطلحات العربية، ويمثّل الكتاب مذهب المخمسة المغالين في النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأربعة من آل البيت (علیهم السلام) الذين جمعهم في الكساء، كما ذكر فيه تجليل أبي الخطّاب الغالي، ولا أثر فيه من ذكر سائر أئمة أهل البيت (علیهم السلام) بعد الباقر، ولا للغلاة بعد عصره - غير أبي الخطّاب الذي عاش في عصر الباقر والصادق (علیهما السلام) - ولا صلة واضحة له بالمذهب الإسماعيلي العامّ.
نعم، هناك طائفة غالية من الإسماعيلية، ولا يبعد أنَّها كانت دخيلة في حفظ آثار الغلاة في الأئمة الذين يعترفون بهم وأصحابهم، بل مشاركتهم في توليد مثل هذه الآثار وإنْ كان اقتباساً من آثار الغلاة اللاحقين من سائر الفرق الذين طوّروا النظريات الغالية في الأزمنة السابقة.
وممَّا ينبّه على ذلك خلو آثار الغلاة اللاحقين - المحفوظ بمقدار معتد به في تراث العلويين - عن أيّ نقل أو إشارة إلى هذا الكتاب. نعم، هناك مضامين متشابهة ومنهج متقارب بين هذا الكتاب وبين تلك الآثار، إلَّا أنَّ هذا المقدار لا يكفي في البناء على استمداد تلك الآثار من هذا الكتاب، بل الأقرب أنْ يكون هذا الكتاب نحو استمداد منها.
وعلى كل حال فإنَّ هذا الكتاب ليس من تراث العلويين (النصيرية)، وإنَّما يناسب عقائد المخمسة، لأنَّ العلويين وإنْ كانوا يحافظون على تميّز أصحاب الكساء بالنورانية الخاصة، إلَّا أنَّهم لا يجعلون الإمام علي (علیه السلام) منهم لرفعه إلى مصاف الإلوهية ويضيفون بدلاً عنه (المحسن) الولد السقط للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) .
وقد تضمن هذا الكتاب وفق تصنيف لمضامينه ثلاث عشرة فقرة نشير إلى ستة
ص: 387
منها:
1. تفسير البسملة، وجاء في بعضها: (فقام جابر الجعفي وقال: يا مولاي ما هو معنى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] المكتوبة في بداية سور القرآن والتي يقولها كل من يشرع بعمل ما والتي يعتبرها الكل عزيزة كريمة... فقال الباقر... فهي تعني تلك السبع والاثني عشر اللواتي جعلهن الملك تعالى جوارحه... يا جابر، إنَّ [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] على القرآن قصر، الباء والسين والميم والنقطة تحت الباء تعني أربعة ملائكة يسمون باللسان البشري سلمان والمقداد وأبا ذر وعمار...)(1).
2. وممَّا جاء فيه صفة الباري واقترانه بالأنوار الخمسة القديمة: (فقام جابر الجعفي ومسح بيده على وجهه وقال: يا مولاي، هل الخالق في السماء أم على الأرض؟ كيف هو ومن أيّ نوع؟ كيف وصفه وصفته وكيف وُجِدَ؟ مَنْ ماذا طلع وماذا خرج منه؟ فقال باقر العلم علينا منه السلام... فكتبه باقر العلم علينا منه السلام على لوح وسلّمه لجابر باليد. كتب أوَّلاً: مولانا وخالقنا جلَّ جلاله هو في السماء وعلى الأرض، وقبل أنْ يكون هناك سماء وأرض أو أي مخلوق موجوداً، كان هناك خمسة أنوار قديمة ذات خمسة ألوان كمثل قوس قزح يخرج من أشعتها شيء مثل شمس في الهواء ... هذه الأنوار الخمسة هي من يسميهم البشر محمَّداً وعلياً وفاطمة والحسن والحسين فهم خرجوا من اللاشيء)(2).
ص: 388
3. ناكرو النعوت الإلهية(1). (قال جابر الجعفي: يا مولاي، ما معنى أنَّ الخلائق المنكوسة تقول إنَّ الله لا يصف ذاته بصفة وليس له صفات؟ فأجاب باقر: يا جابر إنَّ هذه كلمة سخط الله، فالملك تعالى قريب ويسمى عن كثب؛ لأنَّه لم يقبل بعبادة إبليس اللعين ... فالملك تعالى هو تلك الروح التي في الإلوهية والنورانة الشمس التي أصلها من الله. مرتبط من ديوان إلى ديوان نور بنور نزولاً إلى مقعد دماغ المؤمنين الإلهي مثل حبل أو طريق...).
4. الديوانات (القبب) السماوية السبع: (ثُمَّ قال جعفر الجعفي: يا مولاي، إذا لم يبدُ لك الأمر صعباً جداً فأوضح واشرح لعبدك هذا صفة وشرح وعظمة الديوانات الإلوهية والأنوار التي تتوالى من ديوان إلى ديوان...)(2).
وجاء في الجواب ذكر ديوانات: ديوان بيضاء جوارحه الأسماء الخمسة. تحته ديوان غاية الغايات فيه الحجاب الياقوتي الأحمر، فيه مائة وأربعة وعشرون ألف ضوء بألوان مختلفة كمثل قوس قزح. وتحت هذا الحجاب حجاب آخر لونه لون النار، ويظهر فيه الشخوص الخمسة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وصورائيل، وظهرت الأنوار المائة وأربعة وعشرون ألف لمرة أخرى من الحجاب الياقوتي ... إلى آخر ما ذكره عن سائر الدواوين السبعة.
5. بداية الخلق، وتكبُّر عزرائيل: (فقام جابر بن عبد الله الأنصاري ودعا وقال: يا مولاي، كيف عمل الملك تعالى الخلق وهذه الديوانات والقصور؟ وممَّا خلق الأرواح؟ وما هو سبب الخلق؟ فقال باقر العلم علينا منه السلام: إنَّ خلق هذه الديوانات
ص: 389
صعب، وليس كل طالب يستطيع لهذا العلم سبيلاً، الأمان الأمان كم مستور هذا السرّ... - إلى أنْ جاء فيه - فقال عزرائيل: إنَّ مخلوقاتي أكثر عدداً من مخلوقاتك، لقد خلقت أرواحاً بعشر أضعاف ما خلقت أنت. كيف يمكنك أنْ تدعي الإلوهية؟..)(1).
6. المنازل الخمس تقرّ بالله خالقاً: (... وكان شيخ هذه المنازل سلمان... وأدركه مقداد الكبير وقال "نص عربي": أنا أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله. يعني "نص فارسي": أشهد أنَّك أنت الله وأنَّ هذا الذي حمد وسبح وسبق هو سلمان القدرة، وهو نبيك الذي سبق وجعل نداءك يصل إلى أذننا... فأدرك أبو ذر القدرة... ثُمَّ ردد أبو ذر هذه الكلمة عدة مرات: حي على الصلاة، اثنا عشر روحاً يسمون نقباء... فاتجهت ثمانية وعشرون روحاً (نجيب) طاهرة نقية إلى الملك تعالى... وأنَّ المنازل صارت ستاً: المنزلة الأولى سلمان، والمنزلة الثانية مقداد، والمنزلة الثالثة أبو ذر، والمنزلة الرابعة النقباء، والمنزلة الخامسة النجباء وكانت المنزلة السادسة هي منزلة المعترضين...)(2).
فهذه نماذج من الفقرات الست الأُوَل.
وفيما يلي عناوين سائر الفقرات الباقية:
7. عصيان عزرائيل وهبوطه(3).
8. ظهور الملك من جديد، هبوط الكافرين والعصاة(4).
ص: 390
9. خلق الأرض(1).
10. خلق الإنس والجن. العهد مع الله(2).
11. إغواء المرسلين. نشوء الأبدان(3).
12. شروط الخلاص من الأبدان(4).
13. أمُّ الكتاب خلاص العالم الأصغر(5).
هذا، ومن المحتمل جداً أنْ يكون ما ورد في هذا الكتاب من ذكر الديوانات (القبب) هو (رسالة القباب) لمحمَّد بن عبد الله بن مهران لما مرّ من الاهتمام بالقباب النورية فيها، وبناء سائر المعاني في الرسالة عليها(6).
ص: 391
ص: 392
ص: 393
ص: 394
هذا، وقد ظن بعض المستشرقين(1) أنَّ هذا الكتاب يمثّل في أصله حقيقة تاريخية تتصل بزمان جابر، وهي تتضمن سنخ الأفكار الواردة في الرسائل التي تنسب إلى المفضّل فيصلح أساساً لها.
ولكن الواقع أنَّه لا دليل تاريخي على تعلّق هذه الرسالة - ولو في أصلها الخالي عن الزيادات الطارئة عليها - بما يقرب من تلك الأزمنة، فضلاً عن أنْ يكون قد نشأ في ذلك الزمان، فإنَّ من المتعارف لدى الغلاة جعل قصص وأحاديث على لسان السابقين،
ص: 395
وأسلوب إنشاء هذه الرسالة يتعلّق بالقرن الثالث الهجري أو ما بعده، إذ النُسخ التي عثر عليها منها مؤرخة بتواريخ متأخرة جداً، كما مرّ بيان ذلك في الهامش آنفاً.
وهي رواية ينسب نقلها إلى أبي سعيد ميمون الطبراني (المولود حوالي 360 - 370ﻫ) حكاية عن جابر في زيارته للصادق (علیه السلام) يوم الأضحى وإسنادها: (حدَّثنا أبو علي البصري بشيراز في منزله بشارع البرامكة في ذي القعدة سنة 327ﻫ، قال: حدَّثني أبو المسيب سنان بن المسيب البازلي، قال: حدَّثني أبو جعفر محمَّد بن سليمان الطالقاني بطالقان سنة أربعين ومائتين، قال: حدَّثني ميثم بن الحارث القرشي بمكة في شعب أبي طالب، قال: حدَّثني إسماعيل بن سليمان العلّاف الكوفي، قال: حدَّثني ماهان الإبلي، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: غدوت يوم الأضحى إلى سيدي ومولاي جعفر بن محمَّد لأهنئه، فلما أَذِنَ لي دخلت عليه فوجدت عنده جميع من كان بالكوفة ممّن يتولاه بحقيقة المعرفة)(1).
وتتضمن هذه الرسالة:
إنَّ عيد الأضحى عيد ذبح الأعداء؛ لأنَّ الذبائح أشخاص خالفوا أوامر الله فاستحقوا الذبح. وجاء أنَّه يقول الذابح إشارة إلى الحيوان: (اللهم إنَّ هذا شخص عَنَدَ عنك وخالف أمرك وجحد ذاتك... وقد تقربت به إليك كما أمرت وقدمته ليكون لي عندك حين اذبحه... وأذيقه بذلك عذابك بيدي...).
ص: 396
ثُمَّ جاء أنَّ الإمام (علیه السلام) أعطى جابراً ومن معه شفرات وأمرهم أنْ يدخلوا المخدع كان فيه شياه، لكن كل واحد استخرج منه شاة فأمرهم بذبحها مع تكرار المضمون السابق. ثُمَّ أعلمهم أنَّ ما ذبحوه شهود الزور يوم الحوأب مع ذكر أسمائهم وأسماء قبائلهم(1).
وذكر أنَّه جرى لأمير المؤمنين (علیه السلام) مع أصحابه مثل ذلك فذكر نعوت الممسوخين: وهم المجذوم، والموضح بالبرص، والأرقط بسواد... إلى آخر أربعين نعتاً من الأجناس الترك والزنج... إلى آخر ستة عشر جنساً، ومن الصنائع البيطار والقصاب والشروطي إلى آخر أربعة عشر صنفاً، فاكتمل السبعون إلى آخر ما جاء في الرسالة(2).
ذكر محمَّد بن علي الجلي (ت 346 ﻫ) - من تلاميذ الخصيبي وخليفته حسبما قيل - في كتاب حاوي الأسرار فقرة منه قال: (وعن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر وأبي عبد الله وقد سئل عن الكرسي والقلب ووصف الخلق، وهو كتاب مترجم بكتاب الكرسي والقلب اختصرت منه موضع الحاجة إليه، فقال: خلق أركانه أربعة: علم، وقدرة، ومشيئة، وإرادة، وأسكن فيها الأرواح الأربعة: روح القدس، وروح الأمين، وروح ذي المعارج، وروح الأمر... - إلى أنْ قال: ثُمَّ قال في تفسير النفحة الأولى: سبع طرائق وسبعة صفوف، فالطريق الأوَّل: النور، والثاني: الهواء، والثالث: الظلمة، والرابع: البحار، والخامس: الريح، والسادس: الماء، والسابع: النفحة، وكل صف قام
ص: 397
في يوم حتى تمت الصفوف. فالصف الأوَّل: الملائكة. والصف الثاني: الرسل. والصف الثالث: الأنبياء. والصف الرابع: المؤمنون. والصف الخامس: الكفار. والصف السادس: الفراعنة. والصف السابع: الأبالسة والطواغيت ... إلى آخر ما ذكر(1).
قال: (حدَّثني أبو الحسين محمَّد بن يحيى، قال: حدَّثني أبو عبد الله بن زيد، عن الحسين بن موسى، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمَّد الصادق، عن محمَّد بن علي الباقر (علیهما السلام)، قال أبو جعفر لجابر بن يزيد الجعفي: يا جابر إنَّ نفراً من شيعتنا...)(2).
وجاء في مضمون الخبر: إنَّ أصحاب العقبة هم أشد لعنة وكفراً وجحداً ونفاقاً لله ولرسوله منذ الذر الأول. وأيضاً جاء فيه: بأنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ركب ناقته العضباء في ليلة شديدة الظلمة فتآمر الاثنا عشر على تنفير ناقته وقتله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقال ضليلهم وإبليسهم زفر: إنَّ هذا أوان قتله، لأنَّ هذه العقبة صعبة ولا يرقى فيها الناس إلَّا واحداً بعد واحد لضيق المسلك. ومن ثَمَّ يدحرجون الدباب على وجه الناقة فتنفر ويسقط منها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ويُقتل. فلمّا وصلوا إلى العقبة استأذنوا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنْ يتقدموه ليقوه فتقدم عمر وتلاه أبو بكر وطلحة والزبير وتلاهم سعد بن أبي وقاص وتلاه أبو عبيد بن الجراح وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وأبو موسى وصاروا في ذروة العقبة. فلمّا
ص: 398
أحسوا بالناقة في ثلثي العقبة دحرجوا الدباب في وجهها فنزلت ولها دوي كدوي الرعد فنفرت الناقة. فأسرع أمير المؤمنين (علیه السلام) وكان يتلوه من ورائه في الطريق وتلقته الدباب فأقبل يأخذها برجله فيطحنها واحدة بعد واحدة. وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد نزل عن الناقة في وقت نفورها وأخذ جبرائيل زمام الناقة في العقبة في أغصان دوحة كانت بجانب المسلك في العقبة وسمع للناقة صريخ، والشجرة تنادي: يا رسول الله قد عقد خطام ناقتك في أغصاني. فسأل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن هذه الدوحة؟ فقال له جبرائيل: إنَّ هذه الشجرة قد ولد تحتها أبوك إبراهيم الخليل وهي شجرة الأثل. ثُمَّ اختار رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) سبعين رجلاً من أصحابه، واختار من السبعين اثني عشر نقيباً بعدد أصحاب الدباب. والنقباء هم: أبو الهيثم مالك بن التيهان الأشهلي الأنصاري، والبراء بن مغرور الأنصاري، والمنذر بن لوذان، ورافع بن مالك الأنصاري، وأسيد بن حضير، والعباس ابن عبادة بن نضلة الأنصاري، وعبادة بن الصامت النوفلي، وعبد الله بن عمر بن حزام الأنصاري، وسالم بن عمير الخزرجي، وأُبي بن كعب، ورافع بن ورقا، وبلال بن رياح الشنوي. وأعطى حذيفة بن اليمان علم المنايا والبلايا. وأيضاً أعطى (صلی الله علیه و آله و سلم) باقي السبعين شيئاً من فضله.
والعلّامة المجلسي في البحار في باب نادر وهو حديث مطوّل في حجم رسالة، وذكر أنَّه وجده في كتاب عتيق لبعض محدثي أصحابنا، وورد أيضاً مرفوعاً في عيون المعجزات للشيخ حسين بن عبد الوهاب - المعاصر للسيد المرتضى - الذي عاش في القرن الخامس، وقد رواه بقوله: (رواه لي الشيخ أبو محمَّد ابن الحسن بن محمَّد بن نصر يرفع الحديث برجاله إلى محمَّد بن جعفر البرسي مرفوعاً إلى جابر) وهو تقريباً نفس إسناد
ص: 399
الطبري(1)، وقد ذكر العلّامة المجلسي أنَّ هذا الكتاب ينسب إلى السيد المرتضى!!(2).
وقد حقّقنا هذا الخبر في الحلقة الأولى، وأنَّه من وضع الغلاة فلا نعيد.
والواقع أنَّه لا وثوق بشيء ممَّا روي عن جابر من مذاهب الغلاة، فإنَّه ليس للغلاة إسناد حقيقي تاريخي، ولكنَّها انتحال للشخصيات المناسبة ليمثّل ذلك عمقاً تاريخياً للمذهب بما يدفع الشبهة عنه من جهة. وسبيلاً إلى إسناد الأفكار إلى الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام) من جهة أخرى.
هذا، وقد وردت الأخبار - وبعضه يمكن تصحيحه على بعض المباني - عن جابر بما ينفي عنه الغلوّ، مؤيداً بأخبار من طرق الغلاة والضعفاء أنفسهم.
فممَّا ورد عن جابر في التوحيد ما رواه الكليني عن العدة، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمَّد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن الحسن بن السري، عن جابر ابن يزيد الجعفي قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن شيء من التوحيد، فقال: ((إِنَّ اللَّه تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُه الَّتِي يُدْعَا بِهَا وتَعَالَى فِي عُلُوِّ كُنْهِه وَاحِدٌ تَوَحَّدَ بِالتَّوْحِيدِ فِي تَوَحُّدِه، ثُمَّ أَجْرَاه عَلَى خَلْقِه فَهُوَ وَاحِدٌ صَمَدٌ قُدُّوسٌ يَعْبُدُه كُلُّ شَيْءٍ ويَصْمُدُ إِلَيْه كُلُّ شَيْءٍ ووَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً))(3).
وممَّا ورد عن جابر في نفي الغلوّ في الأئمة (علیهم السلام) ما رواه الصفار (ت 290ﻫ) عن أحمد بن محمَّد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي، عن جابر قال أبو جعفر (علیه السلام):
ص: 400
((يا جابر والله لو كنّا نحدِّث الناس أو حدَّثناهم برأينا لكنَّا من الهالكين، ولكنَّا نحدِّثهم بآثار عندنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يتوارثها كابر عن كابر نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم))(1).
وممَّا ورد عن جابر في المعاد ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمَّد ابن يحيى، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، و عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد جميعاً، عن الحسن بن محبوب، عن يعقوب السراج، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: ((... فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى: شَرَعَ الإِسْلَامَ... فَالإِيمَانُ مِنْهَاجُه والصَّالِحَاتُ مَنَارُه والْفِقْه مَصَابِيحُه والدُّنْيَا مِضْمَارُه والْمَوْتُ غَايَتُه والْقِيَامَةُ حَلْبَتُه والْجَنَّةُ سُبْقَتُه والنَّارُ نَقِمَتُه والتَّقْوَى عُدَّتُه والْمُحْسِنُونَ فُرْسَانُه، فَبِالإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ وبِالصَّالِحَاتِ يُعْمَرُ الْفِقْه وبِالْفِقْه يُرْهَبُ الْمَوْتُ وبِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا وبِالدُّنْيَا تَجُوزُ الْقِيَامَةَ، وبِالْقِيَامَةِ تُزْلَفُ الْجَنَّةُ، والْجَنَّةُ حَسْرَةُ أَهْلِ النَّارِ والنَّارُ مَوْعِظَةُ الْمُتَّقِينَ، والتَّقْوَى سِنْخُ الإِيمَانِ))(2).
وأيضاً ورد عنه بنفس الإسناد السابق في باب صفة الإيمان عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) قَالَ: ((سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) عَنِ الإِيمَانِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ جَعَلَ الإِيمَانَ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ عَلَى الصَّبْرِ والْيَقِينِ والْعَدْلِ والْجِهَادِ: فَالصَّبْرُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى الشَّوْقِ والإِشْفَاقِ والزُّهْدِ والتَّرَقُّبِ، فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَلَا عَنِ الشَّهَوَاتِ، ومَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ رَجَعَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، ومَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْه الْمُصِيبَاتُ، ومَنْ
ص: 401
رَاقَبَ الْمَوْتَ سَارَعَ إِلَى الْخَيْرَاتِ))(1).
وممَّا ورد عن جابر في الورع ما رواه الكليني عن أبي علي الأشعري، عن محمَّد بن سالم، وأحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، جميعاً عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قَالَ لِي: يَا جَابِرُ أيَكْتَفِي مَنِ انْتَحَلَ التَّشَيُّعَ أَنْ يَقُولَ بِحُبِّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ! فَوَ اللَّه مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّه وأَطَاعَه، ومَا كَانُوا يُعْرَفُونَ يَا جَابِرُ إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ والتَّخَشُّعِ والأَمَانَةِ وكَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّه والصَّوْمِ والصَّلَاةِ والْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ والتَّعَاهُدِ لِلْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وأَهْلِ الْمَسْكَنَةِ والْغَارِمِينَ والأَيْتَامِ وصِدْقِ الْحَدِيثِ وتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وكَفِّ الأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ وكَانُوا أُمَنَاءَ عَشَائِرِهِمْ فِي الأَشْيَاءِ. قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه مَا نَعْرِفُ الْيَوْمَ أَحَداً بِهَذِه الصِّفَةِ! فَقَالَ: يَا جَابِرُ لَا تَذْهَبَنَّ بِكَ الْمَذَاهِبُ حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ أُحِبُّ عَلِيّاً وأَتَوَلَّاه ثُمَّ لَا يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ فَعَّالاً فَلَوْ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللَّه، فَرَسُولُ اللَّه (صلی الله علیه و آله و سلم) خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ (علیه السلام) ثُمَّ لَا يَتَّبِعُ سِيرَتَه ولَا يَعْمَلُ بِسُنَّتِه مَا نَفَعَه حُبُّه إِيَّاه شَيْئاً فَاتَّقُوا اللَّه واعْمَلُوا))(2).
هذا تمام الكلام في المقام الأوَّل الذي عقدناه حول شخصية التابعي المشهور جابر ابن يزيد الجعفي.
ص: 402
يعدّ جابر بن يزيد الجعفي من مشاهير علماء الكوفة، قال الذهبي في تاريخه: (جابر ابن يزيد الجعفي الكوفي أحد أوعية العلم)(1)، وعن عبد الرحمن بن شريك بن عبد الله أنَّه كان يقول: عند أبي عشرة آلاف مسألة عن جابر الجعفي(2)، وعن شعبة قال: رأيت زكريا بن أبي زائدة يزاحمنا عند جابر فقال لي الثوري: نحن شباب، هذا الشيخ ما يزاحمنا هاهنا(3).
وربَّما يجعل جابر أحد أربعة انتهى علم الأئمة (علیهم السلام) إليهم، كما جاء ذلك فيما حكاه الكشي في ترجمة يونس: (وجدت بخط محمَّد بن شاذان بن نُعَيم(4) في كتابه، سمعت أبا محمَّد القماص الحسن بن علوية الثقة(5)، يقول: سمعت الفضل بن شاذان، يقول: حجَّ يونس بن عبد الرحمن أربعاً وخمسين حجّة، واعتمر أربعاً وخمسين عمرة، وألّفَ ألف جلد رداً على المخالفين، ويقال: انتهى علم الأئمة (علیهم السلام) إلى أربعة نفر: أوَّلهم سلمان
ص: 403
الفارسي، والثاني جابر، والثالث السيّد، والرابع يونس بن عبد الرحمن)(1).
والمتراءى من هذا الكلام بدواً أنَّ قوله: (ويقال) من كلام الفضل، كما حكي عنه أنَّه قال: (ما نشأ رجل من سائر الناس كان أفقه من سلمان الفارسي، ولا نشأ رجل بعده أفقه من يونس بن عبد الرحمن (رحمة الله) )(2)، ولكن على تقدير ظهور الكلام في ذلك فالفضل إنَّما حكى هذا القول ولم ينفه. ففي حكايته له ما يدل على أنَّه لم يره موهوناً.
إلَّا أنَّ في ثبوت هذا القول عن الفضل نظراً من جهة الإسناد، فإنَّه لا توثيق لابن شاذان، كما أنَّه لا مأخذ لاعتبار توثيقه لابن علوية.
يضاف إلى ذلك بعض الوهن في مضمون هذا القول؛ إذ أنَّه جعل في ضمن الأربعة (السيّد) والمقصود به ظاهراً (السيّد الحميري)، والمعروف عنه أنَّه شاعر، ولم يعرف بالعلم كالثلاثة الباقين.
قال المحدِّث النوري في (نَفَس الرحمن) - بعد أنْ ذكر أنَّ المراد بالسيّد هو الحميري -: (غير أنَّه لم يكن له هذا المقام الشريف، بل كان في عصره جماعة لولاهم لاندرست آثار النبوة كزرارة وبُريد وأبي بصير ومحمَّد بن مسلم وغيرهم، ممَّن لا يرتضي أحد عدّ السيّد في عدادهم، فكيف يعدّ مع مَنْ انتهت علوم الأئمة إليهم! والله العالم بمراد الفضل. نعم، لم يعهد من أحد من أصحاب الأئمة أنَّه انتشر فضائل علي وأهل بيته (علیهم السلام) كما انتشره السيّد بما قال فيهم من الشعر)(3).
ص: 404
قلت: وقد يجعل ذكر السيّد قرينة على أنَّ المراد بذكر الأربعة إنَّما هو بالنظر إلى مجالات مختلفة من العلم وليس إلى العلوم بقول مطلق، إذ لم يعرف عن يونس أيضاً إلَّا الكلام والحديث والفقه دون ما اشتهر به سلمان وجابر، فيراد الإشارة إلى علم الحميري بفضائل أمير المؤمنين (علیه السلام)، والله أعلم.
وأيّاً كان: فلا ينحصر مجال علم (جابر) بحقل خاص كالحديث، بل الظاهر أنَّه كان عالماً في مجالات عديدة من الحديث والفقه والكلام والأخلاق والتاريخ والتفسير، ويعبّر عن ذلك ملاحظة كتب جابر وجملة ممَّا حكي عنه في بطون كتب الحديث والتاريخ والتفسير وغيرها.
وقد ألّف جابر كتباً عديدة ذكرها أصحاب الفهارس من الإمامية كالشيخ الطوسي والنجاشي، وكانت تحتوي عليها أو على بعضها مكتبات علماء الإمامية في العصر الأوَّل، وقد ذكر أبو غالب الزراري (ت 368ﻫ) في رسالته إلى حفيده في جملة ما عدّه من مكتبته: (كتاب جابر الجعفي)(1).
وقد يتوقع أنْ يكون علماء الجمهور الأوَّلين قد اهتموا أيضاً بكتبه واعتمدوا عليها حيث نقلوا عنه روايات كثيرة، إلَّا أنَّ تنامي حركة تضعيف الرجل وظهور مذهبه الإمامي أدّى إلى تركهم لكتبه وآثاره تدريجاً عدا ما نقل عنه في مطاوي كتب الطبقات الأولى.
هذا، والذي يظهر أنَّ لجابر كتباً ألّفها في كلتا مرحلتي حياته، لكن كتبه الحديثية والتفسيرية التي تتعلق بالمرحلة الثانية من حياته - والتي اعتقد فيها بإمامة أئمة أهل البيت (علیهم السلام) - لم يكن يبديها ويحدِّث بها في الوسط العامّي.
ص: 405
وأيّاً كان فقد اهتم أصحاب الفهارس من الإمامية بذكر كتبه، وقد اقتصر الشيخ على ذكر كتابين له: التفسير، والأصل، قال ما لفظه: (جابر بن يزيد الجعفي. له أصل.. وله كتاب التفسير..)(1).
وزاد النجاشي مؤلفات أخرى تاريخية، فقال: (له كتب، منها: التفسير.. وله كتاب النوادر.. وله كتاب الفضائل.. وكتاب الجمل، وكتاب صفين، وكتاب النهروان، وكتاب مقتل أمير المؤمنين (علیه السلام)، وكتاب مقتل الحسين (علیه السلام) ... وتضاف إليه رسالة أبي جعفر إلى أهل البصرة، وغيرها من الأحاديث والكتب، وذلك موضوع، والله أعلم)(2).
ويظهر أنَّ تفسير جابر وأصله هما أشهر كتب جابر لدى المحدِّثين، إذ لم يكن لجلّ أهل الحديث عناية بالتاريخ، وكأنَّه لذلك اقتصر على ذكرهما بعض أصحاب الفهارس كالشيخ في الفهرست ومصادره.
وعلى الرغم من أنَّ شيئاً من كتب جابر لم يصل إلينا بعينه، إلَّا أنَّه يمكن عدّ ما نقل عنه في تضاعيف كتب الحديث والتفسير والتاريخ جزءا محتملاً ممَّا ورد في كتبه.
هذا، ويمكن تقسيم مجالات علوم جابر وكتبه إلى ثلاثة أقسام: الحديث، والتفسير (علوم القرآن)، والتاريخ.
قد عرف جابر عند العامّة بأنَّه من كبار محدثي الكوفة، وعنده أحاديث كثيرة جداً، وقد ذكر هو (رحمة الله) عن نفسه - كما نقلت مصادر العامّة - بأنَّ الإمام الباقر (علیه السلام) حدَّثه بخمسين
ص: 406
ألف حديث، أو أنَّه عنده خمسون ألف باب من العلم، فمن كلمات العامّة..
1. عن عبد الرحمن بن مهدي (ت 198ﻫ): (ألا تعجبون من سفيان بن عيينة، لقد تركت جابر الجعفي لقوله لمّا حكى عنه أكثر من ألف حديث، ثُمَّ هو يحدِّث عنه)(1).
2. قال الترمذي: (سمعت الجارود يقول: سمعت وكيعاً يقول: لولا جابر الجعفي لكان أهل الكوفة بغير حديث)(2).
3. عن عبد الرحمن بن شريك بن عبد الله أنَّه كان يقول: (عند أبي عشرة آلاف مسألة عن جابر الجعفي)(3).
4. عن سلام بن أبي مطيع قال: (قال لي جابر الجعفي: عندي خمسون ألف باب من العلم ما حدَّثت به أحداً)(4).
5. عن زهير سمعت جابر بن يزيد يقول: (عندي خمسون ألف حديث ما حدَّثت فيها بحديث. فحدَّثنا يوماً بحديث فقال هذا من الخمسين ألف)(5).
6. عن أبي يحيى الحماني قال: (سمعت أبا حنيفة يقول... وزعم أنَّ عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) لم يظهرها)(6).
7. عن عثمان بن سعيد بن مرّة قال: سمعت زهير أبا خيثمة قال: (كنّا جلوساً عند
ص: 407
جابر الجعفي فأقبل سفيان الثوري فقال لنا جابر: زعم أنَّ سعيد بن مسروق هذا أنَّه سمع مني عشرة آلاف حديث)(1).
8. ذكر الذهبي (ت748ﻫ) في كتابه (العِبر في خبر من غبر) في ذكر حوادث (سنة 128ﻫ): (وفيها توفي جابر بن يزيد الجعفي من كبار المحدِّثين بالكوفة)(2).
ومن طرقنا ورد أنَّ الإمام الباقر (علیه السلام) حدَّثه بسبعين ألف حديث..
فقد روى الكشي عن جبريل بن أحمد، عن محمَّد بن عيسى، عن إسماعيل بن مهران عن أبي جميلة المفضل بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: (حدَّثني أبو جعفر (علیه السلام) بسبعين ألف حديث لم أحدِّث بها أحداً قط، ولا أحدِّث بها أحداً أبداً...)(3).
لجابر في الحديث كتابان أو ثلاثة وهي: الأصل والنوادر والفضائل.
الظاهر أنَّ أصل جابر ألّفه في المرحلة الثانية من حياته، وقد رواه الشيخ عن طريق المفضل بن صالح الجعفي، بقوله: (أخبرنا به ابن أبي جيد، عن ابن الوليد، عن الصفار، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن المفضل بن صالح، عنه)(4).
ويتوقع أنْ تكون أحاديث جابر في الفقه والمذكورة في الكتب الأربعة وغيرها
ص: 408
مأخوذة من أصل جابر، وكذا بعض أحاديثه الأُخر ممَّا كان حول مكانة الأئمة (علیهم السلام) أو التفسير، إذ لم يذكر اختصاص أصله بالفقه.
ويمكن أنْ نعتبر ما جاء في أصل جعفر بن محمَّد بن شريح الحضرمي(1) (ت ق 2) قطعة من أصل جابر فقد نقل فيه عن جابر بن يزيد الجعفي ثلاثاً وثمانين رواية متسلسلة - من ص:60 إلى 74(2)- ما عدا روايتين وقعت في ضمنها - ص:67 - وهي رواية لمحمَّد ابن شريح عن الإمام الصادق (علیه السلام)، والأخرى عن عبد الله بن السري عن الرضا (علیه السلام) .
وأما النوادر فقد رواها النجاشي قائلاً: (أخبرنا أحمد بن محمَّد الجندي قال: حدَّثنا محمَّد بن همّام قال: حدَّثنا جعفر بن محمَّد بن مالك قال: حدَّثنا القاسم بن الربيع الصحّاف قال: حدَّثنا محمَّد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن المنخل بن جميل، عن جابر به).
وهل الأصل والنوادر كتابان أو يمكن أنْ يراد بهما كتاب واحد؟ وجهان: بنى على الثاني بعض أساتذتنا (دامت بركاته) في فقهه(3).
وهذا الأمر يتفق الابتلاء به كثيراً، فإنَّه كثير ما يذكر النجاشي للراوي كتاباً بعنوان الأصل والشيخ يذكره بعنوان النوادر، وقد يتفق العكس، وقد يلتقيان في التعبير.
ص: 409
ولكن في النفس من اتحادهما شيء، إذ يشهد على التمييز بين النوادر والأصل اختلاف تعبير النجاشي والشيخ باختلاف الموارد، فمثلاً النجاشي:
تارة: يعبّر بأنَّ لفلان كتاب نوادر كما في الحسن بن متيل، والحسين بن ثوير، والحسن بن موثق(1).
وأخرى: يذكر للمترجم له كتباً في الفقه ويضيف بأنَّ له كتاب نوادر، كما في جعفر ابن بشير البجلي، وجعفر بن محمَّد بن جعفر بن قولويه، وحميد بن زياد، وحريز بن عبد الله وغيرهم(2).
وثالثة: يقيّد النوادر بأنَّها في الفقه، كما في الحسين بن عبيد الله الغضائري(3)، أو في باب منه كما في سلمة بن الخطاب حيث ذكر بأنَّ له كتاب نوادر.. وكتاب نوادر الصلاة(4)، أو يقول كتاب الإملاء نوادر كما في علي بن الحسين بن بابويه(5)، أو يقول كتاب نوادر علم القرآن كما في محمَّد بن أحمد الحارثي(6).
ورابعة: يعبّر بأنَّ له أصلاً، كما في الحسن بن أيوب، وأيوب بن الحرّ الجعفي، وآدم ابن المتوكل، وأديم بن الحرّ الجعفي(7)، وذكر في ترجمة جميل بن دراج بأنَّ له كتاباً اشترك
ص: 410
هو ومحمَّد بن حمران فيه ثُمَّ قال ورواه.. إلى أنْ قال: عن يوسف بن يعقوب الجعفي من كتابه وأصله.. (1).
وخامسة: يذكر العلمان في بعض الموارد أنَّه يراد بالنوادر الأصل، فقد ذكر النجاشي في (مروك بن عبيد بن سالم) أنَّه: (قال أصحابنا القميون: نوادره أصل)(2). وذكر الشيخ في ترجمة (أحمد بن الحسين بن سعيد بن عثمان القرشي، أبو عبد الله. له كتاب النوادر، ومن أصحابنا من عدّه من جملة الأصول)(3).
هذا، ومجرد اقتصار أحد العلمين على ذكر الأصل والآخر على ذكر النوادر لا يقتضي وحدة المراد بهما، فإنَّ من قارن بين ما ذكره النجاشي والشيخ يجد اختلاف النسبة فيما يذكرانه، فقد تكون النسبة التساوي، وقد تكون العموم والخصوص المطلق، أو من وجه، وقد تكون التباين.
بيان ذلك: أنَّه بتتبع فهرستي العلمين وجدنا أنَّ النسبة قد تكون التساوي بأنَّ لكل منهم كتاباً: كما في آدم بن إسحاق بن آدم الأشعري القمي، وإبراهيم بن قتيبة، وإبراهيم ابن نصر بن القعقاع الجعفي، وإبراهيم بن حمّاد، وإبراهيم بن محمَّد الأشعري.
أو بأنْ يكون لكل منهم كتاب نوادر وكتب أخرى: كما في إبراهيم بن هاشم، وإبراهيم بن سليمان بن عبيد الله النهمي، وإبراهيم بن إسحاق الأحمري النهاوندي.
أو بأنْ يكون له مجموعة كتب كثيرة كما في إبراهيم بن محمَّد بن سعيد الثقفي.
أو يكون له عنوان واحد فقط كما في (أحمد بن عبدوس الخلنجي) حيث ذكر كلا
ص: 411
العلمين بأنَّ له كتاب النوادر.
وقد تكون النسبة العموم والخصوص المطلق كما في (أبان بن عثمان الأحمر) حيث ذكر النجاشي والشيخ بأنَّ له كتاباً يجمع المبتدأ والمغازي والوفاة والردة، وزاد الشيخ بأنَّ له أصلاً.
وقد تكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، كما في مورد البحث (جابر بن يزيد الجعفي) حيث ذكر كلا العلمين بأنَّ له كتاب التفسير وذكر النجاشي بأنَّ له كتاب النوادر بالإضافة إلى كتب أخرى، وذكر الشيخ بأنَّ له أصلاً.وقد تكون النسبة بينهما هي التباين كما في (إبراهيم بن أبي بكر محمَّد بن أبي السمّال)، حيث ذكر النجاشي بأنَّ له كتاب نوادر، وذكر الشيخ بأنَّ له كتاباً - بناءً على أنَّ المفهوم من الكتاب يغاير النوادر - وطريقهما إليهما مختلف في جميع الطبقات.
وعليه فالبناء على الاتحاد بين النوادر والأصل لا يخلو من شيء، والله العالم.
نعم، قد يكون هناك تداخل في جملة من الموارد.
هذا، والمتوقع أنْ يحتوي أصل جابر على أحاديث متنوعة قد يكون جلّها فقهية.
وقد بنى بعض الباحثين على تفاوت الأصل والنوادر، وفسّر النوادر بالروايات النادرة حسب المفهوم اللغوي، وذكر أمثلة لما ورد، منها(1).
ولكن الظاهر بتتبع ما يحكى عن كتب النوادر أنَّها ليست بمعنى الأحاديث النادرة والطريفة، بل بعضها ربَّما كان من الجوامع أو شبهها كنوادر محمَّد بن أبي عمير، ونوادر
ص: 412
أحمد بن محمَّد بن عيسى، ونوادر محمَّد بن علي بن محبوب، وغير ذلك على ما يظهر بالتتبع.
قد ذكر النجاشي لجابر كتاب الفضائل، وهو ما ذكره بقوله: (أخبرنا أحمد بن محمَّد ابن هارون، عن أحمد بن محمَّد بن سعيد، عن محمَّد بن أحمد بن الحسن القطواني، عن عبّاد بن ثابت، عن عمرو بن شمر، عن جابر به)(1).
هذا، ومن القريب أنْ يكون هذا الكتاب حول فضائل الأئمة (علیهم السلام) ومقاماتهم، وبذلك يكون أحد مصادر الكتب التي ألّفها أصحابنا حول الفضائل والمناقب والدلائل والإمامة ونحوها من العناوين المذكورة في الفهارس.
وعليه يتوقع أنْ يكون ما جاء في مثل هذه المصادر قطعة من كتاب الفضائل لجابر.
أ. ما أخرجه محمَّد بن الحسن الصفار (ت 290ﻫ) في بصائر الدرجات - التي هي في فضائل الأئمة ومقاماتهم - عن جابر الجعفي واحد وستون رواية، وستظهر مضامينها ممَّا نذكره عمّا نقله الكليني في مقام آخر.
ب. ما أخرجه الكليني (ت 329ﻫ) في كتاب الحجّة من الكافي وهي تبلغ ثلاثين رواية، وقد اقتفى في إيرادها أثر الصفار كما يُعلم بالمقارنة.
وقد أخرج الكليني في الروضة أيضاً أحاديث حول فضائل أهل البيت (علیهم السلام) منها ما رواه عن العدة، عن سهل بن زياد، عن محمَّد بن سنان، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قال: ((يا جابر إذا كان يوم القيامة جمع الله عزَّ وجلَّ
ص: 413
الأوَّلين والآخرين لفصل الخطاب دعي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ودعي أمير المؤمنين (علیه السلام) فيكسا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حُلّة خضراء تضيء ما بين المشرق والمغرب، ويكسا علي (علیه السلام) مثلها، ويكسا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حُلّة وردية يضيء لها ما بين المشرق والمغرب، ويكسا علي (علیه السلام) مثلها ثُمَّ يصعدان عندها، ثُمَّ يدعى بنا فيُدفع إلينا حساب الناس فنحن والله ندخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ، ثُمَّ يدعى بالنبيين (علیهم السلام) فيقامون صفين عند عرش الله عزَّ وجلَّ حتى نفرغ من حساب الناس، فإذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ بعث ربّ العزة علياً (علیه السلام) فأنزلهم منازلهم من الجنة وزوّجهم، فعلي والله الذي يزوج أهل الجنة في الجنة وما ذاك إلى أحد غيره، كرامة من الله عزَّ ذكره وفضلاً فضّله الله به ومَنَّ به عليه، وهو والله يدخل أهل النارِ النارَ، وهو الذي يغلق على أهل الجنة إذا دخلوا فيها أبوابها، لأنَّ أبواب الجنة إليه وأبواب النار إليه))(1).
ج. كتاب مناقب أمير المؤمنين (علیه السلام) لمحمَّد بن سليمان الكوفي (ت 300ﻫ) - وهو من أعلام الزيدية وكان قاضي الهادي الزيدي(2) - فقد أخرج عن جابر أربع عشرة رواية(3)، ويحتمل أنْ يكون مصدرها كتابه في الفضائل.
ص: 414
د. بشارة المصطفى لمحمَّد بن أبي القاسم الطبري (ت 525 ﻫ) فإنَّه قد روى عن جابر أحاديث يحتمل أنْ تكون مروية عن كتابه في الفضائل(1).
ﻫ. وهناك أحاديث حكيت عن جابر في فضائل أهل البيت (علیهم السلام) في مصادر أخرى.
منها: ما رواه القاضي نعمان المصري (ت363ﻫ) في شرح الأخبار عن سهل بن أحمد الدينوري معنعناً عن أبي عبد الله جعفر بن محمَّد (علیه السلام) قال: ((قال جابر لأبي جعفر (علیه السلام): جعلت فداك يا بن رسول الله حدَّثني بحديث في فضل جدتك فاطمة إذا أنا حدَّثت به الشيعة فرحوا بذلك. قال أبو جعفر (علیه السلام): حدَّثني أبي، عن جدي، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال...))الحديث(2).
وقد نقل نصّه فرات الكوفي (ت352ﻫ) في تفسيره بنفس الإسناد، قال: حدَّثنا سهل بن أحمد الدينوري معنعناً... ((عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: إذا كان يوم القيامة نصب للأنبياء والرسل منابر من نور فيكون منبري أعلى منابرهم يوم القيامة... ثُمَّ ينادي المنادي [أ: مناد] وهو جبرئيل (علیه السلام): أين فاطمة بنت محمَّد؟ أين خديجة بنت خويلد؟ أين مريم بنت عمران؟ أين آسية بنت مزاحم؟ أين أم كلثوم أم يحيى بن زكريا؟..)) إلى آخر الحديث(3).
ص: 415
و. ومنها: ما رواه السيد المرعشي في شرح إحقاق الحقّ من حديث الكساء بقوله: (قال الشيخ عبد الله البحراني صاحب العوالم رأيت بخط الشيخ الجليل السيد هاشم البحراني عن شيخه الجليل السيد ماجد البحراني عن الشيخ الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني عن شيخه المقدس الأردبيلي..) ثُمَّ يذكر السند متصلاً بجابر بن يزيد الجعفي عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: (سمعت فاطمة الزهراء (عليها سلام الله)[بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) خ ل] أنَّها قالت دخل عليّ أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في بعض الأيام فقال: السلام عليك يا فاطمة، فقلت: وعليك السلام يا أبتاه، فقال: إنَّي لأجد في بدني ضعفاً..)(1). وتقدم الحديث عن رواية جابر الجعفي عن جابر الأنصاري بلا واسطة فلا نعيد.
وربما يحتمل أنْ يكون كتاب جابر في الفضائل محتوياً - مضافاً إلى فضائل أهل البيت (علیهم السلام) - على فضائل أمور أخرى مثل فضائل بعض السور وفضائل بعض الأشهر والأيام وفضائل بعض الأوقات وفضائل زيارة الأئمة (علیهم السلام) وخصوصاً زيارة الإمام
ص: 416
الحسين (علیه السلام) وغير ذلك ممّا هو مبثوث في الكتب ككتب الصدوق والمفيد والشيخ الطوسي وغيرها(1).
وتتمثل عناية جابر بهذا الموضوع من جهات:
فمن جهة من خلال رواياته التفسيرية للآيات المرتبطة بذلك.
ومن جهة أخرى: أنَّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) قد ألقى في الكوفة على المسلمين خطباً توحيدية كثيرة في وصف الله سبحانه وتعالى وعظمته، وكان جابر المعني بآثار الإمام (علیه السلام) بطبيعة الحال له حظّ من روايتها.
ومن أبرز ما روي عنه خطبة الوسيلة التي خطبها أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد وفاة
ص: 417
رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بسبعة أيام، وممَّا جاء فيها: ((الحمد لله الذي منع الأوهام أنْ تنال إلَّا وجوده وحجب العقول أنْ تتخيل ذاته لامتناعها من الشبه والتشاكل، بل هو الذي لا يتفاوت في ذاته ولا يتبعّض بتجزئة العدد في كماله، فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن ويكون فيها لا على وجه الممازجة، وعلمها لا بأداة، لا يكون العلم إلَّا بها وليس بينه وبين معلومه علم غيره به كان عالماً بمعلومه، إنْ قيل: كان، فعلى تأويل أزلية الوجود، وإنْ قيل: لم يزل، فعلى تأويل نفي العدم، فسبحانه وتعالى عن قول من عبد سواه واتخذ إلهاً غيره علواً كبيراً..))(1).
ومن جهة ثالثة: فقد تلقى جابر روايات في هذا الحقل من الإمامين الباقر والصادق (علیهما السلام) منها:
أ. روى الكليني عنه في كتاب التوحيد عن العدة، عن أحمد بن أبي عبد الله [البرقي]، عن محمَّد بن عيسى[ابن عبيد]، عن يونس بن عبد الرحمن، عن الحسن ابن السري، عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن شيء من التوحيد، فقال: ((إن الله تباركت أسماؤه التي يدعا بها وتعالى في علو كنهه واحد توحد بالتوحيد في توحده، ثُمَّ أجراه على خلقه فهو واحد، صمد، قدوس يعبده كل شيء، ويصمد إليه كل شيء، ووسع كل شيء علماً))(2).
ب. وروى أيضاً في الروضة خطبة لأمير المؤمنين (علیه السلام) في تحميد الله وتمجيده بسنده عن علي بن الحسين المؤدب وغيره، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن إسماعيل بن
ص: 418
مهران، عن عبد الله بن أبي الحارث الهمداني، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: ((خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال: الحمد لله الخافض الرافع، الضار النافع، الجواد الواسع، الجليل ثناؤه، الصادقة أسماؤه، المحيط بالغيوب وما يخطر على القلوب، الذي جعل الموت بين خلقه عدلاً، وأنعم بالحياة عليهم فضلاً، فأحيا وأمات وقدّر الأقوات، أحكمها بعلمه تقديراً، وأتقنها بحكمته تدبيراً، إنَّه كان خبيراً بصيراً، هو الدائم بلا فناء والباقي إلى غير منتهى..))(1).
ج. أخرج الصدوق في توحيده عن جابر بن يزيد الجعفي سبعة عشر حديثاً في توحيد الله سبحانه وتعالى وعلمه وباقي صفاته وتنزيهه(2).
وقد روى جابر الجعفي عن أبي جعفر (علیه السلام) في ما يتعلق بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من خُلُقه وخَلقه وكراماته وسائر أحواله الكثير، من ذلك:
أ. روى الكليني عن العدة، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران،
ص: 419
عن سيف بن عميرة، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: ((كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة ويقول: تهادوا فإنَّ الهدية تسل السخائم وتجلي ضغائن العداوة والأحقاد))(1).
ب. روى أحمد بن محمَّد بن خالد البرقي (ت274ﻫ)، عن أبيه، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: ((كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يأكل أكل العبد ويجلس جلسة العبد، وكان يأكل على الحضيض، وينام على الحضيض))(2).
ج. روى الكليني عن العدة، عن أحمد بن محمَّد، عن علي بن سيف، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): صف لي نبي الله (علیه السلام) قال: ((كان نبي الله (علیه السلام) أبيض مشرب حمرة، أدعج العينين، مقرون الحاجبين، شثن الأطراف، كأنَّ الذهب أفرغ على براثنه، عظيم مشاشة المنكبين، إذا التفت يلتفت جميعاً من شدة استرساله، سربته سائلة، من لبته إلى سرته كأنَّها وسط الفضة المصفاة، وكأنَّ عنقه إلى كاهله إبريق فضة، يكاد أنفه إذا شرب أنْ يرد الماء، وإذا مشى تكفأ كأنَّه ينزل في صبب، لم يرَ مثل نبي الله قبله ولا بعده (صلی الله علیه و آله و سلم) )(3).
لقد تحدث أمير المؤمنين (علیه السلام) في الكوفة في خطبه كثيراً عن اصطفاء الأنبياء عامة
ص: 420
والنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) خاصة، كما ذكر فضيلة أهل البيت في هذه الأمة، وكون الوصاية والولاية والوراثة فيهم ما أدى إلى غلبة جو التشيع لآل البيت على الكوفة - بدرجات متفاوتة -، وقد عُرِفَ عن (جابر) في المرحلة الثانية من حياته عند الاتصال بالإمام الباقر (علیه السلام) اهتمامه بهذا البُعد من أبعاد اصطفاء أهل البيت (علیهم السلام) حتى كان ذلك منشأ لابتعاد الوسط الحديثي السُنّي عنه، إذ أخذوا عليه أنَّه كان يقول عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنَّه وصي الأوصياء، وكان يقول برجعة الأمر إليهم - وقد كان هو الصادق الأمين عندهم قبل هذه المرحلة -، وقد ذكر الفريقان عن جابر أنَّه روى أحاديث كثيرة لم يحدِّث بها أحداً، وورد أنَّ الإمام الباقر (علیه السلام) أوصاه بعدم بثّها وإذاعتها، وقد يرجح تعلّق كثير منها بهذا الباب.
ومن الطبيعي أنَّ الجمهور لم يكونوا يستسيغون روايات له من هذا القبيل، فلم يرووها عنه، ولكن ورد ذلك في تراثه عند الإمامية، مع حاجته إلى التمحيص والنقد، ومن ذلك:
أ. روى الكليني عن محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمَّد، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن غالب، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قال: ((لما نزلت هذه الآية: [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ] قال المسلمون: يا رسول الله ألستَ إمام الناس كلهم أجمعين؟ قال: فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي، يقومون في الناس فيكذبون، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم، واتبعهم وصدقهم فهو مني ومعي وسيلقاني، ألا ومن ظلمهم وكذّبهم فليس مني ولا معي وأنا منه برئ))(1).
ص: 421
ب. روى الكليني في الروضة عن علي بن محمَّد، عن علي بن العباس، عن علي بن حمّاد، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) في قول الله عزَّ وجلَّ: [وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا] قال: من تولى الأوصياء من آل محمَّد واتبع آثارهم فذلك يزيده ولاية من مضى من النبيين والمؤمنين الأوَّلين حتى تصل ولايتهم إلى آدم..)) (1).
ج. روى الكليني في كتاب الحجة باب [66] الإشارة والنصّ على الحسن بن علي (علیهما السلام) (2).
وفي باب [70] الإشارة والنصّ على أبي عبد الله جعفر بن محمَّد الصادق (علیهما السلام) (3).
د. وقد تقدم - ص: 37 - عن البصائر والكافي في كتاب الحجة ما أورداه بشأن الإمامة وسيأتي في البحث عن كتاب التفسير لجابر أيضاً ما يتعلق بشأن الإمامة.
وقد اعتنى جابر بنقل الروايات التي تتعلق بالموت وعوالم البرزخ والقيامة والجنّة والنّار، فمن ذلك:
أ. ما يتعلق بكيفية قبض الأرواح، فقد روى الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، عن المفضل بن صالح، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: سألته عن قول الله تبارك وتعالى: [وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ] قال: ((فإنَّ ذلك ابن
ص: 422
آدم إذا حلَّ به الموت قال: هل من طبيب؟ ]وزاد الصدوق: هل من دافع؟[(1) إنَّه الفراق. أيقن بمفارقة الأحبة قال: [وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ] التفت الدنيا بالآخرة ثُمَّ [إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ] قال: المصير إلى ربِّ العالمين))(2).
وروى أحمد بن محمَّد بن خالد البرقي في المحاسن قال: حدَّثني داود بن سليمان القطان، قال: حدَّثني أحمد بن زياد اليماني، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: ((قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): لقنوا موتاكم [لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ] فإنَّها أُنس للمؤمن من حين يمزق قبره(3)..))(4).
إلى غير ذلك من الروايات من قبيل كيفية قبض روح الكافر، وما يلاقيه في عالم البرزخ والقيامة، كما ورد في الاختصاص المنسوب إلى المفيد(5).
ب. ما يتعلّق بعالم البرزخ، فقد روى الكليني بعدة أسانيد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وأحد أسانيده عن طريق جابر الجعفي، وهو: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان. وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمَّد بن أبي نصر، والحسن ابن علي جميعاً، عن أبي جميلة مفضل بن صالح، عن جابر، عن عبد الأعلى.. عن سويد
ص: 423
ابن غفلة قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): إنَّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا وأوَّل يوم من أيام الآخرة مَثُلَ له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول..))(1).
قد اعتنى جابر الجعفي بمكارم الأخلاق وتزكية النفس وتربيتها أيّما اعتناء وهذا يتمثّل بكثرة رواياته في هذه المضامين فقد نقل الكليني (رحمة الله) في الكافي في كتاب الإيمان والكفر تسعاً وثلاثين رواية توزعت على جلِّ الأبواب التي عقدها في هذا الكتاب، وكانت مضامين رواياته (ره) كالآتي: صفة الإسلام والإيمان والكفر والنفاق، صفة الإيمان، فضل الإيمان على الإسلام، الطاعة والتقوى وما يجب أنْ يتصف به الشيعة، الصبر، والصبر الجميل، العفو، الحلم، الرفق، الحبّ في الله تعالى والبغض فيه، ذمّ الدنيا والزهد فيها، القناعة، صلة الرحم، برّ الوالدين، الاهتمام بأمور المسلمين، إخوة المؤمنين بعضهم لبعض، حقّ المؤمن على أخيه وأداء حقه، زيارة الإخوان، المصافحة، إدخال السرور على المؤمن، نصيحة المؤمن، علامات المؤمن وصفاته، الصبر على البلاء، شدة ابتلاء المؤمن، الإصرار على الذنب، الخرق، البذاء، السباب، من أطاع المخلوق في معصية الخالق، التوبة، الدعاء للإخوان بظهر الغيب، القول عند الإصباح والإمساء.
وروى الشيخ في التهذيب بإسناده عن الصفار، عن علي بن محمَّد، عن القاسم بن محمَّد، عن سليمان بن داود المنقري، عن يحيى بن آدم، عن شريك، عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (سخاء المرء عمّا في أيدي الناس أكثر من سخاء النفس
ص: 424
والبذل، ومروة الصبر في حال الفاقة والحاجة والتعفف والغنى أكثر من مروة الإعطاء، وخير المال الثقة بالله واليأس عمّا في أيدي الناس)(1).
وأيضاً روى الشيخ في الأمالي ما لفظه: أخبرنا أبو عبد الله محمَّد بن محمَّد، قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمَّد، قال: حدَّثنا محمَّد بن يعقوب، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمَّد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عمرو ابن شمر، عن جابر، قال: دخلنا على أبي جعفر محمَّد بن علي (علیهما السلام) ونحن جماعة بعدما قضينا نسكنا، فودعناه وقلنا له: أوصنا يا بن رسول الله. فقال: ((ليعن قويكم ضعيفكم، وليعطف غنيكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصيحته لنفسه، واكتموا أسرارنا ولا تحملوا الناس على أعناقنا..))(2).
هذا بعض ما عند الخاصّة.
وأمّا عند العامّة فقد أخرج ابن أبي الدنيا (ت 281ﻫ) عن جابر في كتبه في الأخلاق عدة روايات نشير إلى عناوينها: الإخوان(3)، الكِبر(4)، الشكر لله(5) رواها جابر عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وهي فيما يقوله الإنسان عند شربه الماء، الهمّ والحزن(6) في تفسير قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ].
ص: 425
قد وصف جابر في كلام غير واحد ممّن ترجمه من علماء الجمهور بأنَّه كان فقيهاً، ولكن على سبيل رواية الأثر دون الاجتهاد بالرأي، حتى نقل عن أبي حنيفة(1) أنَّه كان يروي في كل مسألة أثراً، روى العقيلي (ت 322ﻫ) بإسناده إلى أبي يحيى الحماني يقول: (سمعت أبا حنيفة يقول... ما أتيته - أي جابر الجعفي - قط بشيء من رأيه(2) إلَّا جاءني فيه بحديث وزعم أنَّ عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يظهرها)(3).
وقد ذكره اليعقوبي (ت 284ﻫ) في تاريخه في تعداد الفقهاء في أيام مروان بن محمَّد ابن مروان(4).
وقد كان جابر فقيهاً في المرحلة الأولى من حياته قبل استبصاره، وقد وصلت إلينا روايات من فقهه في تلك المرحلة في كتب الجمهور، لكن المذكور في أغلبها قليل. نعم، أكثر ابن أبي شيبة الكوفي (ت 235ﻫ) في مصنفه النقل عنه، فقد أورد - مثلاً - ما رواه جابر عن الإمام الباقر (علیه السلام) فكان أكثر من مائة رواية كلها في الأحكام الشرعية في جميع
ص: 426
الأبواب الفقهية، وأورد أيضاً ما رواه جابر عن بقية أساتذته كعامر الشعبي وعطاء وسالم والقاسم والحكم وطاووس وعكرمة، فكان في الجزء الأول أربع وسبعين رواية، وقد نُقل رأيه في هذا الجزء في موردين(1). وأورد عنه في الجزء الثاني سبعاً وخمسين رواية، ووردت روايته في الجزء الثالث في كتاب الزكاة وأحكامها، وزكاة الفطرة، وأصناف المستحقين، وفي أحكام الاحتضار، وغسل الميت، وغسل المس، وصلاة الجنائز، وأحكام الدفن والقبور والنياحة، ووردت روايته في كتاب، النكاح، وفي كتاب الأيمان والنذور والكفارات في جميع فروعها، ووردت روايته في الجزء الرابع في كتاب الطلاق وأحكامه، وهكذا في بقية الأجزاء من المصنف في باقي الأبواب الفقهية.
ومن المظنون قوياً أنَّه أخذها من أصله خصوصاً مع اتحاد السند في أغلب الموارد.
وهذا يؤكد ما استظهرناه من أنَّ الرجل كان فقيهاً قبل استبصاره.
وأمَّا عند الإمامية فقد لاحظ النجاشي حول روايات جابر أنَّه: (قلّ ما يورد عنه شيء في الحلال والحرام).
وناقش في هذا القول غير واحد من المتأخرين منهم المحدِّث النوري (رحمة الله) وتصدى للجواب عنه أوَّلاً: (إنَّ في كثير من أبواب الأحكام منه خبراً. وروى الصدوق في باب السبعين من الخصال عنه خبراً طويلاً فيه سبعون حكماً من أحكام النساء يصير بمنزلة سبعين حديثاً. وكتاب جعفر بن محمَّد بن شريح أكثر أخباره عنه، وأغلبها في الأحكام،
ص: 427
فلو جمع أحد أسانيد جابر في الأحكام لصار كتاباً، فكيف يستقل هذا النقّاد مروياته في الحلال والحرام!).
وثانياً: (مع الغض نقول: ليس هذا وهناً فيه، فإنَّ القائمين بجمع الأحكام في عصره كان أكثر من أنْ يحصى، فلعلّه رأى أنْ جمع غيرها ممَّا يتعلّق بالدين كالمعارف والفضائل والمعاجز والأخلاف والساعة الصغرى والكبرى أهم، ونشرها ألزم، فكلها من معالم الدين وشعب شريعة خاتم النبيين، كما أنَّ قلّة ما ورد من زرارة وأضرابه في هذه المقامات لا تورث وهناً فيهم، ولكل وجهة هو موليها)(1).
ونحا منحى الجواب الأول السيد الخوئي (قده) قائلاً: (وهذا منه غريب، فإنَّ الروايات عنه في الكتب الأربعة كثيرة، رواها المشايخ)(2).
والواقع أنَّ أحاديث جابر في الفروع ليست بتلك القلّة فقد روى الكليني في الكافي في الفروع خمساً وثمانين رواية(3)، وأخرج له الشيخ الصدوق في الفقيه ستاً وثلاثين رواية(4)، وأخرج له الشيخ الطوسي في التهذيب ستاً وخمسين رواية(5).
ص: 428
نعم، هو أقلّ من الرواية عنه في العقائد والفضائل ونحوهما، كما هو أقلّ من روايات سائر مشاهير أصحاب الباقر والصادق (علیهما السلام) مثل زرارة ومحمَّد بن مسلم وبُريد وغيرهم.
وقد توجه قلّة رواياته في الفروع - على تقدير التسليم بها، إنْ لم يكن تراثه الفقهي ضاع فيما ضاع من تراثه التفسيري والفضائلي والتاريخي - إمَّا بأنَّ الأئمة (علیهم السلام) كانوا يعدّون بعض أصحابهم إعداداً تخصصياً فمنهم من يختص بالفقه، ومنهم من يختص بالكلام، ومنهم من يختص بغير ذلك من العلوم، وجابر قد خصّه الإمام الباقر (علیه السلام) بتعليمه فضائل الأئمة (علیهم السلام) وذكر ما يمتازون به وما عندهم من العلوم بالإضافة إلى تأويل الآيات الشريفة وتفسير القرآن الكريم.
وإمَّا أنَّ الأجواء لم تكن تسمح له بعدُ - في أواخر بني أمية - بالتوسع في الحديث كما انفتح للجيل الذي بعده مثل زرارة ومحمَّد بن مسلم وأبان بن تغلب وأضرابهم ممّن أكثروا الرواية في الفروع.
التفسیر(1).
اعتنى جابر بتفسير القرآن الكريم وبعلوم القرآن عامّة في كل من مرحلتي حياته، ففي المرحلة الأولى أخذ التفسير عن أساتذته من التابعين من أمثال مجاهد وعكرمة والشعبي وعبد الرحمن بن سابط، وطاووس بن كيسان اليماني، وعطاء بن رباح المكي وغيرهم، وفي المرحلة الثانية أخذ تفسير الآيات وتأويلها عن الإمامين الباقر
ص: 429
والصادق (علیهما السلام) .
وقد كانت طريقة جابر في التفسير مبتنية على التفسير بالأثر، ولا نجد عنه تفسيراً للآيات موقوفاً عليه.
وقد نقل كل من الفريقين من تراث جابر في التفسير ما رواه في المرحلة التي انتمى إليها.
أمَّا علماء الجمهور فقد رووا عن جابر من غير أنْ يرد لديهم ذكر كتاب له في التفسير، وجلّ ما رووه عنه عن التابعين، وربَّما رووا عنه روايات عن الإمام الباقر (علیه السلام)، وممّن روى عنه:
1. تلميذه المشهور سفيان الثوري (ت 161ﻫ)، حيث وردت روايته عن جابر في تفسيره في تسعة عشر موضعاً(1).
2. عبد الرزاق الصنعاني (ت 211ﻫ) في تفسيره، حيث وردت روايته عن جابر في ستة مواضع، وهي تنتهي إلى مجاهد، وأرسل عن أبي بكر، وعن مجاهد عن ابن عباس(2).
3. محمَّد بن جرير الطبري (ت310ﻫ) في جامع البيان عن تأويل آي القرآن، فقد نقل في تفسيره عن جابر في مائتين وتسعة مواضع(3).
ص: 430
ص: 431
وهي تنتهي إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وتقف تارة على بعض الصحابة مثل: أمير المؤمنين (علیه السلام)، والحسن بن علي (علیهما السلام)، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وسلمان.
وأخرى على بعض التابعين مثل: الإمام الباقر (علیه السلام)، وعكرمة، ومجاهد، وعامر الشعبي، وعبد الرحمن بن الأسود، وسالم بن عبد الله بن عمر، والقاسم بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن مسعود، وعطاء بن أبي رباح، وأبي قرة، وعبد الرحمن بن سابط، والحكم ابن عتيبة، والحسن بن مسلم، وسعيد بن جبير، ومسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي (ت 63ﻫ). ومن المحتمل أنَّ هذه المواضع أخذها من كتاب جابر في التفسير.
4. ابن أبي حاتم الرازي (ت 327ﻫ) في تفسير القرآن العظيم فقد أخرج عن جابر سبعة وسبعين حديثاً في تفسيره(1).
ص: 432
5. الجصاص (ت 370ﻫ) في أحكام القرآن فقد أخرج في كتابه عن جابر عشرين حديثاً(1).
هذا بعض ما عند العامّة.
وأمَّا الخاصّة فقد ذكروا له في فهارسهم كتاباً في التفسير، حتى ورد ذكره في كتاب الاختصاص المنسوب إلى المفيد - في قسم منه يتضمن روايات عن أحوال الرجال على حدِّ رجال الكشي - حيث جاء ذكره تحت عنوان: (جابر بن يزيد الجعفي صاحب التفسير)(2).
وقد ذكر كُلاً من النجاشي والشيخ الطوسي كتاب التفسير لجابر..
أمَّا النجاشي فقد رواه من طريق الحافظ الزيدي المعروف (أحمد بن محمَّد بن سعيد ابن عقدة)، قال: (له كتب منها: التفسير، أخبرناه أحمد بن محمَّد بن هارون قال: حدَّثنا أحمد بن محمَّد بن سعيد قال: حدَّثنا محمَّد بن أحمد بن خاقان النهدي قال: حدَّثنا محمَّد ابن علي أبو سمينة الصيرفي قال: حدَّثنا الربيع بن زكريا الورّاق، عن عبد الله بن محمَّد عن جابر به. وهذا عبد الله بن محمَّد يقال له الجعفي ضعيف، وروى هذه النسخة أحمد ابن محمَّد بن سعيد، عن جعفر بن عبد الله المحمَّدي، عن يحيى بن حبيب الذراع، عن عمرو بن شمر، عن جابر)(3).
ص: 433
وأمَّا طريق الشيخ (قدس سره) إلى التفسير فقد قال في ذكره: (أخبرنا به جماعة من أصحابنا، عن أبي محمَّد هارون بن موسى التلعكبري، عن أبي علي ابن همام، عن جعفر بن محمَّد بن مالك ومحمَّد بن جعفر الرزّاز، عن القاسم بن الربيع، عن محمَّد بن سنان، عن عمّار بن مروان، عن منخل بن جميل، عن جابر بن يزيد)(1).
والملاحظ أنَّ الرواة الثلاثة لكتابه في طريقي النجاشي والشيخ - وهم: عبد الله بن محمَّد الجعفي، وعمرو بن شمر الجعفي، ومنخل بن جميل الأسدي - ضعفاء جميعاً، وكذا جمع من الرواة المتأخرين للتفسير مثل: محمَّد بن علي أبو سمينة، وجعفر بن محمَّد بن مالك، ومحمَّد بن سنان، والقاسم بن الربيع، وقد ذكر النجاشي ل-(المنخل بن جميل) كتاب التفسير أيضاً، ويحتمل أنْ يكون هو كتاب جابر مع إضافات له كما يتعارف مثله لدى القدماء.
وقد ورد ذكر (تفسير جابر) في سؤال مروي عن راويين، الأول: جميل بن دراج، والآخر المفضل بن عمر الجعفي.
أمَّا الأوَّل فقد جاء في تأويل الآيات الظاهرة عن ابن الماهيار(2) أنَّه قال: حدَّثنا
ص: 434
الحسين بن أحمد، عن محمَّد بن عيسى، عن يونس بن يعقوب، عن جميل بن دراج قال: قلت لأبي الحسن (علیه السلام): أحدِّثهم بتفسير جابر؟ قال: (لا تحدِّث به السفلة فيذيعوه، أما تقرأ [إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ] قلت: بلى. قال: إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأوَّلين والآخرين ولّانا حساب شيعتنا فما كان بينهم وبين الله حكمنا على الله فيه فأجاز حكومتنا، وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه فوهبوه لنا، وما كان بيننا وبينهم فنحن أحق من عفا وصفح)(1).
وأما الآخر فهو ما رواه المفضل عن الصادق (علیه السلام)، فقد روى علي بن بابويه بإسناده عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال: حدَّثنا محمَّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن القاسم، عن المفضل بن عمر، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن تفسير جابر؟ فقال: (لا تحدِّث به السفل، فيذيعوه، أما تقرأ في كتاب الله عزَّ وجلَّ: [فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ]. إنَّ منّا إماماً مستتراً، فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ إظهار أمره نكت في قلبه نكتة، فظهر وأمر بأمر الله عزَّ وجلَّ)(2).
وأيضاً روى هذه الرواية ولده الصدوق بقوله: حدَّثنا أبي، ومحمَّد بن الحسن (رضي الله عنهما) قالا، حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحميري قال: حدَّثنا محمَّد بن الحسين ابن أبي الخطاب، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن القاسم، عن المفضل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن تفسير جابر فقال: لا تحدِّث به السفل فيذيعوه، أما تقرأ في كتاب الله عزَّ وجلَّ: [فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ]. إنَّ منّا إماماً مستتراً فإذا أراد الله عزَّ
ص: 435
وجلَّ إظهار أمره نكت في قلبه نكتة فظهر وأمر بأمر الله عزَّ وجلَّ)(1).
وروى الشيخ الطوسي في الغيبة بإسناده عن جماعة، عن أبي المفضل، عن محمَّد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن محمَّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن موسى ابن سعدان، عن عبد الله بن القاسم، عن المفضل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن تفسير جابر. فقال: (لا تحدِّث به السفل فيذيعوه، أما تقرأ كتاب الله: [فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ]. إنَّ منّا إماماً مستتراً فإذا أراد الله إظهار أمره نكت في قلبه نكتة فظهر فقام بأمر الله تعالى)(2).
وروى الكشي عن آدم بن محمَّد البلخي، قال: حدَّثنا علي بن الحسن بن هارون الدقّاق قال: حدَّثنا علي بن أحمد، قال: حدَّثني علي بن سليمان، قال: حدَّثني الحسن بن علي بن فضال، عن علي بن حسان، عن المفضل بن عمر الجعفي، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن تفسير جابر؟ فقال: (لا تحدِّث به السفلة فيذيعونه، أما تقرأ في كتاب الله عزَّ وجلَّ: [فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ]. إنَّ منّا إماماً مستتراً فإذا أراد الله إظهار أمره نكت في قلبه، فظهر فقام بأمر الله)(3).
ص: 436
ولكنَّ المفضل بن عمر ضعيف، والراويان عنه - عبد الله بن القاسم وعلي بن حسان - أيضاً ضعيفان.
والملاحظ هنا..
أوَّلاً: إنَّ الإمام (علیه السلام) عند جواب كلا الراويين - جميل بن دراج والمفضل بن عمر - نهى عن التحدث بتفسير جابر إلى السفلة، ولم ينفه بأن يقول - مثلاً - هو مكذوب علينا، أو لم نقله وما شاكل ذلك، كما ورد في نظائره من تكذيب المغيرة بن سعيد، أو أبي الخطّاب وأصحابه، وهذا يدل على إقراره (علیه السلام) لهذا التفسير في الجملة.
وثانياً: إنَّ الإمام (علیه السلام) استشهد لكل من الراويين بآية وطبّقها كلٌّ بحسبه فذكر لجميل آيتي [إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ] وطبّقهما على أئمة الهدى (علیهم السلام) في يوم القيامة، مع أنَّ ظاهرهما يخصّ ربّ العزة. وذكر للمفضل آية [فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ] وأيضاً طبّقها (علیه السلام) عليهم وهو أيضاً خلاف الظاهر، فَذِكْرَه (علیه السلام) لهذه الروايات وتطبيقها على أئمة الهدى (علیهم السلام) ليلتفت السائل إلى وجه النهي عن التحدث بتفسير جابر - الذي يتضمن مثل هذا التأويل للآيات - إلى السفلة لأنَّ عقولهم لا تتحمل ذلك.
هذا، وقد ذكر العلّامة المجلسي في وجه النهي عن التحدث بتفسير جابر ما لفظه: (لعلَّ المراد أنَّ تلك الأسرار إنَّما تظهر عند قيام القائم (علیه السلام) ورفع التقية. ويحتمل أنْ يكون الاستشهاد بالآية لبيان عسر فَهم تلك العلوم التي يظهرها القائم (علیه السلام) وشدتها على الكافرين، كما يدل عليه تمام الآية وما بعدها)(1).
وقد روى عن تفسير جابر صريحاً ابن شهرآشوب (ت588ﻫ) في موضعين من مناقبه ممَّا يقتضي بقاء تفسير جابر إلى نهاية القرن السادس الهجري:
ص: 437
1. في مناقب أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (تفسير جابر بن يزيد عن الإمام (علیه السلام) أثبت الله بهذه الآية ولاية علي بن أبي طالب، لأنَّ علياً كان أولى برسول الله من غيره..))(1).
2. في مناقب أمير المؤمنين (علیه السلام) أيضاً قال: (تفسير جابر بن يزيد عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال في هذه الآية: ((فكانت لعلي من رسول الله الولاية في الدين، والولاية في الرحم، فهو وارثه كما قال أنت أخي في الدنيا والآخرة وأنت وارثي))(2).
قلت: وقد يتوقع أنْ يكون كتاب التفسير لجابر ممَّا ألّفه في المرحلة الثانية من حياته ولم يتضمن إلَّا ما رواه عن الباقر والصادق (علیهما السلام) من الروايات المتعلّقة بتفسير القرآن وتأويله.
وأمَّا الروايات التي رواها علماء الجمهور عنه في التفسير فتكون غير مضمّنة بالكتاب، كما كان هو المعروف في عهد جابر قبل انتشار التأليف والتصنيف بين المسلمين.
والذي يساعد على ذلك: أنَّ من البعيد مراجعة علماء الجمهور إلى كتاب يتضمن ما اعتقده جابر ورواه في المرحلة الثانية - ممَّا كان قد أورده في الكتاب بشهادة ما نقل عنه لدى الإمامية - كما هو ظاهر.
على أنَّه قد يحتمل أنْ يكون كتاب التفسير لجابر من ترتيب بعض تلامذته بأنْ كان لجابر حلقة يعلِّم فيها القرآن ويذكر فيها عَرَضاً تفسير بعض الآيات وتأويلها على ما كان متداولاً آنذاك، فدوّن هؤلاء ممَّا ألقاه بعنوان (تفسير جابر)، وقد مرّ أنَّ أحد رواة التفسير وهو (المنخل بن جميل الأسدي) ذكر له بنفسه كتاب تفسير أيضاً.
ص: 438
ولكن هذا الاحتمال بعيد؛ بالنظر إلى تعدّد الرواة لتفسيره، وإنْ لم يثبت إسناد صحيح إلى الجميع.
هذا، وقد نقل عن جابر في التفسير أصحاب التفسير بالأثر روايات كثيرة، لا يبعد أنْ يكون مأخذها أو مأخذ كثير منها تفسير جابر، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - ذكر من نقل عن هذا التفسير في محل آخر.
لم تقتصر روايات جابر حول القرآن على التفسير، بل احتوى على سائر علوم القرآن، وسيأتي - إنْ شاء الله تعالى - تفصيل ذلك في محل آخر.
ينقسم ما رواه جابر حول آيات القرآن الكريم إلى تفسير وتأويل.
فالتفسير بيان لظاهر الآية وحقيقة المراد بها سواء في المراد الاستعمالي أم التفهيمي أم الجدي.
فالمراد الاستعمالي هو بيان المعنى اللغوي للكلمة والكلام. والمراد التفهيمي بيان المعنى الظاهر من الكلام ولو أفيد بالقرينة وكان كنائياً أو مجازياً. والمراد الجدي ما لم يفهم من الكلام بنفسه، ولكن قامت عليه القرائن المنفصلة كالعامّ الذي أريد به الخاصّ، والمطلق الذي أريد به المقيَّد وغير ذلك.
وأمّا التأويل فهو بيان لباطن الآية وما ينطبق عليه من مصاديق أو يجري عليه من أمثال.
وقد تكرر ذكر تأويل القرآن وباطنه في روايات أهل البيت (علیهم السلام)، وقد اشتهر جابر
ص: 439
برواياته في تأويل القرآن وبيان باطنه إلَّا أنَّ جملة كبيرة من روايات جابر تتضمن تنزيل القرآن.
بالمرور على كتاب الوسائل وغيره سوف نذكر ما ورد عن جابر في آيات الأحكام.
1. ما رواه الشيخ الكليني بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قلت له: قول الله عزَّ وجلَّ [فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] قال: (قال: اعملوا وعجّلوا فإنَّه يوم مضيّق على المسلمين فيه، وثواب أعمال المسلمين فيه على قدر ما ضيّق عليهم، والحسنة والسيئة تضاعف فيه. قال: وقال أبو جعفر (علیه السلام) والله لقد بلغني أنَّ أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كانوا يتجهزون للجمعة يوم الخميس؛ لأنَّه يوم مضيّق على المسلمين)(1).
2. روى العياشي في تفسيره عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله عزَّ وجلَّ: [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ]. (قال: هم أهل اليمن)(2).
3. روى الكليني بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) في قول الله عزَّ وجلَّ: [وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]. قال: (الإصرار أنْ يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدِّث نفسه بالتوبة فذلك الإصرار)(3).
4. روى الكليني بإسناده عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال في قول الله عزَّ
ص: 440
وجلَّ: [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]. قال: (قولوا للناس أحسن ما تحبون أنْ يقال لكم)(1).
5. وروى المشايخ الثلاثة بإسنادهم عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: لمّا أنزل الله على رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم): [إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ] قيل: يا رسول الله ما الميسر؟ فقال: (كل ما تقومر به حتى الكعاب والجوز. قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم. قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم التي يستقسمون بها)(2).
6. روى الصدوق والشيخ بإسنادهما عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى: [فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا] قال: (متعوهن: جملوهن بما قدرتم عليه، فإنَّهن يرجعن بكآبة وحياء وهَمٍّ عظيم وشماتة من أعدائهن، فإنَّ الله كريم يستحيي ويحب أهل الحياء، إنَّ أكرمكم عند الله أشدكم إكراماً لحلائلهم)(3).
7. روى العياشي عن جابر، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن قول الله: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ] قال: (أمّا أنَّهم لم يتخذوهم آلهة إلَّا أنَّهم أحلوا لهم حلالاً فأخذوا به، وحرّموا حراماً فأخذوه به. فكانوا أربابهم من دون الله)(4).
8. روى الصدوق في الخصال بإسناده عن جابر بن يزيد، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): (لعن الله المجادلين في دين الله على
ص: 441
لسان سبعين نبياً، ومن جادل في آيات الله كفر قال الله: [مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا]..)(1).
9. روى المشايخ الثلاثة بإسنادهم عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه، ومن شهد شهادة حقّ ليحيي بها حقّ امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه، ثُمَّ قال أبو جعفر (علیه السلام): ألا ترى أنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول: [وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ])(2).
10. روى العياشي عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) في قول الله: [إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا] قال: (هو أدنى الأدنى حرّمه الله فما فوقه)(3).
1. روى العياشي عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (أمَّا قوله: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] فإنَّها أنزلت في علي بن أبي طالب (علیه السلام) حين بذل نفسه لله ولرسوله ليلة اضطجع على فراش رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لما طلبته كفار قريش)(4).
ص: 442
2. روى ابن الماهيار بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) في قول الله عزَّ وجلَّ: [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا] قال:
(نزلت في قتل الحسين (علیه السلام) . أي ولحق الحسين كان منصوراً)(1).
3. وروى أيضاً بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) في قول الله عزَّ وجلَّ: [فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا] قال: (نزلت في ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) )(2).
1. روى العياشي عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام): ([نَسُوا اللَّهَ] قال: (تركوا طاعة الله. [فَنَسِيَهُمْ] قال: فتركهم)(3).
2. وأيضاً روى العياشي عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام): (إنَّ بكة موضع البيت، وإنَّ مكة الحرم، وذلك قوله: ف-[مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا])(4). ولعل هذا من غرائب تفسيره.
وفي هذا النوع تارة صُرّح بأنَّها من باب الجري، وأخرى لم يُصرح بذلك.
فمن الأوَّل:
1. ما رواه العياشي عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: سألته عن تفسير هذه الآية من قول الله: [إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ
ص: 443
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا] قال: (جرت في القائم (علیه السلام) )(1).
ومن الثّاني:
1. ما رواه العياشي عن جابر الجعفي عمّن حدَّثه قال: (بيّنا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في مسير له إذ رأى سواداً من بعيد، فقال: هذا سواد لا عهد له بأنيس، فلمّا دنا سلّم فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أين أراد الرجل؟ قال: أراد يثرب قال: وما أردت بها؟ قال: أردت محمَّداً قال: فأنا محمَّد، قال: والذي بعثك بالحق ما رأيت إنساناً مذ سبعة أيام ولا طعمت طعاماً إلَّا ما تناول منه دابتي قال: فعرض عليه الإسلام فأسلم قال: فعضته راحلته فمات وأمر به فغسل وكفّن، ثُمَّ صلى عليه النبي عليه وآله السلام، قال: فلمّا وضع في اللحد قال: هذا من [الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ])(2).
2. وأيضاً روى العياشي عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله: [رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ] قال: (مع النساء)(3). فالنساء بعض الخوالف.
3. وأيضاً روى العياشي عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله: [كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ]. (كلما أراد جبار من الجبابرة هلكة آل محمَّد (علیهم السلام) قصمه الله)(4).
4. وروى ابن الماهيار بإسناده عن جابر قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) في قول الله عزَّ وجلَّ: [فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ]. قال: (ذلك عند قيام القائم)(5).
ص: 444
عُرف عن جابر اهتمامه بتأويل القرآن كتفسيره، وقد روى العامّة ذلك، ومنه ما ذكره العقيلي (ت 322ﻫ) في ترجمة جابر: أنَّه (حدَّثنا الحميدي، قال: حدَّثنا سفيان، قال: سمعت رجلاً سأل جابر عن قوله: [فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]، قال جابر: لم يأتِ تأويل هذه الآية بعدُ)(1).
وأيضاً أخرج الرازي (ت 327ﻫ) في تفسيره بإسناده عن جابر عن أبي جعفر محمَّد ابن علي [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّه مِنْ فَضْلِه]، قال: (نحن الناس)(2).
وهذه الروايات كثيرة عند الخاصّة، وهي على قسمين:
الأوَّل: تأويل الآيات ب-(آل البيت ( (علیهم السلام)، ومن ذلك:
1. روى الكليني بإسناده عن علي بن محمَّد، عن علي بن العباس، عن علي بن حمّاد، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) تأويل عدة آيات في آل البيت (علیهم السلام) جمعها في رواية واحدة(3).
ص: 445
ص: 446
2. روى العياشي عن جابر قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن هذه الآية عن قول الله: [لَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ]، قال: (تفسيرها في الباطن لما جاءهم ما عرفوا في علي كفروا به فقال الله فيهم: [فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ] في باطن القرآن، قال أبو جعفر: فيه يعني بنى أمية هم الكافرون في باطن القرآن)(1).
3. وروى العياشي أيضاً عن جابر قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن تفسير هذه الآية في باطن القرآن: [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]، قال: (تفسير الهدى علي (علیه السلام) قال الله فيه [فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ])(2).
ص: 447
الثاني: أمور أخرى، من ذلك:
1. روى العياشي عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: سألته عن قول الله: [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ] قال لي: (يا جابر أتدري ما سبيل الله؟ قال: لا أعلم إلَّا أنْ أسمعه منك، فقال سبيل الله علي وذريته (علیهم السلام) ومن قتل في ولايتهم قتل في سبيل الله، ومن مات في ولايتهم مات في سبيل الله)(1).
2. وروى العياشي أيضاً عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) في قول الله [وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ] قال: (دين الله)(2).
وقد ورد بعضها في آيات الأحكام وبعضها في أمور أخرى:
فمن الأوَّل:
1. ما رواه الطبري (ت 310ﻫ) بإسناده عن جابر، عن عمرو بن حبشي، قال: (قلت لابن عمر: [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]، قال: انطلق إلى ابن عباس فاسأله، فإنَّه أعلم مَنْ بقي بما أُنزل على محمَّد (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) فأتيتُه فسألتُه، فقال: إنَّه كان عندهما أصنام، فلمّا حُرِّمْنَ أمسكوا عن الطواف بينهما حتى أُنزلت: [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا])(3).
ص: 448
2. وأيضاً روى الطبري بإسناده عن جابر عن مجاهد وعكرمة قوله: ([فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ] غير باغٍ يبتغيه، ولا عادٍ يتعدّى على ما يمسك نفسه)(1).
3. وروى أيضاً بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام): ([وَابْنَ السَّبِيلِ] قال: المجتاز من أرض إلى أرض)(2).
4. وأيضاً روى بإسناده عن جابر، عن عبد الله بن يحيى، عن علي (علیه السلام) أنَّه سئل عن قوله: [مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ] قال: (هي مواقيت الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فأتمّوا ثلاثين)(3).5. وأيضاً روى في تفسير قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ] بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: (امسح على رأسك وقدميك)(4).
6. وروى ابن أبي حاتم الرازي (ت 327ﻫ) بإسناده عن جابر، عن عطاء ابن أبي رباح، عن عائشة في تفسير قوله تعالى: [لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ] قالت: (هو قول: لا والله، وبلى والله، وهو يرى أنَّه صادق. ولا يكون كذلك)(5).
ومن الثاني:
أ. العامّ الذي يراد به الخاصّ.
من جملة أهم أبواب التفسير بيان المراد الجدّي بالعمومات، بمعنى ذكر القيود
ص: 449
المنفصلة لها، وهو طبعاً يكون من خلال السُنَّة، وقد روى جابر جملة ممَّا يتعلق بذلك، منها:
1. روى ابن أبي حاتم الرازي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) [وَالْغَارِمِينَ]. قال: (المستدينين في غير فساد)(1).
2. روى الطبري في تفسير قوله تعالى: [وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ] بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: (الباز والصقر من الجوارح المكلّبين)(2).
ب. ما كان من قبيل الجري، فقد روى الطبري بإسناده عن جابر، عن مجاهد وعكرمة: [طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ]، قال: المجاورون)(3).
ومن نماذج ذلك:
1. ما رواه الطبري في تفسير قوله تعالى: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ] بإسناده عن جابر، عن مجاهد: ([إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ] قال: المؤمنين حقاً)(4).
2. وأيضاً روى الطبري بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله: [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] قال: (الموت)(5).
ص: 450
3. وروى ابن أبي حاتم الرازي بإسناده عن جابر عن أبى جعفر (علیه السلام): [وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ]. قال: (النبي وعلي)(1).
4. وأيضاً روى ابن أبي حاتم الرازي بإسناده عن جابر، عن مجاهد وعكرمة: [وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا] قالا: (حجّة ثابتة)(2).
1. روى ابن أبي حاتم الرازي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام):[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، قال: (خير أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) )(3).
2. وأيضاً روى بإسناده عن جابر عن أبي جعفر محمَّد بن علي (علیه السلام):[أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّه مِنْ فَضْلِه]، قال: (نحن الناس)(4).
3. وأيضاً روى بإسناده عن جابر عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود في قوله: [أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّه آناءَ اللَّيْلِ]، قال: (هي صلاة الغفلة)(5).
4. وأيضاً روى بإسناده عن جابر، عن رجل، عن أبي عبد الرحمن، عن علي قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): [فَإِذا أُحْصِنَّ]، قال: إحصانها: إسلامها)(6).
5. وأيضاً روى بإسناده عن جابر، عن عامر قال: قال علي وابن مسعود: ([وَالْجَارِ
ص: 451
ذِي الْقُرْبَى]: المرأة)(1).
6. وأيضاً روى بإسناده عن جابر، عن عامر، عن علي وعبد الله في قوله: [وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ]، قالا: (هي المرأة)(2). ويمكن أنْ تكون هذه من باب الجري.
من المجالات التي تتعلّق بالقرآن والتفسير قصص الأنبياء، وقد توّزعت روايات جابر في هذا الموضوع في كتب التفسير والحديث.
فعلى سبيل المثال: ورد في التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم بإسناده عن جابر - في سند فيه إرسال ما بين أبيه وعمرو بن شمر - قصة يوسف (علیه السلام) (3).
وأخرج الكليني في الكافي عن جابر كيفية إحرام موسى (علیه السلام) من رملة مصر(4).
وأخرج الصدوق في أماليه عن جابر سؤال موسى (علیه السلام) الجليل تبارك وتعالى عن أنَّه كيف يبقي الصغار بلا معيل!(5). وأيضاً أخرج وصية الجليل تبارك وتعالى لموسى (علیه السلام) (6).
وأخرج الشيخ الطوسي في أماليه عن جابر ما يتعلّق بسد يأجوج ومأجوج(7).
هذا، وقد أخرج قطب الدين الراوندي (ت 573ﻫ) في كتابه قصص الأنبياء عن
ص: 452
جابر أربع عشرة رواية، ومضامينها هي: وجود خلق قبل آدم كانوا يقدسون الله ويسبحونه. أمر الجليل تبارك وتعالى لآدم بعد هبوطه من الجنة بحراثة الأرض. كيفيّة قبض روح إدريس النبي (علیه السلام) . أمر الله تبارك وتعالى لموسى (علیه السلام) بتحبيبه إلى الخلق. موعظة لقمان لابنه في الموت والبعث. لا يقتل الأنبياء وأولادهم إلَّا أولاد الزنا. وصف عاقر ناقة صالح. أنَّ دانيال كان يعبّر الرؤيا وكان نبياً. إهلاك ستين ألفاً من خيار قوم شعيا (علیه السلام) لمداهنتهم الأشرار. قصّة أصحاب الأخدود. عدم إمكان بناء مسجد في كورة من الشام على قبر نبي كذّبه قومه وقتلوه. إرسال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أمير المؤمنين (علیه السلام) والثلاثة إلى أصحاب الكهف. قصّة النفر الذين كانوا يسيحون في الأرض وإغلاق صخرة باب الكهف عليهم وكيف فتحه الله لهم. تعليم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لجابر الأنصاري بأسماء الأئمة (علیهم السلام) من بعده(1).
مقدّمة حول عناية الشيعة بسيرة النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين والزهراء وأولادهما (علیهم السلام):
لقد اعتنى الشيعة بتوثيق كلّ ما يتعلّق بأئمّة أهل البيت (علیهم السلام) من تاريخ الولادات والوفيات، بل وحتى الكرامات، وما جرى لهم من أحداث وحروب ومحن منذ العصر الأوَّل إلى زماننا، وبمراجعة كتب الفهارس يتّضح هذا بوضوح، وبتصفّح عاجل
ص: 453
لفهرست النجاشي نذكر مَنْ ذكر له أصحاب الفهارس كتاب يتعلّق بتاريخ أئمّة أهل البيت (علیهم السلام) حسب الطبقات، وليس البناء على الاستيعاب:
الطبقة الرابعة: أبان بن تغلب له كتاب صفين.
الطبقة الخامسة:
1. أبان بن عثمان الأحمر له كتاب يجمع بين المبتدأ والمغازي والوفاة والردّة. ويبدو
أنَّه مختصّ بدعوة الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم) .
2. عبد الله بن ميمون القدّاح له كتاب مبعث النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأخباره.
3. لوط بن يحيى بن سعيد أبو مخنف (ت 157ﻫ) روى عن أبي عبد الله (علیه السلام) من كتبه: الشورى، الجمل، صفّين، النهر، مقتل أمير المؤمنين (علیه السلام)، قتل الحسن، قتل الحسين.
4. هشام بن محمَّد بن السائب الكلبي (ت حدود 204ﻫ) - من أصحاب أبي عبد الله (علیه السلام)، ولعلّه من المعمّرين - من كتبه: الجمل، صفين، النهروان، مقتل أمير المؤمنين (علیه السلام)، مقتل الحسين (علیه السلام)، قيام الحسن (علیه السلام) .
الطبقة السادسة: نصر بن مزاحم المنقري (ت 212ﻫ) من كتبه: الجمل، صفين، النهروان، مقتل الحسين (علیه السلام) .
الطبقة السابعة: 1. إبراهيم بن محمَّد بن سعيد الثقفي له كتب منها: السقيفة، الشورى، بيعة علي (علیه السلام)، الجمل، صفّين، الحكمين، النهر، مقتل أمير المؤمنين (علیه السلام) .
2. إبراهيم بن سليمان بن عبيد الله له كتاب مقتل أمير المؤمنين (علیه السلام) .
3. إبراهيم بن إسحاق النهاوندي له كتاب مقتل الحسين (علیه السلام) .
ص: 454
4. إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت له كتاب الأنوار في تواريخ الأئمّة (علیهم السلام) .
5. إسماعيل بن علي ابن أخي دعبل له كتاب تاريخ الأئمّة (علیهم السلام) .
6. سلمة بن الخطاب له كتاب مولد الحسين بن علي (علیه السلام)، كتاب وفاة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) .
7. علي بن الحسن بن علي بن فضّال له كتاب وفاة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) .
الطبقة الثامنة: 1. محمَّد بن زكريا بن دينار (ت 298ﻫ) من كتبه: الجمل الكبير، صفّين الكبير، مقتل أمير المؤمنين (علیه السلام)، مقتل الحسين (علیه السلام)، أخبار فاطمة – ومنشؤها ومولدها.
2. محمَّد بن وهبان له كتاب أخبار الصادق (علیه السلام) مع المنصور، كتاب أخبار الرضا (علیه السلام)، كتاب أخبار أبي جعفر الثاني (علیه السلام) .
الطبقة التاسعة:
1. أحمد بن محمَّد بن سعيد ابن عقدة له كتاب صلح الحسن ومعاوية.
2. جعفر بن محمَّد بن مالك له كتاب أخبار الأئمّة ومواليدهم.
3. عبد العزيز بن يحيى الجلودي له كتب منها: الجمل، صفين، الحكمين، الخوارج، كتاب حروب علي (علیه السلام)، كتاب تزويج فاطمة –، كتاب مقتل الحسين (علیه السلام)، كتاب أخبار علي بن الحسين، كتاب أخبار أبي جعفر محمَّد بن علي، كتاب أخبار المهدي (علیه السلام) .
الطبقة العاشرة:
1. الحسن بن علي أبو محمَّد الأطروش له كتاب أنساب الأئمّة ومواليدهم إلى صاحب الأمر (علیه السلام) .
2. أحمد بن إبراهيم بن أبي رافع له كتاب الصفاء في تاريخ الأئمّة.
ص: 455
3. صالح بن محمَّد الصرامي له كتاب تاريخ الأئمة (علیهم السلام) .
4. عبيد الله بن أبي زيد أحمد الأنباري (ت 356ﻫ) له كتاب أخبار فاطمة –.
الطبقة الحادية عشرة: أحمد بن محمَّد بن جعفر الصولي له كتاب أخبار فاطمة –(1).
هذه بعض النماذج، ومن هذا العرض يتّضح عناية علماء مذهب أهل البيت ومحدِّثيهم بتوثيق كلّ ما يتعلّق بحياة أئمّتهم (علیهم السلام) .
هذا، وجابر الجعفي هو أيضاً من العلماء الذين اعتنوا بالجانب التاريخي وتوثيق ما حصل لأهل البيت (علیهم السلام) ونقله للأجيال اللاحقة، فإنّ لجابر عدّة كتب في التاريخ ذكرها النجاشي، وهي: كتاب الجمل، وكتاب صفين، وكتاب النهروان، وكتاب مقتل أمير المؤمنين (علیه السلام)، وكتاب مقتل الحسين (علیه السلام) .
وطريقه إليها هو ما ذكره بقوله: (روى هذه الكتب الحسين بن الحصين العمي قال: حدَّثنا أحمد بن إبراهيم بن معلّى قال: حدَّثنا محمَّد بن زكريا الغلابي وأخبرنا ابن نوح، عن عبد الجبار بن شيران الساكن نهر خطى، عن محمَّد بن زكريا الغلابي، عن جعفر بن محمَّد بن عمّار، عن أبيه، عن عمرو بن شمر، عن جابر بهذه الكتب).
وقد يضاف إلى هذه الكتب كتاب (حديث الشورى) الذي ذكر الشيخ أنَّه قد رواه بعض الرواة - وهو عمرو بن ميمون - عن جابر(2)، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - تفصيل ذلك في محلّ آخر.
ص: 456
هذا تمام الكلام في هذا المقام ويقع الكلام - إنْ شاء الله تعالى - في المقام الثالث في وثاقة جابر الجعفي عند الفريقين.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على خير خلقه محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.
ص: 457
ص: 458
شرح
المراسم العلویة
فی الاحکام النبویة
لأحد علماء القرن السادس الهجري
تحقیق
السيد جواد لموسوى الغریقی
ص: 459
ص: 460
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربِّ العالمين, والصَّلاة والسَّلام على خير خلقه محمَّد وآله الطَّيّبين الطَّاهرين الهداة المهديين.
وبعد, يمثِّل التّراث الخطِّيّ الّذي خلَّفه السَّلف عبر العصور رصيداً معرفيَّاً مهمَّاً ناهيك عن كونه الهويَّة الحضاريَّة للأمم.
وقد بذل الأقدمون جهوداً بالغة في حفظه والعناية به على الرّغم من فقدان الكثير منه نتيجةً لعوامل متعدّدة, لا سيَّما أنَّ تلك الجهود - حسب العادة - لم تكن تخرج عن كونها فرديَّة.
واليوم, وعلى الرغم من انطلاق مؤسسات كبرى عديدة تعنى بهذا الشّأن, وتهتمّ بنقل هذا التراث من الخاصّ إلى العام, وتعمل على إخراجه محقّقاً بأبهى صورة إلّا أنَّ ذلك لا يمنع من تدوين بعض الملاحظات (أهمها):
عدم وجود ثبت شامل أو قريب منه لخزاناتٍ مهمّة - بل إنَّ بعضها إلى الآن لم يُدرَج أصلاً ضمن الفهارس -, ويعود ذلك لأسباب متعدّدة, منها: الظّروف الحافَّة بالبلد الراعي لتلك المخطوطات, وخير شاهد على ذلك: خزانات النَّجف الأشرف مع ما تمتلكه من نوادر نفيسة - على الرغم من الجهود الكبيرة المشكورة المبذولة من القائمين عليها - فإنَّنا نفتقد الكثير من المعلومات عمّا فيها.
لذا تجد أنَّ رسالة ابن بابويه لابنه الصّدوق (رحمة الله) - مثلاً - المعروفة ب-(الشّرائع) قامت
ص: 461
بنشرها مجلَّة (دراسات علميَّة) أوَّل مرَّة قبل زهاء سنتين مع أنَّها نصٌّ يعود لفقيهٍ تُوفي قبل أكثر من ألف ومائة عام, وهي من محفوظات خزانة مكتبة الإمام الشّيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء العامّة في النَّجف الأشرف.كما تجد أنَّ (المراسم العلويَّة) المطبوعة مؤخّراً قد اعتمد محقّقُها في تصحيحها على نسخة خطيَّة من مكتبة السّيّد المرعشي استُنسخت في سنة 1236ﻫ مع أنَّه توجد نسخة من المراسم العلويَّة - في الخزانة المذكورة آنفاً - يعود تأريخ استنساخها إلى القرن السَّادس الهجري.
ويغلب الظّنّ أنْ لو كانت هذه الخزانات معلومة المحتوى لما اكتفى محقّق (المقنع) المطبوع مؤخّراً باعتماد نُسَخٍ أقدمها بتأريخ سنة 1232 ﻫ .
ولذا نهيب بالجهات المعنيّة بالتراث المخطوط - على الرغم من حجم العمل وشدّة الجهد المبذول فيه ومقدار الطاقة المصروفة عليه - إلى التوجّه التّام للعمل بالتعريف بما تمتلكه من نفائس.
وممّا ترشّح من نفائس تلك الخزانة هذه الرسالة الّتي بين يدي القارئ الكريم, وهي: (شرح المراسم العلويَّة في الأحكام النّبويّة), ولعلَّها تمثّل أقدم شرح للمراسم العلويَّة.
وقبل التّعريف بهذا الشّرح ومميّزاته والمخطوطة المعتمدة في تحقيقه يرجح في النّظر تسليط الضوء على كتاب (المراسم العلويَّة) من حيث مؤلِّفه ومخطوطاته ومطبوعاته ومختصراته وشروحه في ثلاث فقرات(1):
ص: 462
1. السّيّد المرتضى، عليّ بن الحسين الموسويّ (ت 436ﻫ) - أستاذه - في مفتتح أجوبة المسائل السّلّاريّة الّتي سأله عنها الدّيلميّ، قال: «قد وقفت على ما أنفذه الأستاذ- أدام الله عزّه - من المسائل وسأل بيان جوابها، ووجدته - أدام الله تأييده - ما وضع يده من مسائله إلّا على نكتة وموضع شبهة»(1).
2. منتجب الدين ابن بابويه (ت 585ﻫ) في الفهرست: «الشّيخ أبو يعلى سالار ابن عبد العزيز الدّيلميّ، فقيهٌ، ثقةٌ، عين»(2).
3. العلّامة الحلّيّ (ت726ﻫ) في خلاصة الأقوال: «سلّار بن عبد العزيز الدّيلميّ، أبو يعلى (قدّس الله روحه) شيخنا المقدّم في الفقه والأدب وغيرهما، كان ثقة وجهاً.. قرأ على المفيد (رحمه الله) وعلى السّيّد المرتضى (رحمه الله)»(3).
4. ابن داود الحلّيّ (كان حيّاً سنة 741ﻫ) في رجاله: «سلّار بن عبد العزيز الدّيلميّ، أبو يعلى، فقيهٌ جليل معظَّم، مصنِّف، من تلامذة المفيد والسّيّد المرتضى»(4).
5. الحرّ العامليّ (ت 1104ﻫ) في أمل الآمل: «الشّيخ أبو يعلى سالار بن عبد العزيز الدّيلميّ، فقيهٌ، ثقةٌ، ديّن.. ثقة، جليل القدر، عظيم الشّأن، فقيه، يروي عنه الشّيخ أبو عليّ [ابن الشّيخ الطّوسيّ]»(5).
ص: 464
6. السّيّد محمّد مهديّ بحر العلوم (ت 1312ﻫ): قال - بعد إيراد كلام الشّريف المرتضى المتقدِّم بشأن المسائل السلّاريَّة - ما نصّه: «وناهيك بهذا النّعت له من السّيّد، ولعمري لقد سأل هذا الفاضل في مسائله المذكورة عن أمور عويصة بتحرير متقن سديد يدلّ على كمال فضله واقتداره في صنعة الكلام وغيره، وقد تعمّق السّيّد الأجلّ المرتضى بما يعلم منه مقدار فضيلة السّائل وتمهّره وتسلّطه على العلم، وقد كان سؤاله عن ذلك حال تحصيله على السّيّد وقراءته عليه.
فإنّه قال - في ابتداء المسائل -: (أمّا نِعَمُ الله تعالى على الخلق بدوام بقاء سيّدنا الشّريف السّيّد الأجلّ المرتضى علم الهدى - أطال الله بقاءه وأدام علوّه وسموّه وبسطته، وكبت أعداءه وحَسَدَتَه - فالألسُنُ تقصر عن أداء شكرها، والمنن تضعف عن تعاطي نشرها، فلا أزال الله عنّا وعن الإسلام ظلّه، وحرس أيّامه من الغِيَر، وبعد: فمن كان له سبيل إلى إلقاء ما يعرض له ويعتلج في صدره من الشُّبه إلى الخاطر الشّريف، واستمداد الهدى من جهته، فلا معنى لإقامته على ظلمتها، والغاية اقتباس نور الله سبحانه؛ ليقف على الطّريق النَّهْج والسّبيل الواضح والصّراط المستقيم، والخادم - وإن كان متمكّنًا من إيراد ذلك في المجلس الأشرف وأخذ الجواب عنه على ما جرت به عادته - فإنّه سائل الإنعام بالوقوف على هذه المسائل، وإيضاح ما أشكل منها، ليعمّ النّفع بها، فيحصل بذلك المبتغى بمجموعه من الوقوف على الحقّ، وعموم النّفع للمؤمنين كافّة، والتّنويه باسم الخادم، ولرأي سيّدنا الشّريف السّيّد المرتضى علم الهدى - أدام الله قدرته في ذلك وعلوّه إن شاء الله..)، ثمّ أخذ في ذكر المسائل»(1).
ص: 465
7. السّيّد محمّد باقر الخوانساريّ (ت 1313ﻫ) في روضات الجنّات: «الشّيخ المتفقّه الإمام أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز، الملقّب بسلّار الدّيلميّ، أحد أعاظم المتقدّمين من فقهاء هذه الطّائفة، بل وأحدهم المشار إليه في كتب الاستدلال.. وهو من كبار تلامذة المرتضى والمفيد»(1).
8. السّيّد محسن الأمين العامليّ (ت 1371ﻫ) في أعيان الشيعة: «كان متكلّماً، أصوليّاً، فقيهاً، أديباً، نحويَّاً، ذا شهرة واسعة بين العلماء، فكانوا يقفون عند أقواله، وينقلونها في كتبهم، وحسبه شرفاً أنّه يُعدّ من أجلّة تلامذة المفيد والمرتضى»(2).
6. المراسم العلويّة، مطبوع.
7. المقنع في المذهب، مفقود(1).
قال الصّفديّ (ت 764ﻫ): مات في صفر سنة 448 ه-(2).
وذكر السّيّد محسن الأمين العامليّ (ت 1371ﻫ) والشّيخ آقا بزرك الطّهرانيّ (ت 1389ﻫ) نقلًا عن نظام الأقوال(3) أنَّه: «مات بعد الظّهر من يوم السّبت لستٍّ خلون من شهر رمضان سنة 463 ﻫ»(4).
وقال الميرزا عبد الله الأفندي (ت حدود 1130ﻫ) في كتابه (رياض العلماء وحياض الفضلاء) نقلاً عن تذكرة الأولياء(5): «إنّ سلّار بن عبد العزيز الدّيلميّ مدفون في قرية خسرو شاه من قرى تبريز».
وقال الأفندي: وقد وردتُ عليها أيضاً وسمعتُ من بعض أكابرها بل من جميع
ص: 467
أهلها أنَّ قبره (قدس سره) بها، وكان قبره هناك معروفاً، وقد زرته بها، وخسرو شاه: كان (كانت- ظ) في الزمن القديم بلدة كبيرة معروفة من بلاد آذربيجان، والآن صارت قرية.. وهي من تبريز على مرحلة بقدر ستّة فراسخ»(1).
وقال السّيّد محمّد حسين الجلاليّ: «حدّثني السّيّد محمّد عليّ القاضي التبريزيّ أنّ مزاره معروف، وتزوره الطائفة»(2).
ص: 468
مختصرٌ فتوائيّ معروف من أحكام الطّهارة إلى الدّيات، في قسمين: (العبادات والمعاملات)، في بعض مسائله إشارة إلى بعض الأدلّة، ألَّفه باسم أحد السّلاطين لم يذكر اسمه صريحاً في مقدّمة المؤلَّف، وسُمّي في بعض الفهارس (الأحكام النّبويّة والمراسم العلويَّة)، واشتهر ب-(المراسم)، وقد يعبّر عنه ب-(الرّسالة) اختصاراً(1).
1- شرحٌ لبعض المقاربين لعصر المصنِّف - وهو هذا الذي بين يدي القارئ
الكريم - وسيأتي الحديث عنه مفصّلاً - إنْ شاء الله تعالى - في الفقرة الثالثة.
2- شرحٌ في زمن المحقّق الحلّيّ (ت 676ﻫ) أو قبله بيسير، نقل عنه الشّهيد الأوّل (ت 786ﻫ) في كتابه (ذكرى الشّيعة) بعض الفوائد في باب التّسليم، ولعلّه متّحد مع الشّرح الأوّل(2)، أو مع الشّرح اللاحق(3).
ص: 469
3- شرحٌ في زمن فخر المحقّقين الحلّيّ (ت 770ﻫ) أو قبله بيسير، فإنّه نقل عنه في كتابه (إيضاح الفوائد) في كتاب الطلاق، وهو غير الشّرح الأوّل(1)، ولعلّه متّحد مع السابق، والأمر يحتاج إلى تحقيق(2).
4- شرح السّيّد الفاخر, نقل عنه الشّهيد الأوّل (ت 786ﻫ) عند الحديث عن تحديد موضع مسجد الحصبة, حيث قال: (وقال السّيّد ضياء الدّين بن الفاخر شارح الرّسالة: ما شاهدت أحداً يعلمني به ..)(3).
ونَقل ذلك عن الشّهيد الأوّل جملة من المتأخرين عنه، منهم: السّيّد محمّد العاملي (ت 1009 ﻫ)(4), والسّيّد أحمد العلوي العاملي (ت 1060 ﻫ)(5), والمحقّق السّبزواري (ت 1090 ﻫ)(6), والعلّامة المجلسي (ت 1110 ﻫ)(7), والفاضل الهندي
ص: 470
(ت 1137 ﻫ)(1), والشّيخ يوسف البحراني (ت 1186 ﻫ)(2).
ونقل عن شرح الفاخر - هذا - الشّيخ حسين بن موسى العامليّ البابلي في كتابه (نزهة الأرواح فيما يتعلّق بأحكام النّكاح) المؤلَّف سنة (888 ﻫ) بلفظ: (السيد الفاخر شارح رسالة سلار..), ونقل عنه قولاً فقهيّاً نادراً ذكرناه بالهامش(3).
ونقل هذا القول عن السيد الفاخر في شرح الرسالة دون ذكر لفظ (المراسم): الشّهيد الّثاني (ت 966 ﻫ)(4), والسّيّد محمّد العامليّ (ت 1009ﻫ)(5)، وآقا جمال الدين الخوانساري (ت 1125 ﻫ)(6), والفاضل الهنديّ (ت 1137ﻫ)(7).
وقد ذكر الميرزا عبد الله الأفندي أنَّ السّيّد الفاخر شارح رسالة سلّار هو السّيّد ضياء الدين ابن الفاخر مستشهداً بما ذكره الشّهيد الأوّل في الدّروس وغاية المراد(8).
ص: 471
وهو الأرجح. ولعلَّ الشّارح له صلة بالسيّد الفاخر ابن فضائل العلويّ شيخ سديد الدّين يوسف بن علي بن المطهَّر(1) (كان حيَّا سنة 665 ﻫ) - والد العلّامة الحلّيّ - فيكون الشّارح بطبقة سديد الدّين يوسف ابن المطهَّر الحلّيّ.
وقد تفرّد الشّيخ حسين آل عصفور (ت 1216 ﻫ) في كتابه (الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع) بالنّصّ على أنَّ السّيّد الفاخر شارح المراسم هو: السيد أحمد ابن طاووس (ت 763 ﻫ)(2).
وكيف ما كان, فهو غير الشّرح الأول(3), ولعلّه متّحد مع السّابِقَين والأمر يحتاج إلى تحقيق. ولم يذكر الشّيخ آقا بزرك الطهرانيّ (شرح الفاخر) في كتابه (الذريعة).
5- العلائم في شرح المراسم: للسيّد محمّد عليّ المعروف بآقا مجتهد ابن السّيّد صدر الدين الموسويّ العامليّ الأصفهانيّ (ت 1274 ﻫ)، غير تامّ(4).
ص: 472
اختصره نجم الدّين جعفر بن الحسن المعروف بالمحقّق الحلّيّ (ت 676ﻫ)(1).
لعلَّ من الغالب أن يكون لكلِّ مؤلَّفٍ قديم عدّة نسخ خطّيّة منتشرة في ربوع الأرض، وحينئذٍ فليس من الغريب أن يكون لكتاب (المراسم العلويَّة) أكثر من نسخة، ففي إيران (38) نسخة، وفي النّجف الأشرف (3) نُسخ(2)، وهنا اقتصرت على ذكر ثلاث نسخ قديمة ونفيسة:
1- نسخة ضمن مجموعة عليها إجازة بخطّ القطب الراونديّ، سعيد بن هبة
الله الحسنيّ (ت 573ﻫ) كتبها لولده نصير الدين حسين الشّهيد، رآها الشّيخ آقا بزرك الطهرانيّ عند الشّيخ محمّد السماويّ(3)، وانتقلت هذه النّسخة إلى مكتبة الإمام الشّيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء وتسلسلها فيها (316)، رأيتها ضمن مجموعة مع كتاب (الجواهر في الفقه) لابن البرّاج، و(شرح المراسم)، وسيأتي الحديث عنها في الفقرة الثالثة.
2- نسخة كتبها عليّ بن الحسين بن فادشاه بن أبي القاسم بن أميرة بن أبي الفضل ابن بندار.. بن موسى بن أبي جعفر الجواد، يوم الخميس 5 شهر ربيع الأوّل سنة 675ﻫ، وهي الآن في مكتبة جامعة طهران بالرقم 701، 76 ق، 17س، 5، 17× 26 سم(4).
ص: 473
3- نسخة كتبها محمّد بن إسماعيل بن الحسن الهرقليّ الحلّيّ(1)، يوم الأربعاء 4جمادى الآخرة سنة 677ﻫ، وهي الآن في مكتبة جستربيتي (في دبلن بإيرلندا) بالرقم: 3878، 99ق، 15 س، ومصوّرتها في مكتبة السّيّد المرعشي(2) بالرقم (735).
وكانت هذه النّسخة في مكتبة الشّيخ عبد الحسين الطهرانيّ (ت 1286ﻫ) في كربلاء، وقد رآها الشّيخ آقا بزرك الطهرانيّ (رحمة الله) وذكرها عند ترجمة النّاسخ بما نصّه: «ورأيت أيضًا بخطّه (المراسم العلويَّة) لسالار الدّيلميّ في مكتبة الطهرانيّ بكربلاء، كتبه في بغداد وفرغ منه ليلة الأربعاء 14 جمادى الآخرة سنة 677ﻫ »(3).
وهنالك نسخ أخرى قديمة ومتأخّرة ليس هنا محلٌّ لذكرها، فمن أرادها فليرجع إلى مظانّها.
الأولى: طبع ضمن (الجوامع الفقهيّة) على الحجر سنة 1276ﻫ، وترتيبه في الجوامع السّابع بين اثني عشر كتاباً، ونسخته كتبها محمّد رضا ابن الميرزا عبد الله الطّبيب بتاريخ سنة 1276ﻫ، 35 ص، رحليّ.
الثانية: طبع بعنوان (المراسم في الفقه الإماميّ)، بتقديم وتحقيق الدكتور محمود البستاني في النّجف الأشرف ضمن منشورات (جمعيّة منتدى النّشر)، الرقم (4)، بيروت، سنة 1400 ﻫ، 272 ص، وزيريّ.
ص: 474
الثالثة: أوفسيت على الطبعة السابقة، منشورات الحرمين، قمّ المقدّسة، سنة 1404ﻫ.
الرابعة: بتحقيق السّيّد محسن الحسينيّ الأمينيّ ومراجعة السّيّد محمّد جواد الجلاليّ في المجمع العالميّ لأهل البيت (علیهم السلام)، قمّ المقدّسة، سنة 1414ﻫ، 280 ص، وزيريّ.
الخامسة: أعيد طبع السابقة بالأوفسيت في دار الحقّ، بيروت، سنة 1414ﻫ.
وطبع أيضاً مبثوثاً ضمن (سلسلة الينابيع الفقهيّة)، جمع: الشّيخ عليّ أصغر مرواريد, نشر: مؤسسة فقه الشّيعة، مط: الدّار الإسلاميّة، بيروت، ط1، 1410ﻫ .
ص: 475
هو شرحٌ مختصرٌ على نحو التعليق، بعناوين (قوله - قوله)، رآه وذكره الشّيخ آقا بزرك الطهرانيّ عند الشّيخ محمّد السماويّ ضمن مجموعة عليها إجازة بخطّ قطب الدين الراونديّ، سعيد بن هبة الله الحسنيّ (ت 573ﻫ)، كتبها لولده نصير الدّين حسين الشّهيد، وهو ناقص الأوّل، يبدأ من ذِكر حكم (من دخل مكة محرماً بالعمرة الرجبيّة وأقام بها عازماً على الحج)(1) إلى آخر الحدود والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الذي ينتهي به كتاب المراسم(2).
وقد أشار الشّيخ عزّالدين الحسن بن أبي طالب اليوسفيّ المعروف بالفاضل الآبيّ (ت 690ﻫ) إلى هذا الشّرح في كتابه (كشف الرموز)(3).
وقد انتقلت هذه النسخة إلى مكتبة الإمام كاشف الغطاء العامّة وتسلسلها (316)، رأيتها وهي على النّحو الآتي:
النّسخة ضمن مجموعة ضمّت ثلاثة كتب بخطٍ واحد, مضبوطة التّشكيل غالباً:
الأوّل: الجواهر في الفقه: للقاضي سعد الدين أبي القاسم عبد العزيز بن نحرير بن
ص: 476
عبد العزيز بن البرّاج، قاضي طرابلس ( ت481 ﻫ). ناقص الآخر, ينتهي بالمسألة ذات الرقم (733) من المطبوع, ويقع في 45 ورقة, ورقتان منها بياض, وعليه إجازة السّيّد سعيد بن هبة الله الراونديّ المذكورة، ونصّها: « كتاب الجواهر في الفقه: تأليف القاضي أبي القاسم عبد العزيز بن نحرير ابن البرّاج(1) (رضي الله عنه) قرأه عليّ ولدي نصير الدين أبو عبد الله الحسين(2) (أبقاه الله(3) ومتّعني به) قراءة إتقان، وأجزت له أن يرويه عنّي، عن الشّيخ أبي جعفر محمّد بن المحسن الحلبيّ، عنه، كتبه: سعيد بن هبة الله»(4).
الثاني: المراسم العلويَّة: لسلّار بن عبد العزيز الدّيلميّ(ت 463ﻫ)، ناقص الأوّل والآخر، يبدأ بباب ذكر ما يتطهَّر به من الأحداث وينتهي بذكر أحكام الجنايات في القضاء، ويقع في (31) ورقة، بعض أوراقه مخرومة(5).
الثالث: شرح المراسم العلويَّة: ناقص الأوّل، ويبدأ من ذكر حكم (من دخل مكة محرماً بالعمرة الرجبيّة وأقام بها عازماً على الحج)(6)، ثمَّ كتاب الزّكاة.. إلى آخر كتاب المراسم, ويقع في (11) ورقة، واستنسخ عن هذه النسخة أوّلاً: الشّيخ محمّد بن محمّد ابن عليّ الفراهانيّ المحمّد آباديّ في شعبان سنة 618 ﻫ، ثمّ استنسخ عنها في شهر
ص: 477
رمضان من تلك السّنة أيضاً الشّيخ أبو جعفر عليّ بن الحسن(1) بن أبي العبّاس(2) الجاستي(3) الوارانيّ وكتبا ذلك بخطّهما في إنهاء النسخة.
ونصّ ما كتبه الأوَّل: «انتسخ منه أضعف عباد الله وأحوجهم إلى رحمته محمّد بن محمّد بن عليّ الفراهانيّ المحمّد آباديّ في عشر الأواخر من شهر الله المبارك شعبان سنة ثمان عشر وستّمائة داعيًا لصاحبه ومستغفرًا لمصنِّفه»(4).
ونصُّ ما كتبه الثاني: « انتسخ من هذا الكتاب العبد الضعيف الفقير المحتاج إلى رحمة الله تعالى أبو جعفر عليّ بن الحسن بن أبي العباس الجاستي الوارانيّ في شهر الله المبارك رمضان عظَّم الله بركته سنة ثمان عشر وستّمائة داعيًا لصاحبه بالخير».
والنّسخة عليها ختم مكتبة مجد الدّين [مجد الدّين محمّد النّصيريّ الأمينيّ (ت1390ﻫ) ظاهراً]، وختم مكتبة الشّيخ السماويّ، 87 ورقة، مختلفة السطور، 7، 13× 20 سم، الغلاف: جلد، أسود.
ولا يخفى أنَّ اختيار ذوي الاختصاص لنسخةٍ معيّنةٍ - دون غيرها - لاقتنائها أو اعتمادها في التدريس وكتابة الإجازة عليها يضفي عليها مزيّة دون أدنى شكّ كما هو الحال في هذه المجموعة.
ص: 478
لم نتمكن من تشخيص الشّارح على وجه التحديد بسبب فقدان الأوراق الأولى من هذا الشّرح, ولكن المؤشرات كلّها تفيد بأنّه من المقاربين لعصر المصنِّف, وقد صرّح بذلك الشّيخ آقا بزرك الطّهرانيّ(1), حيث إنَّ هذه النّسخة انتسخ منها سنة (618ﻫ) كما ذكرنا, إضافة إلى أنَّ هذا الشّرح يقع ضمن مجموعة بخطٍ واحد, وعلى وجهها إجازة بخطّ القطب الرّاونديّ المتوفّى سنة (573ﻫ).
بل يمكن القول بأنّ الشّارح من تلامذة ابن إدريس (ت 598ﻫ) حيث أشار إليه بقوله: (وَوجَدتُ بعضَ مشايخي..)(2) وبعدها نقل قولاً لابن إدريس.
عنه, فهو محلّ نظر الأعلام كما مرّ وسيأتي ما عن الفاضل الآبي (ت 690 ﻫ)(1), لا سيّما أنَّه مكتوب في القرن السّادس للهجرة.
إضافة إلى إمكان الاستعانة به في تصحيح بعض العبائر الواردة في المطبوع والمتداول من المراسم العلويَّة والّتي لا شكّ في غلط بعضها (2), ولا أقل أنَّه يمثّل نسخة قديمة نفيسة من المراسم العلويَّة لابدّ من مراعاتها عند نقل آراء سلّار, خصوصاً وأنَّ الشّارح - كما يظهر منه - يرجع إلى أكثر من نسخة للمراسم العلويَّة لتمييز الصّحيح والمتقن من بينها(3).
حيث لم يتيسّر لنا الحصول على غير النّسخة الّتي ذكرناها - على الرغم من البحث والفحص في عدد من المكتبات في العراق وإيران - فقد اعتمدنا عليها وحدها في التّحقيق، وقد تلخّص عملنا في ما يأتي:
1. صفّ حروف النّصّ, ثمَّ التأكّد من مطابقته مع المخطوط, ثمَّ تقطيعه وتقويمه بمّا يشتمل على ضبطه - مراعياً في ذلك ضبط المخطوطة غالباً - ووضع علامات الترقيم ونحوها ورعاية قواعد الإملاء.
ص: 480
2. تخريج الآيات الكريمة, والأحاديث الشّريفة.
3. تخريج الأقوال الفقهيّة, والأصوليّة, وغيرهما من مصادرها.
4. تخريج المنقول عن المراسم العلويَّة على وفق المطبوع بتحقيق السّيّد الأميني باعتباره الطّبعة الأخيرة للكتاب, وفي حال وجود تصرّف من الشّارح أو اختلاف فإنّا نشير إلى ذلك من خلال ذكر لفظ: (يلاحظ) قبل التّخريج. كما ننبّه على وجود اختصار إنْ وجد.
5. مطابقة المنقول عن المراسم العلويَّة في هذا الشّرح مع النّسخ التّالية من المراسم العلويَّة مع الإشارة لموارد الاختلاف في الهامش إلّا إذا كان الاختلاف طفيفاً:
أ. النّسخة المخطوطة النّفيسة الّتي اشرنا إليها سابقاً - حيث إنّها في ضمن المجموعة - وقد أشرنا لها في الهامش بالرمز (خ).
ب. النّسخة المطبوعة بتحقيق الدكتور محمود البستانيّ, وقد أشرنا لها في الهامش بالرمز (م1).
ت. النّسخة المطبوعة بتحقيق السيد محسن الأمينيّ, وقد أشرنا لها في الهامش بالرمز (م2).
6. حرصنا على عدم تجاوز المقدار الضّروري من الإضافة على المتن, ووضعنا ما أضفناه بين معقوفين, فبعضها زيادة منّا اقتضاها السياق، وأُخرى من المصدر, وثالثة من المراسم العلويَّة، وأشرنا إلى كلّ ذلك في الهامش.
ص: 481
وفي الختام - بعد شكر الله سبحانه وتعالى أوَّلاً على ما أنعم من توفيقي لمثل هذا العمل الّذي أرجو أنْ يسهم ولو بجزء يسير في خدمة العلم والعلماء - أتقدَّم بخالص شكري وعظيم امتناني إلى إدارة مكتبة الإمام الشّيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء العامَّة حيث وفّرَت لنا هذه النسخة الفريدة, وأخصّ بالذكر منهم فضيلة الشّيخ شريف كاشف الغطاء ونجله العزيز الشّيخ أمير حفظهما الله تعالى, والشّكر موصولٌ لمن هيَّأ لنا ذلك وسهَّل لنا مقدّمات العمل الأخ العزيز الباحث المتتبّع أحمد علي مجيد الحلّيّ, كما أخصّ بالشّكر الإخوة الأفاضل في إدارة مجلَّة (دراسات علميّة) وكلّ من أسهم في إنجاز هذا العمل, سائلاً المولى القدير أنْ يجعل ذلك في ميزان حسناتهم أجمعين, إنَّه سميع مجيب, والحمدُ لله أوَّلاً وآخراً وصلَّى الله على محمَّد وآله الطاهرين.
جواد الموسويّ الغريفيّ
النَّجف الأشرف
غرّة شعبان المعظَّم 1437 ﻫ
ص: 482
صورة
الصفحة الأولى من المخطوطة
ص: 483
صورة
الصفحة الأخيرة من المخطوطة
ص: 484
شرح
المراسم العلویة
فی الاحکام النبویة
لأحد علماء القرن السادس الهجري
تحقیق
السيد جواد لموسوى الغریقی
ص: 485
ص: 486
.. (1) عمّن أحرم في رجب, هل عليه دم إذا عزم على الحج؟ فقال(2): إنْ أقام بمكّة حتّى يحرم منها فعليه دم, وإنْ خرج منها فأحرم من غيرها فليس عليه شيء(3))(4).
ثمَّ اعلم أنَّ من دخل مكّة محرماً بالعمرة الرَّجبيَّة - فإنَّها تلي الحجّ في الفضل - وأقام بها عازماً على أنْ يحج, فلا يخلو: إمّا أنْ يكون حكمه حكم حاضري المسجد الحرام, أو يكون حكمه حكم غير حاضريه.
وإنْ كان حكمه حكم أهل مكّة وأقام بمكّة إلى أنْ يحرم معهم للحج المفرد فعليه دم, وإنْ انصرف إلى منزله وأحرم منه فلا دم عليه, هذا إذا كان منزله دون الميقات إلى مكّ- [ة, وإنْ](5) كان الميق- [ات دون] منزله, فليحرم من الميقات ولا دم عليه أيضاً. وإنْ كان حكمُه غيرَ حكم أهل الحرم وأقام هذا المعتمر بمكّة إلى دخول أشهر الحج فلا بُدَّ له من عمرة أخرى يتمتّع بها إلى الحج الّذي هو فرضه وهو المتمتّع.
ص: 487
وقوله: (وإنْ طافَ غير متوضئ ناسياً ثُمَّ ذكر فإنْ كان طواف النَّفل فلا إعادة عليه, وروي أنَّه يتوضأ ويصلّي ركعتيه(1) (2))(3).
اعلم أنَّ حكم جميع ذلك واحد, وليس جميعه إلَّا رواية واحدة - كما ذكرَه غيرُه - ولا حاجةَ إلى قوله: (ورُوي).
وقوله: (ومن وجد نفسه - عند ظنّه بقضاء(4) السّعي - على الصّفا, وتيقَّن أنَّه بدأ بالصّفا, سعى سعياً آخر وتمّم(5) أسبوعاً على مرَّة الغلط. وإنْ لم يقطع: فإنْ وجد نفسه في الشّوط الثّامن على المروة أعاد, وإنْ كان في الشّوط التّاسع لم يُعِد)(6).
معناه: من ظنَّ أنَّه قضى سعيه وتمَّمه في حال كونه على الصّفا, فإنْ عَلِمَ أنَّه بدأ للسعي بالصّفا كما أمر الله, فقد زاد شوطاً على سبع مرّات الّتي هي سعي واحد, فعليه أنْ يتمّم سعياً آخر بناءً منه على ذلك الشّوط الواحد الزّائد وهو مرَّة الغلط.
وإنْ لم يعلم يقيناً بالّذي بدأ به في سعيه وهو على المروة, فلا يخلو حاله: إمَّا أنْ يكون
ص: 488
في الشّوط الثّامن أو التّاسع, فعلى الأوَّل: عليه إعادة السّعي؛ لأنَّه بدأ بالمروة على خلاف ما أمر الله به, وفسد سعيه. وعلى الثّاني: لا إعادة عليه؛ لأنَّه كان بدأ بالصّفا وقد زاد شوطين, فليتمّمها سعياً آخر إلى تمام سبعة أشواط, ويسمّى: (أسبوعاً).
ص: 489
قوله: (في الإبل: اثنا عشر نصاباً، [و](1) في البقر نصابان، وفي الغنم أربعة أنصاب(2))(3).
فقد نقص نصاباً من الإبل, ومن البقر نصابين, ومن الغنم نصاباً في اللّفظ وإنْ وافق في المعنى المشايخَ(4), ولو عَدّ الأشناق(5) - الّتي هي ثلاثة عشر في الإبل - لعلم أنَّ النُّصُب في الإبل ثلاثة عشر, كما ذكره الشّيخ أبو جعفر, فإنَّه قال - بعد مائة وإحدى وعشرين -: (وما زاد على ذلك أربعون أو خمسون)(6).
هذا بعينه هو الّذي ذكره في الأحكام النّبويّة هذا الشّيخ, فقال: (ثمَّ ينتقل بزيادة
ص: 490
ثلاثين - في الثّاني عشر - عن(1) هذا الاعتبار, إلى أنْ يخرج من كلِّ خمسين حقّة, ومن كلِّ أربعين بنت لبون)(2), فوافق في المعنى وإنْ خالف في اللّفظ.
وفي الجمل والعقود: (النُّصُب في البقر أربعة: أوَّلها ثلاثون, والثّاني أربعون, والثّالث ستّون, والرّابع في كلِّ أربعين مسنَّة, وفي كلِّ ثلاثين تبيعة)(3). وإنَّما ذهب من الأحكام النّبويّة نصابان؛ لأنَّه لم يذكر فيه الأوقاص(4) الأربعة الّتي في البقر, وهي في الأوَّل (تسعة وعشرون). وفي الثّاني (تسعة). وفي الثّالث (تسعة عشر). وفي الرّابع (تسعة تسعة) بالغاً ما بلغ(5).
وكذلك ذهب في الأحكام النّبويّة من الغنم نصاب, وهو الأخير, فقد قال الشّيخ أبو جعفر: (النُّصُب في الغنم خمسة: أوَّلها (أربعون), والثّاني (مائة وإحدى وعشرون), والثّالث (مائتان وواحدة), والرّابع (ثلاثمائة وواحدة), والخامس (أربعمائة) يُؤخَذ من كلِّ مائةٍ شاةٌ بالغاً ما بلغ)(6). وربَّما تغافل في اللَّفظ عن ذلك؛ لأنَّه لم يَعدّ أنواع العفو الّتي هي (خمسة).
ص: 491
وقد أشار إليه من حيث المعنى فقال - بعد ذكر الثّلاثمائة -: (ثمَّ ينتقل بزيادة مائة إلى أنْ يخرج من كلِّ مائة [ش]اة) (1).
وسرُّ المسألة أنَّ في ثلاثمائة وواحدة أربع شياه, فإنْ زادت عليها مائة غير اثنتين فهي عفو, ولا عفو في أربعمائة, ففيها أربع شياه.
وقوله في ذكر الصّفة الّتي إذا حصلت وجبت الزّكاة في الأنعام, فقال: (هي: السّوم, والتّأنيث, وكلاهما يُعتبر في النّعَم. ولا تجب في المعلوفة زكاةٌ, ولا في الذّكورة, بالغاً ما بلغت)(2).
فزاد التّأنيث في شرائط وجوب زكاتها على ما ذكره جميع مشايخنا في اللّفظ, وهو في الحقيقة مثل ما يقولونه، وهو: أنْ تُتَّخَذ الأنعام للنتاج، ولا خلاف أنَّه إذا كان في السَّائِمة فحلان فصاعداً فإنَّه يُعدُّ في جملة المواشي عند عَدِّها للزكاة.
وقوله: (الوقت الّذي تجب فيه زكاتها رأس الحول إذا أتى على نصابٍ ثابتٍ في الملك(3)) (4).
يعني إذا استهلَّ الشَّهر الثّاني عشر فقد وجبت الزّكاة فيها، وهذا مثل ما في الجمل والعقود إنَّ الزّكاة لا تجب في الأنعام كلِّها إلَّا بشرائط أربعة: (الملك، والنِّصاب، والسَّوم، والحول) (5).
ص: 492
وقوله: (الفقراء: المحتاجون الّذين لا يسألون, والمساكين: المحتاجون السّائلون)(1).
وقال الشّيخ أبو جعفر: (الفقير: الّذي له بلغة. والمسكين: الّذي لا شيء له)(2). وقيل على عكس ذلك(3). ولابأس بهذا الخلاف لأنَّ الفقير إذا أُطلق مفرداً دخل فيه المسكين، وكذا لفظ المسكين إذا ذُكِرَ وحده دخل تحته الفقير؛ لأنَّهما متقاربان في المعنى.
وقوله: (والغارمون وهم مَنْ عليه دين ولا وجه له يقضيه به(4))(5).
هذا على الإطلاق غير صحيح، والعمل على ما ذكره الشّيخ أبو جعفر من أنَّ الغارمين هم الّذين ركبتهم الدّيون في غير معصية ولا إسراف تقضى عنهم ديونهم من الزّكاة (6)، وربّما يقضي الإمام ديونهم من سهم الغارمين من جملة الزّكاة إذا كانوا استدانوا وأنفقوا في طاعة الله وإنْ كان لا يعلم فيما أنفقوا. ولو علم أنَّهم أنفقوه في معصية الله لم يجب عليه القضاء عنهم, بل إذا وسَّع الله عليهم قضوا عن أنفسهم، ولعلَّه ظنَّ أنَّ الإمام إذا رأى مديوناً من المؤمنين ولم يعلم أنَّه أنفق ذلك في طاعةٍ أو معصيةٍ كان عليه أنْ يقضيه عنه من الزَّكاة.
ص: 493
ويمكن أنْ يقال: إنَّه إذا لم يعلم حقيقة ذلك، والظّاهر أنَّه لا ينفق في معصية الله، جاز له ذلك, فحينئذٍ استقام(1) مقول هذا الشّيخ مع إطلاقه.
ص: 494
[كتاب الخمس](1)
وقوله: (وفي هذا الزّمان قد أحلّونا ممّا نتصرَّف فيه من ذلك كرماً وفضلاً لنا خاصّة(2)) (3).
وقال ذلك بعد ذكر تفصيل الأنفال الّتي فيها ميراث الحَشْريّ, وهو الّذي لا وارث له, ولا ولاء عليه لأحدٍ, مِنْ عتقٍ وضمان جريرة.وقوله: (والقطائع)(4).
أيّ قطائع الملوك من الخيل والأنعام السّائمة وغيرها لهم غير المغصوبة، والمعادن، والآجام، والمفاوز, وقد أطلق الكلام في إحلال جميع ذلك.
والصّحيح(5) أنَّهم عليهم السَّلام رخّصوا في الغيبة للإماميَّة التّصرّف في حقوقهم ممّا يتعلَّق بالأخماس وغيرها فيما لابدَّ لهم مِنْ المناكح والمتاجر والمساكن, ولا يجوز لنا التّصرّف فيما عداها(6).
ص: 495
وما يستحقونه من خمس الكنوز وغيرها فيه خلاف بين أصحابنا(1).
وفي حال غيبة الإمام التَّصرُّف في أَرَضِيه إنَّما يجوز على وجه لا يتأذّى به الغير، فإذا كانت أرض منها في يد مؤمن ينتفع بها فليس لغيره من المؤمنين انتزاعها من يده لأجل نفسه، ولا يحلّ أيضاً لمؤمنٍ أنْ يأخذ جميع أَرَضِي الإمام لنفسه وهناك من جملة المؤمنين من يحتاج إلى بعض منها, ولا يعطيها إيَّاه, ولا يمكّنه منها.
ص: 496
قوله في شرائط الأنكحة: (الواجب منها الإيجاب والقبول, والمهر أو(1) الأجر أو(2)
الثّمن, وكون المتعاقدَين متكافئين في الدِّين)(3).
هذا لا ينافي ما بعده من قوله: (المهر على ضربين: مسمَّى وغير مسمَّى)(4).
لأنَّ وجوب المهر من شرائط صحَّة النِّكاح من حيث إنَّ نكاح الشّغار باطل.
فأمَّا المهر إذا لم يُسمَّ ففيه مهر المثل, أو ما يقوم مقامه.
وقوله: (وكون المتعاقدين متكافئين في الدِّين) إشارة إلى صحَّة العقد بين مؤمنة ومؤمن وإنْ لم يكن للرجل مال ينفقه عليها، ولا كفاية، ولا حرفة، إذا رضيت المرأةُ بذلك.
وأمّا إذا خطب مؤمن لا شيء له يجعله مهرَ امرأةٍ, أو كان ذلك له ولا يقدر على ما ينفق عليها فمنع أبوها أنْ يزوّجها منه لم يكن عاصياً لله تعالى بذلك؛ لأنَّ الكفاية أيضاً شرط في الكفاءة فضلاً على الدِّيانة.
والإيجاب من جانب المرأة ومن حكمه حكمها. والقبول من جانب الرَّجل أو وكيله.
وقيل: يجوز على عكس ذلك أيضاً(5).
ص: 497
والمهر هو الصَّداق في نكاح الدَّوام.
والأجر - على الأكثر - يستعمل فيما ينعقد به نكاح المتعة.
والثّمن ما يشترى به الجواري والإماء.
والأولى أنْ لو قال:(والثَّمن أو ما يقوم مقامه) لأنَّ بهبة الإماء - رقبةً أو وطئاً - من مالكهنَّ أو بميراثهنَّ أو سبيهنَّ يُستباح وطؤهنَّ كما يكون بالاشتراء.
وقوله: (ولا يجوز نكاح أُمِّ الأَمَة الموطوءة ولا أُختها) (1).
معناه أنَّه يحرم على مَنْ وطئ جاريةً أنْ يطأ أُمّها على كلِّ حال، ولا يحلُّ له ذلك أبداً، وهذا لا يصحُّ في أُخت الأَمَة الموطوءة على الإطلاق، وإنَّما يكون ذلك محرّماً بالجمع بينهما في حالة واحدةٍ في الوطء, كما ذكره الله: ﴿وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾(2) وذلك عامّ يتناول وطء الحرائر والإماء.
وقوله: (لا خيار للصغار - إذا عقد لهنّ آباؤهُنَّ - بعد البلوغ. وكذا إنْ عقد عليهنّ(3) أجدادهنَّ)(4).
ص: 498
هذا أيضاً على الإطلاق غير صحيحٍ في حق الجدّ؛ لأنَّ الجدَّ إنَّما يكون له حكم في نكاح الصّغيرة مع وجود أبيها الأدنى, فإذا كان أبوها ميتاً فلا حكم للجدّ في ذلك ويكون الجدُّ حينئذٍ بمنزلة الأَخ(1).
وقوله: (ومن جملة واجبات شروط النّكاح: أنْ تكون المرأةُ مؤمنة أو مستضعفة, فإنْ كانت معاندة لم يصحّ نكاحها غِبطةً؛ لأنَّ الكفاءة في الدِّين مراعاة عندنا في هذا(2) العقد)(3).
هذا بأنْ تحمل على الأَولى أحقُّ وأَولى؛ لأنَّ المؤمن إذا تزوَّج بامرأة مخالفة له في الاعتقاد, تُعانِد في المذهب, فإنَّ النّكاح ينعقد بينهما وإنْ لم يجز العقد عليها حظراً أو كراهة, وكانت لزين العابدين عليه السَّلام زوجة فظهر له أنّها خارجيّة فطلّقها .
وقوله: (وإنْ عَقَدَ على مَنْ هي في عدَّةٍ لبعلٍ له عليها فيها رجعة فعلى ضربين: إنْ دخل بها عالماً بتحريم ذلك لم تحلّ له أبداً، وإنْ كان جاهلاً بالتَّحريم, أو لم يدخل بها استؤنف العقد، والأوَّل باطل)(4).
هذا التّقييد بذكر (الرُّجعَى) في عدَّة المطلَّقة لا يصحّ، لأنَّ المرأة إذا تزوَّجها إنسان في عدَّةٍ ودخل بها فإنَّها تحرم عليه أبداً سواء كانت التَّطليقة بائنة أو رجعية أو في عدَّةٍ تُوفّي عنها زوجها.
ص: 499
وأمَّا قوله: (وإنْ كان جاهلاً ولم يدخل بها استؤنف العقد) فإنَّه على هذا الوجه صحيح؛ لأنَّه إذا كان جاهلاً بذلك فارقها حتى تخرج من العدَّة, فإذا خرجتْ منها عقد عليها إنْ شاء ما لم يكن قد دخل بها.
فأمَّا إذا رُوي بلفظة: (أو) في قوله: (وإنْ كان جاهلاً بالتَّحريم أو لم يدخل بها استؤنف العقد) فلا يصحّ؛ لأنَّ العمل في ذلك على ما هو في النّهاية, وهو قوله: (إذا تزوَّج الرَّجل بامرأة في عدّتها وهو عالم بذلك لم تحلّ له أبداً سواء دخل بها أو لم يدخل بها. إنْ لم يكن عالماً بذلك ولم يدخل بها فإنَّه يعقد عليها بعد العدَّة, وإنْ كانت المرأة عالمة بذلك لم يجز لها أنْ ترجع إليه)(1), فقوله: (وهو عالمٌ بذلك) أيّ هو عالم بكونها في العدَّة. وقيل: يعني أنَّه عالم بتحريم ذلك. والعموم يتناولهما ولا يليق بنفي قوله: (وإنْ كانت عالمة بذلك) إلَّا أنْ يقال معناه: وإنْ كانت عالمة بتحريم نكاح الغير لها في العدَّة, فمن هاهنا لم يصحّ كلام الشَّيخ أبي جعفر على وجه.
وقوله: (وإنْ عقد عليها في إحرام فإنَّه لا يصحّ وتحرم عليه أبداً)(2).
ليس هذا التّحريم على سبيل الإطلاق، وله تفصيل بأنْ يقال: إنَّ المُحرِم إذا عقد على امرأة وهو عالمٌ بأنَّ ذلك محرَّم فُرِّق بينهما ولم تحلّ له أبداً. فإنْ لم يكن عالماً بذلك فرِّق بينهما فإذا أحلّا استأنفا العقد إنْ أرادا. وكأنَّه عنى بذلك إنْ عقد عليها في إحرام ودخل بها حرمت عليه أبداً.
ص: 500
وقوله: (وإنْ قذف امرأة له صمَّاء أو خرساء في عقدٍ أوَّل لا تحلُّ له أبداً)(1).
يعني إنْ قذف رجلٌ زوجَته الصّمَّاء أو الخرساء تحرُم عليه أبداً. فإنْ قذف امرأة صمَّاء أو خرساء ولم تكن زوجة له فإنَّه يجوز له أنْ يعقد عليها متى شاء. فأمّا إنْ عقد عليها وقذفها في حال سبقها العقد وكان العقد قبل القذف فإنَّها لاتحلُّ له أبداً .
وقوله: (فإنْ زنا بأجنبيّة لم تحْرم عليه أُمّها ولا بنتها)(2).
ليس العمل على هذا, فإنَّ العقد على أُمِّها وبنتها يحرم أبداً، والّذي حمله على ذلك أنَّه رأى الخبر المروي عنهم عليهم السَّلام وقد سُئِلُوا عمّن فجر بعمَّته وخالته, فقالوا: (يحرم عليه أبداً أنْ يتزوَّج بنتيهما)(3) فظنَّ أنَّه إنْ قال: (إنَّ الأجنبيّة إذا زنا بها كان حكم بنتها ذلك) كانَ قياساً, ولو نظر في النَّصِّ الوارد في بنتي العمَّة والخالة لعَلِمَ أنَّ تحريم العقد عليهما لكون أُمَّيهما منكوحتين له. والنِّكاح لفظ مشترك بين العقد والوطء شرعاً, وإذا زنا بالأجنبيّة فبنتها أيضاً بنت منكوحته, فيجب أنْ يكون ذلك حراماً, وليس هذا بقياس, على أنَّه قد ورد النَّصُّ عامَّاً بلفظٍ آخر في تحريم ذلك, وهو قولهم: (لا يجوز العقد على بنت المنكوحة ولا على أُمِّها)(4). ولفظ النّكاح حقيقة في الوطء والعقد.
ص: 501
ويجوز أنْ يكون معنى قوله: (فإنْ زنى بأجنبيةٍ لم تحرم عليه أُمّها ولا بنتها) أنَّه إذا كان له زوجة قد عقد عليها ثُمَّ زنا بأجنبيّة وكانت أُمَّ زوجتِه تلك أو بنتَها(1) فإنَّها لا تحرم عليه.
وقوله: (والمُحرَّم من الرّضاع عشر رضعات متواليات)(2).
هذا مأخوذٌ من خبر وارد في كراهيَّة التَّناكح بين صبيٍّ وجارية ارتضعا من لبن فحل في الحولين عشر رضعات(3), فالمُستحبّ أنْ لا يعقد بينهما عقد نكاح.
وإذا ارتضعا خمس عشرة رضعة على الوجه المحرِّم فإنَّه يجب أنْ لا يعقد بينهما عقد النّكاح, ويكون التَّناكح محرَّماً بينهما, على ما ذكره الشّيخ أبو جعفر(4), وهذا هو المعمول عليه لكثرة الأخبار في ذلك(5)؛ لأنّ الجمع بين الخبرين أولى من أنْ يُسقِط أحدهما.
وقوله: (فهذا ما لا يصحّ العقد مع عدمه من الشُّروط)(6).
معناه هذه الشُّروط لا يصحّ العقد مع عدمها.
وقوله: (ومن أصحابنا من قال: إنَّ مَنْ عَقَدَ على ما لا قيمةَ له في شرعنا لا يفسُد
ص: 502
عَقدُه, بل كان عليه مهر المثل(1).
وهذا الثّاني هو الّذي يَعمل عليه على الإطلاق شيخنا أبو جعفر(4).
ويمكن أنْ يقال في الجمع بينهما: إنَّهما إذا تعاقدا وقدَّما لفظ الإيجاب والقبول ثُمَّ ذكرا أنَّ الخمر ونحوها من المحرَّمات هو الصَّداق لكان هذا النّكاح صحيحاً؛ لأنَّ الإيجاب والقبول إذا جرى بين المتعاقدين ولم يذكر مائية(5) الصَّداق ولا كمّيّته ولا كيفيّته كان النّكاح صحيحاً. وإذا كان ذكر الصَّداق بالخمر ونحوها مقدَّماً على الإيجاب والقبول كان النّكاح باطلاً.
ص: 503
ويمكن أنْ يحمل ذلك على الذّميّ الّذي تزوّج ذميّة على لحم الخنزير ونحوه ثُمَّ أسلما فإنَّ عقدهما ثابت وإنْ عقدها على ما لا قيمة له في شرع ...(1).
وقوله: (والإماء إنْ كُنَّ زوجات فحكمهنّ حكم الحرائر)(2).
في القسمة, يعني إنْ كان للمملوك أربع زوجات كلّهنَّ إماء يقسم بينهنَّ, أو الحرّ إذا كانت عنده أَمَتان كما إذا كانت له أربع زوجات حرائر فإنَّه يقسّم بينهنَّ بالسّويّة, وأمّا إذا كانت له أربع زوجات بعضهنَّ من الحرائر وبعضهنَّ من الإماء فإنَّه يبيت عند كلِّ حرَّة ليلتين وعند كلِّ أَمَةٍ ليلة.
وقوله: (ويثقب يوم السّابع أُذن المولود)(3).
هذا إذا كانت جارية، وروي أنَّ ذلك عامٌّ؛ لأنَّ اليهود لا يثقبون آذان الصّبيان فأُمر بمخالفتهم(4).
وقوله: (وأكثر الحمل تسعة أشهر)(5).
وقال المرتضى: (أكثره سنة واحدة)(6).
ص: 504
وفي الأحكام النَّبويّة: (وروي(1) عشرة أشهر)(2). والعمل على الأوَّل على كلِّ حالٍ مع الإطلاق.
ويمكن أنْ يقال: خُرِّجت الرّواية الثّانية في المرأة الحامل باثنين, فربَّما حبلت بأحدهما قبل الآخر بأُسبوع فصاعداً فيتأخّر الوضع لذلك في أحدهما.
وقيل: الجنين إذا تُوفّي في بطن أُمّه ربَّما يبقى فيه زائداً على تسعة أشهر(3).
وقيل: وردت هذه الرّواية للتقيّة.
وقوله: (ويتلفظ في عقد المتعة ب-(متّعيني نفسك) أو (أمتعيني)(4))(5).
هذا على سبيل الاستحباب, فإنْ قال: (زوّجيني نفسَكِ متعة) كان مثله, ولابدَّ من الإيجاب والقبول بعد كلِّ واحدٍ منها.
ص: 505
وقوله: (نكاح المتعة يفتقر إلى تعيين الأجر والأجل(1))(2).
معناه أنَّه بخلاف نكاح الدَّوام, فإنَّ ذلك لا يجب أنْ يتعيَّن فيه المهر.
وقال المرتضى في قوله: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ﴾(3) معناه: فمَنْ نكحتموه منهنَّ نكاحَ المتعة فآتوهنَّ أُجورهنَّ فريضةً(4). فأومأ إلى [أنَّ](5) إعطاء ذلك الأجر واجب في المال.
والعمل على الأوَّل, وقد صرَّح بذلك في النّهاية(6).
ص: 506
قوله: (الفراق بالطّلاق على أضرب: النُّشوز, وهو أنْ تَعصي المرأةُ الرَّجلَ)(1).
هذا إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ﴾ الآية(2)
أي: من خاف عصيانَ زوجتِهِ ومخالفتها إيّاه بظهور أسبابه وإماراته فعظوهن أوَّلاً بالقول والنَّصيحة, فإنْ لم يؤثّرا فاهجروهنّ - أي: حوّل ظهره في الفراش إليها -، فإنْ رجعت وإلَّا ضَربها بالسِّواك, فإذا استقام لكم ظاهرُهن فلا تعلّلوا بما في باطنهنّ. ثُمَّ خاطب الحكّام, فقال: وإنْ خفتم شقاق بينهما - أي إنْ التبس الأمرُ في المخالفة وخفتم عداوةً بين الزَّوجين وجّهوا حَكَمَاً من قومِ الزَّوج وحَكَمَاً من قوم المرأة لينظرا فيما بينهما.
والحَكَمُ: القَيِّم بما أُسند إليه.
والنُّشوز: استيلاء المرأة على زوجها أو مخالفة الزَّوج لها.
وفي الشّرع أيضاً على ضربين:
أحدهما: ما ذكرناه, وهو الّذي ربَّما يؤدّي إلى الشِّقاق.
والثَّاني: أنْ يكره الرَّجلُ المرأةَ, وتُريدُ المرأةُ المقامَ معه, ويُريدُ الرَّجلُ طلاقه إيّاها, فتقول المرأة: (لا تفعل, إنّي أكره أنْ يُشمَت بي, لا أطلب منك نفقة, وأعطيك من مالي شيئاً ودعني على حالتي هذه) فلا جناح عليهما أنْ يصالحا بينهما, هذا في النّهاية(3).
ص: 507
وقوله: (لا ظِهار بأَمَةٍ)(1).
العمل على غير ذلك, فالظِّهار يقع بالحرَّة والأَمَة, وسواء كانت الأَمَة زوجة أو موطوءة بمِلك اليمين في أنَّه نهي ظاهر على الإطلاق لم يجز وطؤها إلَّا بعد الكفّارة, فيمكن أنْ يُحمَل كلامه على الأَمَة إذا كانت متمتَّعاً بها .
وقوله: (الشَّرطُ يُبْطِل الظِّهارَ كالطَّلاق)(2).
هذا وهْمٌ من حيث [إنَّهم](3)
قالوا - عليهم السَّلام -: أنْ لا ظِهار إلَّا في طُهرٍ لم يقرب فيه بجماع بشهادة عدلين, ولا يقع على الإكراه, وإذا حلف بالظِّهار لم يلزمه حكمه كما يكون في الطَّلاق(4).
فهل إنَّ الظِّهار والطَّلاق يستويان في جميع الشَّرائط؟ ولا خلاف أنَّهما سواءٌ فيما صرَّحوا به, فأمَّا ما لم يذكروه من شرائط الطَّلاق في جملة شرائط الظِّهار - لا جملةً ولا تفصيلاً - فهما مختلفان فيه.
والصَّحيح: أنَّ الظِّهار على ضربين: مشروط, وغير مشروط.
فالمشروط أنْ يعلِّقه بأمرٍ كأنْ يقول: (إنْ واقعتُكِ فأنتِ عليَّ كظهر أُمّي) فالظِّهارُ ها هنا لا يقع إلَّا بعد المواقعة, فإنَّها شرطٌ في وقوعه, وكذا إنْ قال: (إنْ خرجتِ من الدَّار فأنتِ عليَّ كظهر أُمّي) فلا يلزم حكم الظِّهار إلَّا بعد خروجها من الدَّار.
والضّرب الآخر: أنْ لا يكون مشروطاً, وهو أنْ يتلفّظ بالظِّهار على شَرائطه, ولا
ص: 508
يتلفَّظ بشرطٍ يُعلِّقه به, فيقول: (أنتِ عليَّ كظهر أُمّي) والمرأة في طهر لم يقربها بمحضر عدلين مؤمنين ويقصد به التَّحريم في الحالين .
وقوله في طلاق العدَّة: (أنَّه إذا طلَّقها ثُمَّ راجعها(1) قبل خروجها من عدَّتها, ثُمَّ يطلِّقها أخرى, ثُمَّ يراجعها قبل خروجها من العدَّة, ثُمَّ يطلِّقها ثالثة) (2).
هذا على الإطلاق غير صحيح؛ لأنَّه ينبغي في طلاق العدَّة أنْ يواقعها بعد المراجعة, ثُمَّ يستبرئها بحيضة, فإذا طهرت طلَّقها ثانية, ولم يقربها في هذا الطّهر, ثُمَّ راجعها قبل خروجها من العدَّة فإذا أراد طلاقها طلا[ق](3) العدَّة واقعها ثُمَّ اس-[تبرأها] بحي-[ضة] فإذا [طهرت] فلا يقربها إذا أراد طلاقها, فطلَّقها الثَّالثة.
وقوله: (وطلاق السُّنَّة, هو أن يطلِّقها على الشُّروط واحدةً, وهو أملك بها ما دامت في العدَّة, فإذا خرجت(4) فهو كأحد الخُطّاب)(5).
كلامٌ حسنٌ يدلُّ على أنَّه يسمّى طلاق السُّنَّة وإنْ كان ذلك دفعةً واحدةً.
فأمَّا [ما](6) في النّهاية من التّكرار ثلاث مرّات(7) - كما هو في طلاق العدَّة وإنْ لم يكن هناك إلَّا عدَّة واحدة والعقد بحاله, وفي طلاق السُّنَّة إذا كرّر ثلاثاً تكون ثلاث
ص: 509
عِدَد ويتزوجها(1) بعد العدَّة الأولى بعقدٍ جديد ومهرٍ جديد, وكذا بعد العدَّة الثَّانية - فهو تفصيل لكيفيَّة الحكم بعد طلاق السُّنَّة الّذي يَحصُل بمرَّة واحدة, وفي وقوع التَّطليقات الثَّلاث على السُّنَّة ... ذلك(2).
قوله في شروط الطَّلاق: (أنْ يتلفَّظ بالطَّلاق مُوحّداً) (3).
معناه أنَّ من شرائط الطَّلاق العامَّة أنْ يطلِّقها تطليقةً واحدةً, فإنْ طلَّقها أكثر من ذلك - ثنتين أو ثلاثة أو ما زاد عليها - تقع تطليقةً واحدة إذا اجتمعت الشُّروط كلُّها, ولم تقع أكثر من واحدة إذا كان الرَّجل مُعتَقداً للحقِّ.
وإنْ كان المطلِّق مخالفاً يعتقد وقوع التَّطليقات الثَّلاث بمرَّة يلزمه ذلك.
وليس العمل على أنَّ مَنْ تلفَّظ بالتَّطليقات الثَّلاث في دُفعَةٍ واحدة مع اجتماع جميع الشَّرائط لا يقع شيء منها, وذلك محمول على كونها غير جامعة لشرائط الطَّلاق.
وقوله في قسمة شروطه: (الإشهاد عامّ, والطُّهر خاصّ فيمن تحيض إذا كان زوجها حاضراً. والغائب يطلِّقها على كلِّ حال) (4).
في ذلك إخلالٌ؛ لأنَّه يحتاج إلى تفصيل, وهو أنْ يقول:
الشَّرائط العامَّة فيه كثيرة, وهي: أنْ يكون الرَّجل غيرَ زائل العقل, ويكون مُريداً للطلاقِ غير مُكرَه عليه ولا مُجبَر, ويكون طلاقه بمحضر من شاهدَين مسلمَين سواء أشهدهما أو لم يشهدهما, ويتلفّظ بلفظٍ مخصوص أو ما يقوم مقامه إذا لم يمكنه كالأَخرس.
ص: 510
والشَّرط الخاصّ: أنْ لا تكون المرأةُ حائضاً؛ لأنَّ هذا القسم مراعىً في المدخول بها غيرَ غائبٍ عنها زوجها مدَّة مخصوصة, وبيانه:
أنَّ الغائب عنها إذا أراد أن يطلّقها فإنْ خرج إلى السَّفر وقد كانت طاهراً طهراً لم يقربها بجماع جاز له أنْ يطلِّقَها أيّ وقت شاء. ومتى كان في طهر وطأها فيه فلا يطلِّقها حتّى يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ثُمَّ يطلِّقها بعد ذلك أيّ وقت شاء, ويقع الطَّلاق حينئذٍ وإنْ كانت حائضاً.
قوله: (وينقسم طلاق السُّنَّة قسمين: بائنٌ, وغيرُ بائنٍ. والبائنُ: طلاقُ مَنْ لم يدخل بها, ومن لم تَبلغ المحيضَ, والآيسة(1) منه, والحامل المستبين حملها, وإنْ دخل بهنَّ. ومعنى (البائن) أنَّه متى طلَّقها ملكت نفسَها, ولا يجوز أنْ يُراجعها إلَّا بعقدٍ جديد) (2).
وفي هذا الفصل خللٌ من وجوهٍ:
أحدُها: أنَّ الصَّحيح في القسمة أنْ لو قال: وينقسم الطَّلاق قسمين؛ لأنَّ طلاق العدَّة لا يخرج من ذلك, فإنَّه يكون بائناً بعد تطليقتين مع الشَّرائط الأُخر, والتَّطليقة الأولى والثَّانية منه كلتاهما رجعيَّة.
وثانيها: أنَّه لم يذكر المختلعة والمبارأة في جملة أقسام(3) البائن, وطلاقهما أيضاً بائن.
وثالثُها: أنَّه أطلق الكلام فيمن لم تبلغ المحيضَ والآيسة منه, وحُكمُ كلتيهما على ضربين, فإنَّ المرأة الّتي لم تبلغ المحيضَ وفي سنِّها من تحيض طلاقهما الأوَّل والثَّاني رجعيّان, إذا لم يكن خلعاً. وحدُّ الأُولى تسع سنين فصاعداً, وحدُّ الثَّانية دون خمسين
ص: 511
سنة, فأمَّا الّتي لم تبلغ المحيضَ ولا تكون في سنّها من تحيض فطلاقُها بائنٌ وإنْ كانت مدخولاً بها, وحدُّها دون تسع سنين, وكذا الآيسة من المحيض ولا تكون في سِنّها مَنْ تَحيض طَلاقها بائن وإنْ دَخل بها, وحدُّها خمسون سَنة في الأجنبيَّات, وستُّون سنة في القرشيَّات.
ورابعها: أنَّه عدَّ الحوامل منهنَّ ولسْنَ(1) منهنَّ على الإطلاق؛ لأنَّ مَنْ طلَّق الحامل المستبين حملها وهو أملك بها, يرجعها ما لم تضع حملها, فإنْ راجعها وطلَّقها بعد المواقعة كانت التَّطليقة الثَّانية أيضاً رجعيَّة, فإذا طلَّقها ثالثةً بعد أنْ يراجعها في الثَّانية وبعد أنْ يَطأَها كانت بائنة, وهذا كلُّه حكم الحُرَّة.
وقوله: (وشروط الخلع والمباراة شروط الطَّلاق إلَّا أنَّهما يقعان بكلِّ زوجة)(2).
معنى ذلك أنَّه يقع الخلع والمباراة بالمرأة المتمتّع بها أيضاً وإنْ لم يقع الطَّلاق بها؛ لأنَّ مَنْ تمتّع - مثلاً - بامرأة سَنَةً بعشرة دنانير, فإذا مضى شهرٌ أو شهران وكرﻫ[ت](3) المقام معه, وقالت للرجل وهو يريدها: (خذ العشرة وهبني الأيام الباقية), فوهبها لها, كان الخلعُ صحيحاً. وهكذا في المباراة إذا ردَّت عليه أقل مِنْ العشرة.
وقد ظَنَّ بعضُ أصحابنا(4) أنَّ الخلع والمباراة فراقان غير الطَّلاق, وعدَّ هذا الشَّيخ منهم؛ لأنَّه قال: (الخُلع هو إذا قال لها: قد خلعتك على كذا وكذا)(5).
ص: 512
والصّحيحُ أنَّ الخلع والمباراة ممَّا يؤثّران في كيفيَّة الطَّلاق, وهو أنَّ كلَّ واحدٍ منهما متى حصل مع الطَّلاق كانت التَّطليقة بائنة.
وقوله: (اللّعان: أن يَدَّعي الرَّجلُ أنَّه رأى رجلاً يَطَأ امرأتَه المُسلمة الحُرَّة الصَّحيحة من الخرس والصَّمم في فرجها, ثُمَّ لا يكون له شهداء بذلك, أو يَنفي ولدها)(1).
لهذا تفصيلٌ, وهو: انَّ اللّعان لا يكون بين الرَّجل وزوجته إلَّا بعد الدُّخول بها, وكذا إنْ كانت الزَّوجيَّة متعة فلا لعانَ بينهما وإنْ كانتا حُرَّتين مُسلمتين.
ثُمَّ إذا كان الزَّوج مملوكاً والمرأة حُرَّة أو كان الرَّجل حُراً والمرأةُ أَمَةً أو يهوديَّةً أو نصرانيَّةً ثبت بينهما اللّعان, فإنْ كان له أَمَةٌ يطؤها بملك اليمين لم يكن بينهما لعانٌ.وقوله: (لا لعان بين المسلم والذِّميَّة, ولا بين الحُرِّ والأَمَة)(2).
غير صحيح في نكاح الدَّوام.
وقوله: (الولد الأُنثى: الأُمُّ أحقُّ بكفالتها حتّى تبلغ تسع سنين ما لم تتزوَّج(3)) (4).
هذا على الاستحباب, فأمَّا الواجب المعمول عليه: أنَّ الأُمَّ أحقُّ بالبنت من الأب إلى سبع سنين على سبيل الإيجاب إلَّا إنْ تزوَّجت بغيره.
وقوله: (وعِدَّة الأَمَة المتوفّى عنها زوجُها نصف عِدَّة الحُرَّة: شهران وخمسة أيام,
ص: 513
وكذلك حكم المُتمتَّع [بها](1))(2).
هذا إنَّما يصحُّ إذا كانت المُتمتَّع بها أَمَةً, وكذا في موضعين من بَعدُ, وإلَّا فعِدَّة المتوفّى عنها زوجُها أربعة أشهر وعشرة أيام إذا كانت حُرَّة سواء كانت زوجة على طريق الدَّوام أو متمتَّعاً بها.
وقوله: (من تَجبُ عليها العِدَّة على ضربين: (إحداهما) تعتدّ بالأقراء. (والأخرى) تعتدّ بالشُّهور .. إلى آخره)(3).
لا يصحُّ مجمله ولا مفصّله؛ لأنَّ القسمة الصَّحيحة في ذلك أنْ يقال:
المعتدّاتُ على ثلاثة أضرب, إمَّا أنْ تعتدّ بالأقراء - وهي الأطهار - أو الشُّهور أو تراعي الشّهور والحيض - كالمسترابة -.
ولم يَعُدّ في جُملة مَنْ تعتدُّ بالشُّهور الغائبة عن زوجها إذا طلَّقها, وعدَّتُها ثلاثة أشهر على كلِّ حالٍ إذا كانت حُرَّة.
وذلك نحو ما قاله الشَّيخ المفيد في الرِّسالة المقنعة, وهو قوله: إذا طلَّق الرَّجلُ امرأتَه وهو غائب عنها, ثُمَّ ورد عليها الخبر بذلك, وقد حاضت من يوم طلَّقها إلى ذلك الوقت ثلاث حِيَض, فقد خرجت من عِدَّتها, ولا عِدَّة عليها بعد ذلك. وإنْ كانت حاضت أقلّ مِنْ ثلاث حِيَض, احتسبت به من العدَّة, وبَنت عليها تمامها)(4).
ص: 514
وذلك إنَّما يصحّ إذا كانت مدَّة الثَّلاث حِيَض(1) ثلاثة أشهر؛ لأنَّ الباقر عليه السَّلام قال: (إذا طَلَّق الرَّجُلُ امرأتَه وهو غائب(2) فليُشهِد عند ذلك, فإذا مضى ثلاثة أشهر فقد انقضَتْ عدَّتُها) (3).
ص: 515
[وقوله في جملة المحرَّم من المعائش: (وبيع الكلاب إلَّا السّلوقي.. والرَّقاق(1))](2).
والرَّقُّ: ذَكَر السَّلاحف(3).
والسَّلُوقي: كلب الصّيد يُنسب إلى قرية باليمن(4).
وقوله: (شروط البيع ضربان: عامٌّ, وهو خمسة أشياء, ثُمَّ فصَّلها. وخاصٌّ وهو أيضاً على ضربين, أحدهما: خاصٌّ في المبيع كالنَّظر إلى ما يباع فإنَّه شرطٌ في الحاضر, وكالبيع بالوصف وهو شرط في الغائب وما يجري مجراه. والثّاني: خاصّ في البيع والمبيع كشروط بيع الحيوان والثّمار والخضراوات)(5).
هذا تقسيم حسن.
فإنْ قيل: ما الفائدة في قسمته الشَّرط الخاصّ إلى خاصّ في المبيع وخاصّ في البيع والمبيع.
قلنا: الفرق بينهما واضح؛ لأنَّ النَّظر إلى المتاع الحاضر شرط يخصّ المبيع دون البيع؛ لأنَّ المشتري إذا كره البيع وقد نظر إلى المبيع فلا خيار له. وإنْ لم ينظر إليه فلا يحصل شرطه, وله الخيار. وأمَّا الثّلاثة أيام(6) الّتي هي شرطٌ في الجارية المشتراة, فإنَّ للمشتري
ص: 517
الخيار في هذه المدَّة سواء كره البيع بأنَّه أراد استرداد الثَّمن الّذي وَزنه, أو كره المبيع لعَيبٍ به أو لا لعيب.
وقوله: (ولا يمضى بيع إلَّا في مِلك البائع, أو لمن البائع(1) أنْ يبيع عنه)(2).
هو مُوكَّل المالك, أو أبُ المالك إذا كان صغيراً وكان البيع مصلحةً له.
وقوله: (من ابتاع شيئا كالثّوب ونحوه وتركه عند البائع ليأتي بثمنه يُنتظر ثلاثة أيام ثُمَّ الخيار للبائع فإنْ هلك في الثّلاثة أيام(3) فهو من مال المبتاع(4), وإنْ هلك بعدها فهو من مال البائع(5))(6).
هذا صحيح على وجه, فإنَّ لهذه المسألة ستَّ شعب, وتفصيلها:
أنَّ الإنسان إذا باع شيئاً ولم يقبض ثمنه, ولم يقبضه المشتري, ثُمَّ هلك, كان من مال البائع سواء كان في الثّلاثة أيام(7) أو بعدها. وإنْ قبّضه ثُمَّ يمضي ليأتي بالثّمن وهلك ذلك الشَّيء في الثّلاثة أيام(8) كان مِنْ مال المشتري سواء أخذه إلى بيته أو تركه عند
ص: 518
البائع. وكذلك إنْ هلك بعد الثَّلاثة أيام(1) وكان عند المشتري ولم يفسخ البائع بيعه كان من مال المشتري, فإنْ فسخه ثُمَّ هلك كان من مال البائع.
وقوله: (وما عُلّق بأجلين باطل, لا ينعقد, وهو أنْ يقول: (بعتك هذه السِّلعة إلى عشرة أيام بدرهم, وإلى شهرين بدرهمين)(2).
المعمول عليه هو أنَّه مكروه؛ لأنَّه قد رُوي أيضاً أنَّه إذا ذكر المتاع بأجلين ونقدين مختلفين بأنْ يقول (ثمن هذا المتاع كذا عاجلاً وكذا آجلاً) ثُمَّ أمضى البيع, كان له أقلُّ الثَّمنين وأبعدُ الأجلين(3).
وتحقيق المسألتين في تنافيهما ما ذكره الشَّيخ المفيد في الرِّسالة, فقال:
(لا يجوز البيع بأجلين على التَّخيير كقولهم: (هذا المتاع بدرهم نقداً وبدرهمين إلى شهرين), أو كلاهما نسيئة بأنْ يقول: (بدرهم إلى شهر وبدرهمين إلى شهرين) فإنْ ابتاع إنسانٌ شيئاً على هذا الشَّرط كان عليه أقلّ الثَّمنين في آخر الأجلين)(4).
وقد جمع بهذا بين الرِّوايتين المتقدِّمتين(5).
ص: 519
وقوله: (ويلزم الشَّرط الّذي يشرطه المتبايعان حتّى لا يكون ضمان المال مدَّة الأجل على المبتاع)(1) ... (2) يكون ضمان المال مدَّة الأجل على المبتاع معنى الرِّواية الأولى أنَّهما إنْ شرطا بعد المبايعة أنَّ البائع إنْ أحضر المبيع في وقت حلول أجله من غير مطالبة المشتري مِنه ذلك, ثُمَّ أتى به البائع إليه ...(3) وهلك, فلا يكون ذلك من ضمان المشتري. والمعلوم المعروف في الشَّرع أنَّه إذا لم يكن هذا الشَّرط بينهما كان من ضمان المشتري على هذا الوجه. ومعنى الثَّانية أنَّهما إنْ اشترطا أنَّ الضّمان على المشتري إنْ أحضره البائع...(4) مدَّة أجل المبيع - أي وقت كان - وهلك فضمانه يكون على المشتري على خلاف ما هو في أصل الشَّرع كان ذلك الشَّرط لازماً وإنْ كان على عكس النَّص.
وقوله: (ومن ابتاع أَمَةً فوجد بها عيباً بعد أنْ وطأها فله الأرش دون الرَّدّ إلَّا أنْ تكون حبلى فيردّها ويردّ معها نصف عشر قيمتها)(5).
هذا صحيح, وقيل: إنَّ أحداث السَّنة من الجنون والجذام والبرص حكمها حكم الحَبَلْ إذ لم يكن وطؤُه لها بعد العلم بحالها. فإنْ عَلِمَ بها ثُمَّ وَطَأها فله الأرش دون الرَّدّ, والأظهر أنَّ له الأرش في الحالين.
ص: 520
وقوله: (ومن اشترى جارية وكانت أُمَّه أو أُختَه أو خالتَه أو عمَّته عتقت عليه. أمَّا الباقون من الأقارب, ومن ماثل الأوَّلين من الرّضاع والأجانب فيثبت في ملكه رقّاً)(1). هذا لا يصحُّ؛ لأنَّ العمل على أنَّ الإنسان إذا ملك أبويه, أو ولده ذكراً كان أو أُنثى, أو واحدة من المحرَّمات, فإنَّهم ينعتقون في الحال.
ويكره أنْ يملك أخاه أو عمّه أو خاله أو واحداً من ذوي أرحامه الذُّكور. ويستحب له أنْ يعتقه.
وكلُّ من ذكرناه ممَّن لا يصحّ ملكه من جهة النَّسب فكذلك لا يصحُّ ملكه من جهة الرِّضاع.
وقوله: (والمحاقلة(2) محرَّمة, وهي: أنْ يبيع الثَّمرة في رؤوس النَّخل بالتمر, أو(3) الزّرع بالحنطة - كيلاً أو(4) جزافاً -) (5).
هذا على الإطلاق لا يُفتَى به؛ لأنَّ الصَّحيح أنَّه لا يجوز بيع الثَّمرة في رؤوس النَّخل بالتَّمر من تلك النَّخلة كيلاً ولا جزافاً, وهي المُزابَنَة الّتي نَهى عنها النَّبيُّ عليه السَّلام. وكذلك لا يجوز بيع الزَّرع بالحنطة من تلك الأرض لا كيلاً ولا جزافاً, وهي المُحاقلة.
ص: 521
فإنْ باعه بحنطة من غير تلك الأرض لم يكن به بأس, وكذلك إنْ باع التَّمرة بالتَّمر من غير ذلك النَّخل لم يكن به بأس.
ثُمَّ(1) رخَّص عليه السَّلام أنْ تُشترى العَرَايَا بِخِرْصِها تَمراً(2).
والعَرَايَا: جمع عريَّة, وهي النَّخلة تكون في دار إنسان لرجلٍ آخر, فيجوز له أنْ يبيعها بِخِرْصِها تمراً؛ لئلّا يتأذّى أهل الدَّار بمجيء صاحب النَّخلة وذهابه. ولا يجوز ذلك في غيرها.
وقوله: (ومتى خاست الثَّمرة - أي: نقصت الثَّمرة(3)- المبتاعة قبل بدوّ صلاحها فللبائع ما أغلّت(4))(5).
لأنَّ بيعها لم يكن ماضياً.
وقوله: (المكروه بيع ما لم يبدُ صلاحه سنة واحدة)(6).
هذا محظور, ولو قلنا: المكروه بيعها سنتين ولم يبدُ صلاحُها, وغير المكروه بيع ما بدا صلاحه, فتكون المسألة على ثلاثة أقسام, لكان حسناً.
ص: 522
[وقوله عند عدّ أقسام المبيعات: (والرَّطْبَة)] (1).
و(الرَّطْبَة): الإسْفَسْت(2).
[وقوله: (ولو تقابضا بالمال والسِّلعة)] (3).
و(السِّلعة): المتاع.
ومعنى قوله: (فإنْ لحق الثِّمار جائحة كان في المستثنى بحساب ما أصابه)(4). (الجائحة): الآفة المهلكة(5), أي: مَن باع ثمرةَ نخلات من غيره واستثنى لنفسه ثلثها أو ربعها كان ما يفسد بالآفة بينهما على حساب ذلك.
وقوله: (ولا يجوز بيع قفيز حنطة بقفيزين منها, وكذلك حكم الشَّعير لأنَّه نوعه)(6).
ليس هذا على العموم وإنَّما يكون الشَّعير والحنطة جنساً واحداً في الرِّبا خاصَّة, فأمَّا في الزَّكاة فهما نوعان.
ص: 523
وقوله: (الوزّان إنْ وَزَن المال فأُجرته وأُجرة النَّاقد على المشتري. والكيّال أو الدَّلال إنْ وَزَن المال(1) فأُجرته وأُجرة ما يكال(2) على البائع)(3).
مراده بالمال الأوَّل الذَّهب أو الفضَّة ونحوهما. والمراد بالمال الثَّاني المتاع. وإنَّما يكون كذلك لأنَّ الكيَّال ووزّان المال ينصران المال؛ لأنَّ عليه توفية المتاع. ووزّان الذَّهب ونحوه والنَّاقدُ ينصران المشتري؛ لأنَّ عليه توفيةَ الثَّمن على الكمال.
وقوله: (ومتى اختلف صاحب المتاع والواسطة - فيما أمره أن يبيع به المتاع أو في النَّقد - وعُدما(4) البيِّنة، فالقول قول صاحب المتاع مع يمينه بالله(5))(6).
معناه أنَّهما إذا اختلفا فقال الواسطة - وهو الدَّلال -: (قلتَ لي: بعه بعشرة). وقال صاحب المتاع: (بل قلتُ: بعه بعشرين) ولم يكن لأحدهما بيِّنة على دعواه, فإنْ وَجَد صاحب المتاع متاعه على الهيئة الّتي كان عليها, فله أنْ يأخذ [ه] ولا كلام. وإنْ أحدَث فيه ما ينقصه من الثَّمن, ضمن الواسطةُ من الثَّمن ما حَلَف عليه صاحبُ المتاع أيضاً. وإنْ استهلك ولم يبقَ, كان القول أيضاً قول صاحب المتاع مع يمينه بالله. وكذلك الحكم
ص: 524
إذا اختلفا في النَّقد, وليست هذه المسألة مثل مسألة البيّعين إذا اختلفا في ثمن المبيع؛ لأنَّ ذلك حكمه إنْ كان الشَّيء قائماً بعينه, كان القولُ قولَ البائع مع يمينه. وإنْ لم يكن قائماً بعينه, كانَ القولُ قولَ المبتاع مع يمينه بالله.
قوله: (المداخلة لصاحب المال بالبدن(1) والعمل معه توجب أَجْرَ المثل, لا الشِّركة)(2).
معناه أنَّ المال إذا كان لرجلٍ وأدخل غيره في ذلك المال فيعملان كلاهما بذلك ويبيعان ويشتريان, فإنَّ الغير لم يصر شريكا على صاحب المال في ربح ذلك ... (3) تلك المداخلة ... بمدّ تجب له أُجرة ... على صاحب المال .
وقوله: (والمضاربةُ أنْ يسافر رجلٌ بمالِ رجلٍ, فله أُجرة مثله)(4).
هذا هو الّذي يعمل عليه القضاء, وعلى الوجوب .
وتحقيق ذلك: أنَّ الإنسان إذا أعطى غيره ذهباً أو فضَّة ليضارب له - أي: ليسافر بذلك لأجله - كان للمضارب أُجرة المثل, وكان الرِّبح لصاحب المال, والخسران عليه. فإنْ وقع بينهما شرط بأنْ يكون للمضارب نصف ربح ذلك المال أو ربعه أو أقل أو أكثر دون أُجرة المثل, فإنَّه يستحب لصاحب المال إنْ كان الرِّبح كثيراً أنْ يعطيه مقدار ما وقع عليه الشَّرط(5). وإنْ كان الرِّبح قليلاً فالمستحب للمضارب أنْ يرضى بالمقدار
ص: 525
المشروط بينهما, وإنْ رجعا إلى أُجرة المثل في الحالين فهو الواجب في الحكومة. فأمَّا إنْ كان خسراناً فعلى صاحب المال وعليه أيضاً أنْ يعطي المضارب أُجرة المثل.
وقوله: (الحُكرَة: احتباس(1) الأطعمة مع ضيق الأمر فيها وهي مكروهة, فأمَّا مع وجود الكفاية للناس فليس ذلك بمكروه)(2).
لا بُدَّ لذلك من تفصيل, وهو:
أنْ يُقال: الاحتكار: حَبْسُ الحنطة, والشَّعير, والتمر, والزَّبيب, والسّمن.
ورُوي سادسٌ وهو: (الملح)(3).
ولا يكون الاحتكار في شيء سوى هذه الأجناس. والاحتكار في الغلاء ثلاثة أيام وفي حال السِّعة أربعون يوماً. لا يُمكّن السُّلطانُ المحتَكِرَ مِنْ حَبْسِه أكثرَ من ذلك إذا لم يوجد ذلك إلَّا عنده.
ص: 526
كتاب الأيمان والنّذور والعهود والكفارات(1)
قوله:(الأيمان على ضربين: أحدهما: اليمين بالله وأسمائه. والآخر: بغير ذلك)(2). معناه: أن مَن حلف بالله وبأسمائه - أيَّ اسم كان - يكون ذلك يميناً شرعيَّة لها حكم بالحنْثِ, إمَّا أنْ يأثَم, أو يُؤجَر, أو لا يأثَم ولا يُؤجَر.
وكلُّ يمين بغير الله أو بغير اسم له فلا حكم له, فمَن حَلَفَ بالكعبة أو بالنَّبيّ أو بأحد من الأئمَّة كان مخطئاً.
وقوله: (فما يلزم به الكفارة هو أنْ يقسم أنْ لا يفعل مباحاً(3), وأنْ يفعل طاعة أو مباحاً, فيحنث)(4).
هذا على الإطلاق إنّما يصحّ في فعل الطَّاعات واجباتها ومندوباتها, فأمَّا في المباح فإنْ حلف أنْ يفعل فعلاً من الأفعال, كان فعلُه وتركُه على حدٍّ واحد, ولم يكن لأحدهما على الآخر مزيَّة, فمتى لم يفعله كان عليه الكفارةُ. وكذا إنْ حَلف أنْ لا يفعل فعلاً كان فعله مثل تركه فمتى فعله وجب عليه الكفارة. فأمَّا من حلف في مباحٍ يفعله أو يتركه ثُمَّ صار الأولى خلاف ما حَلف عليه, فليفعل أو لا يفعل, ولا كفارة عليه.
وقوله في جملة ما يأثم به من الحلف بلا كفارة: (أو يحلف على والده, أو تحلف امرأة
ص: 527
على زوجها(1), أو عبد مع سيِّده, أو حلف(2) أنْ يعاون السّلطان الجائر)(3).
معناه: ليس لأحدٍ منهم أنْ يحلف على مخالفة الثَّلاثة الأولين, وعلى معاونة السُّلطان الظَّالم, فإنْ حلفوا على ذلك اختياراً أثموا بذلك, ومتى حلف واحدٌ منهم على شيءٍ ممَّا ليس بواجب ولا قبيح جاز للأب حمل الولد على خلافه, وساغ للزوج حمل زَوجته على خلاف ما حلفت عليه, ولم تلزمهما كفارة. ومتى استحلف الظَّالم أعوانه على ظلم المؤمنين فحلفوا له لم يجز لهم الوفاء به, ووجب عليهم ترك الظّلم بلا كفّارة.
وقوله: (النّذر(4) على ضربين)(5).
(أحدهما) يجب الوفاء به, وهو: النّذر المعلَّق بالله, كأنْ يقول: (لله عليَّ كذا إنْ كان كذا).
(والثَّاني) أنْ يكون مُخيَّراً فيه, إنْ شاء وفى به وإنْ شاء لم يفِ به, والوفاء أفضل, كأنْ يقول: (لله عليَّ كذا) ولم يأتِ فيه بشرط.
ذهب إلى هذا المرتضى, وقال: (النَّذر لا ينعقد حتّى يكون معقوداً بشرط متعلِّق, كأنْ يقول: (لله عليَّ إنْ قَدِمَ فلانٌ أو كان كذا أن أصوم أو أتصدَّق). ولو قال: (لله عليَّ أنْ أصوم) من غير شرطٍ يتعلَّق به لم ينعقد نذرُه؛ لأنَّ معنى النَّذر أن يكون متعلِّقاً بشرطٍ, ومتى لم يتعلَّق بشرطٍ لم يستحقّ هذا الاسم, وإذا لم يكن ناذراً إذا لم يشترط لم
ص: 528
يلزمه الوفاء به؛ لأنَّ الوفاء إنَّما يلزم متى ثبت الاسم والمعنى.
فإنْ قيل: إنَّ قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) و﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ﴾(2) على الإطلاق.
قلنا: لا نسلِّم أنَّ مع التعرِّي من الشَّرط يكون عَهداً وعقداً. والآيتان تناولتا ما يستحقُ اسم العقد والعهد, فعليهم أنْ يدلّوا على ذلك أوَّلاً)(3).
وقال الشَّيخ أبو جعفر في المبسوط: إذا قال: (لله عليَّ كذا) وأطلق, أو قال: (لله عليَّ إنْ كان كذا) فإنَّه يجب الوفاء به. وإذا قال: (إنْ كان كذا فعليَّ كذا) ولم يقل: (لله) لم يكن ذلك نذراً واجباً بل يكون مخيَّراً, والأفضل له الوفاء به(4).
وإنَّما قال: (المطلق) مع كون لفظ (لله) معه كالمشروط لأنَّه إذا قال: (لله عليَّ أنْ أصوم كلّ خميسٍ) فقد صار ذلك واجباً عليه لأنَّه بمنزلة قوله: (إنْ بقيتُ صحيح البدن فعليَّ لله أنْ أصوم هذا اليوم في كلِّ أُسبوع) فهو وإنْ لم يكن مشروطاً في اللَّفظ فهو كالمشروط ويجري مجراه.
وقوله: (لا نذر ولا عهد في معصية(5))(6).
لهذا تفصيل, وهو: أنَّ النَّذر في معصية لا يصحّ ولا لمعصية ولا تكون المعصية فيه سبباً ولا مُسبَّباً, فمثال كون المعصية سبباً: أنْ ينذر أنَّه إنْ شرب خمراً أعتق عبده شكراً
ص: 529
لله لذلك, لا لانْزجَاره عَنه. ومثال كون المعصية مسبَّباً: أنْ يعلِّق فعلَه بشيء, مثل أنْ يقول: إنْ قَدِم زيدٌ من سفره أنْ يَشرب خمراً.
وإنَّما قلنا ذلك لأنَّ معنى قولنا في انعقاد النَّذر: أنَّه يجب على النَّاذر فعل ما أوجبه على نفسِه, وإذا علمنا بالإجماع أنَّ المعصية لا تجب في حالٍ علمنا أنَّ النَّذر لا ينعقد في المعصية.
والعهد هو أنْ يقول: (عاهدتُ الله أنَّه متى كان كذا مِن مباحٍ أو طاعةٍ فعليَّ كذا) فإذا حصل ما شرط وجب الوفاء به.
وقوله بعد ذكر كفارة من أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً: (ومثلها في المبلغ والتخيير قتل الخطأ(1))(2).
هذا لا يُعمَل عليه؛ لأنَّ كفّارة قتل الخطأ مرتَّبة, وكفّارة مَن أفطر يوماً مِن شهرِ رمضان على التَّخيير.
وما روي(3) من التَّرتيب فيه فهو جائزٌ أو مستحبٌ, والأوَّل هو الواجب.
ص: 530
وقوله: (وكفارة قتل العمد: أنْ يجمع بين ما هو مُخيَّر في(1) كفارة قتل الخطأ. فإنْ لم يقدر(2) كفَّر بواحدة منها)(3).
معناه: كفّارة قتل العمد: عتق رقبة وإطعام ستّين مسكيناً وصوم شهرين متتابعين بعد رضا أولياء المقتول بالدّية أو العفو عنه. وقد بيّنا أنَّ الصَّحيح في كفارات قتل الخطأ أنَّها مرتَّبة.
ص: 531
قوله: (ويجوز أنْ يجعل عتق الأَمَة صداقها في التزويج بها(1))(2).
لأنَّ الرَّجل متى أراد ذلك ينبغي أنْ يقدّم لفظ العقد على لفظ العتق, بأنْ يقول: (تزوّجتُكِ وجعلتُ مهرَكِ عِتقك) فإنْ قدَّم العِتقَ على التَّزويج, بأنْ يقول: (أعتقتُكِ [وتزوجتك](3) وجعلتُ مهرَكِ عتقكِ) مضى العِتقُ, وكانت مخيَّرة بين الرِّضا بالعقد والامتناع من قَبُوله.
وَوجَدتُ بعضَ مشايخي يُنكر الوجه الأوَّل الّذي هو الأصوب, وكان يقول: إنَّ ذلك لا يمكن(4).
وقوله: (ومن أعتق بعضَ عبدٍ - وهو ملكه(5)- سرى العتق فيه كلّه. فإنْ كان له فيه شريك عتق سهمه, وأُجبر(6) على ابتياع الباقي فيعتق عليه. فإنْ لم يكن له مال استسعى العبد في ثمنه(7))(8).
ص: 532
تفسير ذلك: إنَّ الإنسان إذا كان له مملوك وأعتق نصفَه أو أكثر منه أو أقل انعتق الكلّ ولم يكن له عليه سبيل.
وإذا كان بينه وبين غيره مملوك وأعتق هو نصيبَه مُضارّة لشريكه الآخر, أُلزِم أنْ يشتري ما بقي ويعتقه إذا كان موسراً, فإنْ لم يكن موسراً ولا يملك غيرَه, كان العِتقُ باطلاً.
وإذا لم يقصد بذلك مضارّته بل قصدَ به وجهَ الله لم يلزم شراء الباقي وعتقه, بل يستحبّ له ذلك, فإنْ لم يفعل ذلك استسعى العبد فيما بقي من ثمنه.
وقوله: (التدبير هو أنْ يقول لعبده: أنت حرٌّ بعد وفاتي)(1).
الأَولى في ذلك أنْ يقول: أنت رقٌّ في حياتي وحرٌّ بعد موتي.
وقوله: (فإنْ مات مولاه - ولم يكن رجع عن تدبيره - عُتِق)(2).
ليس هذا على الإطلاق بل ينبغي أنْ يقال: عُتِق من ثلث ماله.
وقوله: (ويورّث المكاتَب غير المشروط إنْ مات له(3) ولد بحسب ما تحرَّر منه)(4). يعني بذلك إنْ مات له ولدٌ حُرٌّ؛ لأنَّه إنْ كان مملوكاً فلا يرثه, وإنْ كان مكاتباً مثله فإنَّ أباه يرث - مع ما ذكرناه - من ولده بمقدار ما تحرَّر الولد أيضاً.
ص: 533
قوله: (الرَّاهن والمرتهن ممنوعان من التَّصرف في الرَّهن)(1).
أي لا يجوز للراهن أنْ يبيع الرَّهن إلَّا بإذن المرتهن, ولا يجوز للمرتهن أنْ يسكن الدَّار إلَّا بإذن الرَّاهن, ونحو ذلك.
وقوله: (وإذا هلك الرَّهن واختلفا في قيمته وعُدما البيِّنة فالقول قول صاحب الرَّهن مع يمينه)(2).
العمل في هذا الاختلاف على ما ذكر. وقد يكون اختلافهما في ذلك من وجهين آخرين يخالفه حكمهما, فإنَّهما إذا اختلفا في تضييع الرَّهن كان القول قول المرتهن مع يمينه, فإنْ أقام الرَّاهن البيّنة أنَّ المرتهن ضيَّعه, لزمه ضمانه ولم يقنع منه باليمين.
وإنْ اختلفا في مقدار المبلغ الّذي لأجله يكون هذا الرَّهن, كأنْ يقول الرَّاهن: (الدَّين عشرون), ويقول المرتهن: (ثلاثون), ينظر في قيمة الرَّهن: فإنْ كانت عشرين ونحوها فالقول قول الرَّاهن, وعلى المرتهن البيّنة بما زاد على العشرين. وإنْ كانت قيمة الرَّهن أربعين ونحوها فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأنَّه أمينه وقد نقص الدَّين عن قيمة الرَّهن فكان على الرَّاهن البيّنةُ. فإنْ كانت قيمة الرَّهن ثلاثين أيضاً فالقول قول الرَّاهن أيضاً مثل الأوَّل, وهو قولهم عليهم السَّلام: ما لم يستغرق الرَّهن ثمنه(3), أي:
ص: 534
ما لم يستغرق الرَّهن ثمن نفسه في أداء الدَّين, وهذا مجموع روايتين في ذلك.
وقوله: (وإذا ماتَ الرَّاهنُ وعليه دينٌ لجماعةٍ, فأوَّل مَنْ يَستوفي المرتهن)(1).
لهذا تفصيلٌ, وهو: أنَّ المرتهن إذا كان دَينُه قبل دُيون هؤلاء أو مُتَساوياً لها ولم يبقَ للرَّاهن غيرُ ذلك الرَّهن, فالمرتَهِن به أوْلى. وإنْ كانت دُيونُهم متقدِّمة على دينه, ولم يترك الرَّاهن غير هذا الرَّهن, فالمرتَهِن والغُرماء الآخرون يشتركون في ذلك على قدر نصيبهم, وبهذا يجمع به الرّوايتين الواردتين(2) في ذلك(3).
ص: 535
وقوله: (فإنْ اتّجر المودَع بمال الوديعة, فعليه ما يخسر, وللمودِع الرِّبح)(1).
يعني إذا تصرَّف المُودَع في الوديعة, وأنفق على نفسه وأهله, كان متعدّياً وضمن المال. وإنْ اتّجر به كان الرِّبح لصاحب الوديعة, وإنْ خَسِرَ كان على المُودَع.
وقوله: (الوَديعة أمانة للبرّ والفاجر إلَّا أنْ يَعرف أنَّ الوديعة غَصب, فعليه ردّها إلى المالك إلَّا أنْ يخاف على نفسه. فإنْ لم يعرف أربابَها جَعل خُمسَها لفقراء أهل البيت والباقي لفقراء المؤمنين)(2).
تحقيقه: أنَّه إنْ لم يعرفها(3) عرَّفها حَولاً كما تُعرَّف اللَّقطة, فإنْ جاء صاحبُها وإلَّا تصدَّق بها عنه.
وقوله في العارية: (العَين والورِق مضمونان)(4).
معناه أنَّ من استعار الذَّهب والفضَّة سواء كانا دراهم أو دنانير أو سبائك منهما أو حُلِيّاً, يلزمه ضمانه شَرَطَ ذلك المعير أو لم يَشرط.
وقوله: (وما عداهما إنْ ضُمِّن يلزم ضمانه. وإنْ لم يُضمَّن لا يلزم فيه ذلك إلَّا بالتفريط. فإن اختلفا في شيء من ذلك, فالقول قول المُعير مع يمينه إذا عُدما البيِّنة)(5).
معناه وما سوى الذَّهب والفضة لا يكون المستعير فيه ضامناً إلَّا إذا شَرَطهُ المُعير,
ص: 536
فإنْ اختلفا في التَّفريط فالبيِّنة على المُعير بأنَّ المستعير فرَّط فيه, فإنْ لم يكن فعلى المستعير اليمين. وإنْ اختلفا في قيمة العارية كان القول قول صاحبها مع يمينه بالله.
وقوله: (المزارعة والمساقاة تجوزان(1) بالرُّبع والثُّلث والنِّصف. ولا بدَّ في المزارعة من أجلٍ معيَّن)(2).
لا بُدَّ لذلك من تفصيلٍ, بأنْ يُقال: لا بأس بالمزارعة بالثُّلث والرُّبع أو أقل أو أكثر, وبالدَّراهم والدَّنانير.
ويُكره بالحنطة والشَّعير إلَّا أنْ يُجعل في الذمَّة من غير ما يخرج من تلك الأرض. ولا تصحّ إلَّا بأجلٍ معلوم, فمتى لم يُذْكَر الأجل كان ما يَخرُج منها لصاحبها, وعليه للمُزارع أجرة المثل.
والمساقاة تكون في النَّخل والشَّجر والكروم, وهي جائزةٌ بالرُّبع والثُّلث والنِّصف, وهذا معنى قوله (وإنْ ساقا غيرَه في شجرٍ أو نخلٍ له, وشَرَطَ من الثَّمرة شيئاً معلوماً, صحَّ وإلَّا فلا مساقاة)(3).
وقوله: (المؤونة على المساقي)(4).
أي مؤونة عمارة النَّهر وإصلاح أصول النَّخل ونحو ذلك عليه, لا على صاحبها.
ص: 537
وقوله: (الإجارةُ تنعقدُ بأجلٍ معلومٍ, ومال معيَّن)(1).
هذا على الإطلاق غيرُ صحيحٍ, ولا يعتبر الأجل المعلوم في كلِّ موضع من الإجارات, وإنَّما يكون ذلك شرطاً في صحَّة إجارة الأرضين والدُّور ونحوها, ألا ترى أنَّ من استأجر خيّاطاً فهو على ضربين:
إمَّا أنْ يجب أنْ يكون الأجلُ معلوماً, والعملُ مجهولاً, كأنْ يستأجره من الغداة إلى العَشيِّ بدانق. وإمَّا أنْ يكون العملُ معلوماً, والأجلُ مجهولاً, كأنْ يستأجره ليخيط له قميصاً بدانق, فإنْ كان الأجل هاهنا معلوماً لم تصحّ تلك الإجارة.
والأُجرة في الموضعين لا بُدَّ من أنْ تكون معلومة.
وقوله: (ومَنْ كان عاقلاً يملك أمرَه(2), فإقراره في مرضه كإقراره في صحته)(3).
هذا يحتاج إلى أنْ يُقسَم, فيُقال:
إنْ كان موثوقاً بعدالته كان ما أقرَّ به من أصل المال. وإنْ لم يكن مَوثوقاً به طُولب المُقَر له بالبيِّنة فإن كانت فكمثل(4), وإنْ لم يكن له بيِّنة أُعطي من الثُّلث.
وقوله: (لا يجوز الرُّجوع(5) مع إطلاق الوقف وبقاء الموقوف عليهم فيه(6) على(7)
ص: 538
ما لا يمنع الشَّرع مِنْ مَعُونتهم(1))(2).
بيانه: إذا قبّض الواقفُ الموقوفَ عليه أو مَنْ يتولّى عنه, صحّ ولم يجز له الرّجوع فيه, ولا يصحُّ إلَّا ما يتقرّب به إلى الله, ولا يجوز وقف المسلم على مَواضِع قُرَب الكفّار.
وقوله: (وإن اشترط رجوعه فيه عند فقره, كان له ذلك إذا افتقر)(3).
معناه: أنَّه إذا شَرَطَ الواقفُ إنْ احتاج إلى شيءٍ منه كان له بيعه والتصرُّف فيه, كان الشَّرطُ صحيحاً, وكان له أنْ يَفعل ما شَرَط إلَّا أنَّه إذا مات والحال هذه رجع ميراثاً ولم يمضِ الوقفُ.
قوله: (ووقف المؤمن على الكافر باطل. وروي: إنْ كان الكافر أحد أبوي الواقف جاز(4))(5).
يعني بذلك أنَّه لا يجوز الوقف على كافرٍ لا رحم بينه وبين الواقف.
ويجوز على والدته وولده أو مَن بينه وبينهم رحم وإنْ كانوا كُفّاراً.
وقيل معنى الرِّوايتين: أنَّه لا ينبغي أنْ يقف المؤمن على الكافر سواء كان من أقربائه أو بعيداً منه, فأمَّا إنْ وقف - مع الكراهة عليه - فإنْ كان أجنبيّاً فالوقف باطل, وإنْ كان
ص: 539
من ذوي رَحِمه كان ذلك ماضياً وإنْ كان مكروهاً(1).
وقوله: (والواقف لا يخلو أنْ يعيّن ما(2) يَقف(3) عليه, أو لا يعيّن)(4).
إنَّما ذكره بلفظ (ما) لأنَّ الوقف كما يكون على بني آدم صحيحاً فقد يصحُّ على المساجد والمشاهد والكعبة والقَناطر, ولفظ (ما) أعمّ من لفظ (مَنْ).
قوله: (عَمَّاً(5))(6) أي: عُمُوماً.
والزَّيديَّة على فرقتين: (بترية) وهم يقولون بإمامة أبي بكر وعمر, و(جاروديَّة) وهم لا يقولون بذلك.
قوله: (فإنْ وَقَفَهُ على المسلمين كان لجميع من صلَّى إلى الكعبة(7))(8).
يريد إذا وَقَفَ المسلمُ على المسلمين كان لجميع مَنْ أقرَّ بالشّهادتين وأركان الشَّريعة
ص: 540
وإنْ اختلفوا في الآراء والدِّيانات.
ومتى وَقَفَ الإنسانُ على أجناس وهم كثيرون في البلاد, كان ذلك مقصوراً على من حضر البلد الّذي فيه الوقف.
وقوله: (المسلم يتوكَّل للذمّي على المسلم)(1).
هذه الرّواية جاءت للتقيَّة(2), وليس العمل عليها؛ لأنَّ النَّصَّ وَرَدَ مطلقاً - على
ص: 541
الشّياع - بأنَّه لا يتوكَّل المسلم للذمّي على المسلم في أحاديث كثيرة(1).
و(يتوكَّل) أي يَصير وكيلاً.
أو يكون الأوَّلُ للجواز, والثَّاني للكراهة.
وقوله: (فإنْ أخذ المُحال بعضَ الحوالة لم يجز له الرُّجوع. فإنْ لم يأخذ فله الرُّجوع)(2).
تحقيق ذلك: أنَّ مَنْ قَبِلَ الحوالة والمُحال عليه مليء فأبرأه منه, لم يكن له الرّجوع, ومتى لم يبرئه إلَّا بعد أخذ جميع ذلك كان له الرُّجوع أيّ وقت شاء.
قوله: (فإنْ أمضى الورثة في حياة المُوصِي ما زادَ على الثُّلث, جاز لهم الرّجوع فيه)(3).
هذا بخلاف ما في النّهاية, وهو قوله:
(فإنْ وصّى بأكثر مِن الثُّلث, ورضي به الورثة, لم يكن لهم بعد ذلك امتناع من إنفاذها لا في حالة حياته ولا بعد وفاته)(4).
ص: 542
ويُمكن أنْ يُقال في الجمع بينهما:
إنَّ الورثة إذا كانوا مُوسرين ورضُوا بأكثر من ثلثِ مالهِ الّذي وصّى به المُوصي مِنْ طوعٍ ورغبةٍ لهم من غير استدعاء المُوصِي إيّاهم إلى ذلك, لا يكون لهُم رجوعٌ فيه. وإنْ استدعاهم الموصِي إلى ذلك, وكانوا فقراء, وحَملهم الحياءُ إلى إظهار الرّضا بذلك, فلَهُم الرّجوعُ بعد وفاته في ذلك إنْ أرادوا.
وقوله في اللّقطة: (ما لا تبلغ قيمته أكثر من درهم)(1).
ينتفع به من غير تعريف إلَّا الإداوَة, وهي: المِطْهَرَة(2), والمِخصَرة: وهي العَصا(3). اعتبر في ذلك أكثر مِنْ درهم, والرّوايات الكثيرة هو ما لا تبلغ قيمته درهماً(4).
وقوله: (ما أخرج من بحرٍ - كاللّؤلؤ(5)- أخرج خمسه, والباقي ملكه)(6).
والعمل على أنَّه إذا لم تبلغ قيمته ديناراً فلا خُمس فيه.
ص: 543
ومِنْ المعادن والكنوز ما لا يبلغ عشرين ديناراً فلا خمس فيه على سبيل الوجوب, فإنْ أخرج ممَّا هو أقل قيمةً من دينارٍ فهو على الاستحباب.
وقوله: (الوصي يوصي إلى غيره وليس له ذلك إلَّا أنْ يكون المُوصي شَرَطَ ذلك له)(1).
هذا على ثلاثة أوجه في حال غيبة الإمام, (أحدها): أنَّ المُوصِي إذا شَرَطَ على الوصي أنْ لا يوصي إلى الغير فليس له ذلك. فأمَّا إذا أطلق أو شرط إيصاءه فإنَّه يجوز, لأنَّ النَّصّ ورد على الإطلاق في ذلك, وهو إذا حضر الوصيَّ الوَفاةُ وأراد أنْ يوصي إلى غيره جاز أنْ يوصي إليه بما كان يتصرَّف فيه من الوصيَّة(2).
وفي حال ظهور الإمام إذا مات الوصيّ تولّى النَّاظر في أمر المسلمين تنفيذَ الوصيَّة.
وقوله: (المكاتب يجوز ما أُوصِيَ(3) له بحساب ما أعتق منه(4))(5).
ص: 544
هذا إذا كان غير مشروط.
وهكذا قوله: (لا يوصِ إلى العبيد إلَّا مَن كان(1) مكاتباً أو مدبّراً)(2) لا يصحّ على الإطلاق, وإنَّما يجوز في المكاتب غير المشروط وفي المدبَّر الذي دبَّره مولاه بالنّذر أو فيمن وُلِدَ مِنْ مُدَبَّرين إذْ لا رُجوعَ في هذا المكاتَب ولا في هذا المدبَّر.
وقوله: (ما يوجد من السَّمك على شاطئ الماء(3): فإنَّه يعتبر بأنْ يُلقى في الماء, فإنْ طفا على ظهرِه لم يؤكل, وإنْ طفا على وجهه أُكل)(4).
النَّصُّ المعروف في ذلك أنَّ الحلال أكله من السَّمك ما له فَلْس(5), وأخذه مسلم. ويَحلُّ أيضاً: ما وُجد منه على ساحل البحر وأُلقي في الماء فَرُسب أصله ولم يَطفُ عليه.
قوله: (واجب أنْ لا يؤكل إلَّا ما يصيده المؤمنون)(6).
لهذا تفصيل, وهو:أنَّ ما أخرجه مُسلم من الماء حيّاً أو أخرجه كافر وشاهَدَ عدلان إخراجه له كذلك حَلَّ أكله لكلِّ أحدٍ, فإنْ شاهده مُسلم حلَّ له خاصَّة دون مَنْ سواه, وكلُّ سمكٍ أخذه كافر ولم يشاهد مسلمٌ إخراجَه من الماء حيَّاً فإنَّه يحرم أكلُه.
ص: 545
وصيد السَّمك على ثلاثة أضرب: حلال, ومحرَّم, ومكروه.
فالحرام - على الإطلاق - ما لا فلسَ له, والمكروه ما وجد ميِّتاً في الشَّبكة في الماء ولا يتميَّز ما لم يمت فيه, والحلال قد ذكرناه من قبل.
واليَحْمُورُ(1): حِمَارُ الوحش(2).
والمِعْرَاضُ: سهم بلا ريش(3).
وقوله: (وما له مِخلاب من الوحش حرام)(4).
سواء فرس أو لم يفرس, ما فرس كالأسد والذئب, وما لم يفرس كالأرنب والثَّعلب واليربوع وكلّ ما عدا الحُمر الوحشيَّة.
وقوله: (وما شاكل ذلك محرَّم)(5).
معطوف على المحرَّمات المفصَّلة قبله, لا على النَعام والغزلان ونحوهما.
وقوله في الذبيحة: (لا بُدَّ فيها من التَّسمية والتّوجّه إلى القبلة)(6).
له تفصيل, وهو:
أنَّ الذَّابح المؤمن ومَنْ بحكمه إذا سمّى اللهَ متوجِّهاً إلى القبلة موجِّهاً الذَّبيحة أيضاً
ص: 546
إلى القبلة, صحّ ذلك مع الاختيار.
والمؤمن إذا نَسِيَ التَّسمية فلا بأس.
وإنْ تركها متعمِّداً فلا يحلّ أكلها.
وقوله: (فإن تحرَّك المذبوح حتّى إذا ذُبح وخرج منه الدَّم وإلَّا لم يؤكَل)(1).
العمل على ما في النّهاية أنَّه تَحلّ الذَّبيحة إذا تحرَّكت بعد الذَّبح أو خرج منها الدَّم(2), ولا يجب جمع الأمرين في مذبوحٍ واحد وإنْ كانَ على الأوْلى.
وقوله: (المرق إذا وقع فيه دم فأُغلي يحلُّ أكله)(3).
هذا إذا كان الدَّم قليلاً.
وقوله: (وجنينُ ما يُؤكَل لحمُه إنْ أشعر أو أوبر وأُمُّه مذكّاة فذكاته ذكاة أُمّه)(4). يُروى (ذكاة) بالرَّفع والنَّصب, وهما يدلّان على معنيين: (أحدُهما) أنَّ ذكاة أُمِّه كافية عن ذكاته, فيجوز أكله وإنْ لم يكن مذبوحاً إذا وُجِد غير حيٍّ. وإذا نُصِبَ يدلُّ على أنَّه إذا وُجِدَ الجنينُ حيَّاً لا بُدَّ أنْ يذبح ويذَكَّى مثل ذكاة أُمِّه وذبحها.
وقيل: (الأوَّل) محمولٌ على أنَّه إذا لم تلجه الرُّوح بعد الإشعار(5), و(الثَّاني) محمول على أنَّه إذا ولجتهُ الرُّوح فلا بُدَّ من تذكيته.
ص: 547
وقوله: (وإنْ عُجن دقيق بماء نجس فلا يؤكل)(1).
العمل على هذا, وقد يجمع أصحابُنا بين الخبر الّذي هذا مأخوذ منه(2) وبين الخبر الّذي يروى أنَّه يجوز أكله لأنَّ النَّار قد طهّرته(3), بأنْ قالوا: إنَّ العجين بالماء النَّجس يجب أنْ يُدفَن ولا يُخبَز, فأمَّا إذا خُبِزَ وعُلِمَ بعده نجاسة مائه فلا بأس بأكله(4).
وقوله: (ولا تؤكل ألبان الميتة الّتي توجد في ضرعها(5) بعد الموت)(6).
هذا هو الاحتياط, ويروى أنَّه تَحلُّ من الميتة عشرة أشياء, منها اللَّبن, وتحرُم من
ص: 548
المذكّاةِ عشرة أشياء أيضاً (1).
وقيل في الجمع بين الخبرين(2): إنَّه إذا حُلب اللّبن فإنَّه يخرج ويمرُّ في الضَّرع الّذي بحكم الميتة فينجس اللَّبن بذلك فيَحرُم ولا يؤكل. وإنْ قُطع مَوضع الضَّرع فيُؤخَذ اللَّبن مجموعاً من موضعه فإنَّه حلالٌ يجوز أكلُه(3).
وقيل: إنَّ اللَّبن من الميتة إنَّما يحلُّ بشرط أنْ يكون مذبوحاً. ويَحرُم إذا مات حتف أنفه(4). والعموم يتناول الموضعين(5).
ص: 549
قوله: (والموانع من الإرث: الكفر, والرِّقّ, وقتل الوارث مَنْ(1) يرثه لولا القتل)(2).
هذا يحتاج إلى بيان, وهو:
أنَّ الكفر في الوارث يمنع من الإرث دون الكفر في الموروث.
ثُمَّ الرِّقّ على بعض الوجوه لا يمنع من الميراث فإنَّ الحُرَّ إذا مات عن مالٍ وله ابنٌ مملوك تنقص قيمته عن تركة أبيه, فإنَّه يجب اشتراؤه وإعطاؤهُ الباقي من الميراث.
وليس كلّ قتلٍ يمنع من الإرث؛ لأنَّ مَنْ قَتَلَ أباه أو ابنَه بإذن الإمام وهو عمدٌ - في قَوَد ونحوه - أو قَتَلَه خطأً فإنَّه يرثُه من التّركة.
وقوله: (وولد الولد يقوم مقام الولد الأدنى في الإرث والمنع ويترتَّبون(3) الأقرب فالأقرب, وهذه سبيل ولد الإخوة والأخوات إذا لم يكن إخوة وأخوات مع الأجداد(4) والجدّات) (5).
يعني أنَّ ولد الإخوة يقومون مقام آبائهم في مقاسمة الجدّ والجدّة ويرثون معهما ويمنعون العمّ من الميراث ونحوه كما يمنعهم الإخوة, وكذا أولاد الأخوات, وليس
ص: 550
ذلك على العموم في جميع ما تقدَّم مِنْ أوَّل الفصل.
وقوله: (الكفّار يرث بعضُهم بعضاً إذا لم يكونوا حربيين(1))(2).
معناه أنَّ الذِّميَّ إذا كان له ولد حربيّ ومات فميراثه للإمام ولا يُعطى ولدُه في دار الحرب شيئاً.
وقوله: (ولا يمنع الإرثَ إلَّا العمدُ من القتل)(3).
ليس هذا على الإطلاق؛ لأنَّ قتل الخطأ, والخطأ شبيه العمد, كلاهما يمنع عن إرث الدِّية, ولا يمنع من ميراث التّركة. والقتلُ والعمدُ إنَّما يمنع من الإرث إذا كان ظُلماً.
وقوله: (و رقُّ باقي الأقارب لا يجب أنْ يشترى من التّركة وإنْ كانت كثيرة, فإنْ تبرَّع بالعِتق مالكُه وإلَّا كان الميراث لبيت المال)(4).
لهذا تفصيل لا بُدَّ من ذكره - كما هو في النَّص المفصَّل في ذلك - وهو: إذا لم يُخلِّف الحُرُّ إلَّا وارثاً مملوكاً, ولداً كان أو والداً أو أخاً أو أُختاً أو أحداً من ذوي أرحامه, وجب أنْ يُشترى من تركته ويُعتق ويُعطى بقيَّة المال, ولم يكن لمالكه الامتناع منه, فإنْ كانت التّركة أقلّ من قيمته لم يجب شراؤه, وكان الميراثُ لبيت المال.
وقوله: (المكاتَب يَرِثُ ويُورَث منه بحساب ما عُتق)(5).
ص: 551
هذا إذا لم يكن مشروطاً.
وقوله فيمن يحجب الأُمَّ من الثُّلث: (بشرط أنْ لا يكونوا كُفّاراً ولا عبيداً)(1).
كلام صحيح إلَّا أنَّه أخلَّ بشرطٍ آخر, وهو: إنْ لم يكونوا قاتلين عمداً, ظلماً.
وقوله: (فأمَّا غير الولد والإخوة فعلى ضربين: أحدهما يرث مع الأبوين, وهما: الزّوج أو الزّوجة, ولا حظَّ لغيرهما معهما في الميراث)(2).
أي لا حظَّ لغير الزّوجين مع الأبوين.
وقوله: (غير الولد والإخوة(3) على ضربين)(4).
لا فائدة في ذكر الإخوة هاهنا إلَّا في منع الأُم من الثُّلث إلى السُّدس مع الأب ليتوفّر المال على الأب ولا شيء لهم معهما من الميراث بحال.
وقوله بعد ذكر الأجداد والجدّات: (ويرث معهم الإخوة والأخوات(5) والولد(6))(7).
ص: 552
أي أولاد الإخوة.
وقوله: (ومن كان مولى ولا وارث له من مولى ولا نسيب(1), فميراثه لبيت المال. وميراث من لا وارث له للإمام, ويضعه حيث يرى)(2).
لا تناقض فيه؛ لأنَّه قال أوَّلاً: (إنَّ المُعتَق إذا لم يكن له وارثٌ فميراثه لبيت المال) أي لبيت مال الإمام, أو يكون معناه إذا لم يكن الإمام الّذي هو وارثه حاضراً بل يكون غائباً فميراثه لبيت مال المسلمين يُنفَق على ضُعفائهم.
وقوله: (وميراث من لا وارث له) يمكن أنْ يُحمل على كلِّ من كان حُرَّاً في الأصل أو يكون مُعتَقاً, وكلاهما عند التَّحقيق للإمام إنْ شاء وضعه في بيت المال وإنْ شاء فعل به ما كان عليٌّ عليه السَّلام يفعله, فإنَّه كان يعطي ميراث من لا وارث له فقراءَ أهل بلده.
وقوله: (من له رأسان أو بدنان: فإنَّه إذا نام نُبِّه, فإنْ انتبه منهما وُرِّث سهم اثنين, وإنْ انتبه من أحدهما فهو واحد)(3).
معناه نُبِّه أحدهما, بأنْ يُحرَّك هو وحده, فإنْ انتبه واحد منهما فهما اثنان, وإنْ انتبه الآخر أيضاً من تنبيه أحدهما فهو واحد, والأحاديث المفصَّلة على هذا(4).
ص: 553
وكذا كلام الشَّيخ المفيد, والشَّيخ أبي جعفر, وابن البرّاج(1).
وقوله: (إذا هلك جماعة - بينهم قربى - في وقت واحد, ولم يُعلم أيّهم مات قبل صاحبه, يُورَّث بعضهم من بعض, بأنْ يُقدَّم أضعفُهم سهماً, مثالُه: أنْ يهلك أب وابن فيورث الأب سُدساً مع الولد, ثُمَّ يفرض أنَّ الأب مات وورثه الابن, فيرثه(2) كلَّ ماله, وما ورثه عنه)(3).
هذا بخلاف ما في بعض كتب الشَّيخ أبي جعفر من قوله: (يفرض موت الابن أوَّلاً ويورَّث الأب منه سُدساً, ثُمَّ يفرض أنَّ الأب مات فيورّث الابن منه دون ما ورثه عنه)(4).
ويمكن أنْ يجمع بينهما بأنْ يقال: الأوَّل إنمَّا صحَّ لعدم وارث آخر غير الأب, والثَّاني لوجود وارث سوى الأب من أُمّ وولد.
وقوله: (ذكرُ إبطال العَول)(5).
معناه أنَّ العَول الّذي هو زيادة السِّهام على المال أو نقصان المال عن السِّهام باطل على ما يراه العامَّة من تنقيص(6) سهام الورثة كلِّهم.
ص: 554
وقوله: (فإذا اجتمع في فريضة من له سهام مُعيَّنة(1) ولم يفِ المال, فإنَّ السِّهام إنَّما اجتمعت بالذِّكر دون الحكم)(2).
قد ذكر في تفصيل ذلك ما هو كفاية, وهو أنْ يعمل فيها بأنْ يبدأ بمن له سهم مذكور وقد حُطَّ من فرض إلى فرض فيُعطى حقُّه والباقي لمن بقي كالأبوين وأحد الزَّوجين والبنتين, ومعلوم أنَّ الزَّوج والأبوين حُطُّوا هاهنا من الأعلى إلى الأدون, والبنت والبنات ليس لهنَّ فرضان أعلى وأدون, وإنَّما يكون لهنَّ الفرض مع عدم البنت الثّلثين, وليس لهنَّ فرض مع وجود ابن بل يرثن بالقرابة للذكر مثل حظ الأنثيين, فأنْ يكون لهنَّ الباقي أولى من العَول في نصيب كلِّ واحد منهم.
واستدلال المرتضى على صحَّة ذلك أقوى ممَّا ذكر, وهو قوله: (المال إذا ضاق عن السِّهام, كامرأة خلَّفت بنتين والزّوجَ والأبوين, فالمال يضيق عن الثُّلثين والرُّبع والسُّدسين, فنحن بين أمور: إمَّا أن يُدخَل النَّقص على كلِّ واحدٍ من هذه السِّهام, أو يُدخَل النُّقصان على بعضها. وقد أجمعت الأُمَّة أنَّ البنتين منقوصتان هُنا بلا خلاف فيجب أن يُعطى الأبوان السُّدسين والزَّوج الرُّبع ويُجعل الباقي للبنتين, ويخصّهما بالنَّقص لأنَّهما منقوصتان بالإجماع. ومن عداهما ما وقع إجماع على نقصان من سهام ولا قام دليل على ذلك, وظاهر الكتاب يقتضي سهماً معلوماً فيجب أنْ نوفيه إيَّاه ونجعل النَّقص داخلاً فيمن أجمعو على نقصه)(3).
ص: 555
وقوله: (ويقوم أولادهم - إذا فقدوا - مقامهم مع الجدّين والجدّتين)(1).
أي يقوم أولاد الإخوة والأخوات مع عدمهم مقامهم مع الجدِّ والجدَّةِ من الأب ومع الجدِّ والجدَّةِ من الأم في المقاسمة.
ص: 556
قوله: (فما يُقبل فيه شهادة واحد هو: رؤية الهلال لشهر رمضان)(1).
هذا إنَّما يصحُّ إذا كان ذلك الواحد معصوماً, وقد تقدَّم الكلام عليه في الصّوم.
وقوله: (وما لا تقبل فيه إلَّا شهادة الرِّجال فهو: النِّكاح, والطَّلاق, والحدود, ورؤية الأهلَّة)(2).
فيه أشياءٌ لا بُدَّ من ذكرها وهو أنْ نقول:
ذكر الشَّيخ أبو جعفر مكان (النِّكاح): (الرِّضاع).
وذلك أحسن؛ لأنَّ النِّكاح منعقد بغير شاهدين إلَّا أنَّه إذا أنكر أحد الزَّوجين ذلك, ويدَّعي الآخر, فلا بُدَّ له من شاهدي عدل على صحَّة دعواه, ولا تُقبل فيه شهادة النِّساء.
فأمَّا الحدود فإنَّه تُقبل فيها شهادة النِّساء مع الرّجال على بعض الوجوه, فإنَّه إنْ شهد ثلاثةُ رجال وامرأتان على مُحصَنٍ بالزِّنا يجب عليه الرَّجم. وإنْ شهد عليه رجلان وأربع نِسوة يُحدُّ حدَّ الزَّاني مائة جلدة ولا يُرجم وإن كان مُحصَناً. وإنْ شهد رجلٌ واحدٌ وستُّ نِسوة لا تقبل شهادتهم.
وقوله: (وتُقبل شهادة النِّساء في الرِّضاع)(3).
ص: 557
هذا غيرُ معمولٍ عليه, على أنَّه يمكن أنْ يُعمل على بعض الوجوه, وهو: أنَّه إذا شهدت جماعة من النِّساء أنَّ هذا الصَّبيّ وتلك الصَّبيّة ارتضعا من امرأة واحدة مقدار ما يُحرِّم, وكنَّ أكثر مِنْ أنْ يقع التّواطؤ بينهنَّ, فإنَّه ينبغي لنا أنْ نُجنِّب من التّناكح بينهما, فأمَّا الرّؤية فكمثل الهلال, وأمَّا الطَّلاق فلا تُقبل شهادتهن فيه على حال.
وقوله: (وإذا تعارضت البيِّنتان, فإنْ كانت إحداهما أرجح, حُكم بها, وإلَّا قُسِّم الشّيء(1) بين مَنْ قامت لهما البيِّنتان(2))(3).
هذا إذا كانت أيديهما خارجات عنه, وتفصيله:
أنَّ الحاكم يحكم لأعدلهما شهوداً, فإنْ تساووا في العدالة كان الحكمُ لأكثرهما شهوداً مع يمينه, وإنْ تساووا في العدد والعدالة أُقرع بينهما فمَنْ خَرَجَ اسمه عليه حُلِّف وكان الحكم له, فإنْ امتنع حُلِّف الآخر والحكم له, فإنْ امتنعا كان الحقُّ بينهما نصفين.
وقوله: (تَلَعْثَم أو تَتَعْتَع)(4).
يُقال: (تَلَعْثَم الرَّجل في الأمر) إذا تمكّث فيه وتأنّى(5).
والتَّعْتَعَةُ في الكلام: التّردُّد فيه من حَصرٍ أو عيٍّ(6).
ص: 558
وقوله: (فإنْ كان المدَّعى في يد أحد المدّعيين مع تعارض البيِّنتين حُكم(1) لمن يدُه خارجة منها دون المتشبِّث(2))(3).
ليس هذا على الإطلاق, والحكم فيه على وجهين: إنْ كانت البيِّنة تشهد لمن يده متصرِّفة بأنَّ الحقَّ له, وتشهد للآخر البيِّنةُ أيضاً بالملك, انتُزع الحقّ مِن اليد المتصرِّفة وأُعطي اليَد الخارجة؛ لأنَّ من رأى في يد غيره شيئاً ورآه يتصرَّف فيه تصرُّف الملّاك جاز له أنْ يَشهد بأنَّه ملكه, فلعلَّ مَنْ يَشهد لليد المتصرِّفة إنَّما شهد للتصرّف, وكان على سبيل الغصب تصرُّفُه وإنْ لم يعلمه الشّاهد, فإنْ شهدت البيِّنة لليد المتصرِّفة بسبب الملك من بيعٍ أو هبةٍ أو معاوضةٍ كانت أولى من اليد الخارجة.
ص: 559
قوله: (الأب لا يُقتَل بابنه, بل تؤخَذ منه ديته ويعاقب ويؤدَّب)(1).
هذا في غير قتل الخطأ, معناه: أنَّ الأب إذا قتل ابنه عمداً, ظلماً, أو شبه العمد, كانت الدّية عليه في ماله خاصّة, ولا يُقتَل به على وجهٍ, وتكون الدّية لورثة الابن المقتول خاصَّة, فإنْ لم يكن له وارث غير الأب القاتل, كان الدّية لبيت المال.وقوله: (ومَنْ كان مثلهما(2), فله حكمهما(3), وإنْ أُريد القود منه أُقيد, وإنْ أُريد الدّية أُخذت)(4).
هذا تفصيل لإحدى قسمتين تقدَّمت, وهي قوله: ثُمَّ لا يخلو أنْ يكون قاتل العبد والذِّمي حُرَّاً مسلماً أو مثلهما, فإنْ كان حُرَّاً مسلماً لم يُقتَل بهما, وإنَّما تؤخَذ منه دية الذِّمي وثمن العبد ما لم يتجاوز دية الحُرِّ.
ثُمَّ قال: (وإنْ كان مثلهما) يعني وإنْ كان قاتل العبد عبداً, وقاتل الذِّميّ ذمّيَّاً فالقود أو الدِّية.
وقوله: (إذا قتل العبدُ(5) رجلاً مسلماً أو امرأةً مسلمةً دَفَعَهُ مولاهُ إلى أولياء الدَّم إنْ
ص: 560
شاءوا قتلوه وإنْ شاءوا استرقّوه)(1).
معناه: إنْ قَتَلَ عبدٌ حُرَّاً فعليه القتل, فإنْ طلبوا الدِّية كان على مولاه الدِّية كاملة أو تسليم العبد إليهم.
وقوله: (وإنْ كان العبدُ مدبَّراً أو مكاتَباً في قتل العمد أُقيد منه كالأحرار)(2).
هذا صحيح على وجه, وله تفصيل, وهو:
أنَّ المدبَّر إذا قتل حُرَّاً عمداً كانت الدِّيةُ على مولاه الّذي دبَّره إنْ شاء أو سلَّمه إلى أولياء المقتول إنْ شاءوا قتلوه وإنْ شاءوا استرقّوه.
ومتى قَتَلَ مكاتَبٌ حُرَّاً فإنْ كان له لم يؤدِّ من مكاتبته شيئاً فحكمه حكم المماليك, وإنْ كان غير مشروط عليه وقد أدّى مِنْ مكاتبته شيئاً كان على مولاه من الدِّية بقدر ما بقي من كونه رقَّاً وعلى إمام المسلمين من بيت المال بمقدار ما تحرَّر منه.
ويمكن أنْ يُقال: إنَّ ذلك الحكم في المدبَّر مطلقاً إذا كان تدبيره لا يمكن فسخه بأنْ يكون على سبيل النَّذر أو نحو ذلك.
وقوله: (وإنْ قُتِل خنثى له حكم الرِّجال والنِّساء بأنْ يبول من الموضعين وينقطع منهما في حالةٍ أُعطي ورثتهُ نصفَ دية رجل ونصفَ دية امرأة)(3).
لهذا أيضاً تفصيلٌ, وهو:
أنَّ قَتْلَهُ إنْ كان خطأً فذلك حكمه بأنْ يُعطَى ورثتُه أو عاقلتُه الدِّية, وإنْ كان عمداً
ص: 561
فإنْ أراد أولياؤُهُ القودَ فعليهم أنْ يَردّوا فاضلَ دية القاتل - وهو ربع الدِّية - ثُمَّ إنْ شاءوا قتلوه وإنْ قبلوا الدِّية فلهم دية هذا الخنثى.
وقوله: (فإنْ اشتركوا في قتله, لا بأنْ فَعَلَ كلُّ واحدٍ منهم ما العادة به جارية بأنْ يموت معه, بل بأنْ يقتله منهم قوم, وينظر لهم آخرون, ويمسكه آخرون, قُتِلَ مَنْ قتله, وأدّى فاضل ديتهم, وسُملت عين مَنْ نظر لهم, وخُلِّد الحبس ممُسكُه حتى يموت)(1).
والمراد بقوله (قُتِلَ مَنْ قَتَلَهُ) أي: يُقتَل الّذين قتلوه, ف-(مَنْ) تقع على الجمع أيضاً, يدلُّ عليه قولُه: (وأدّى فاضل ديّتهم).
وسَمْلُ العين: فَقْؤُها, يُقال: (سُمِلَتْ عينُه) أي: فُقئت بحديدةٍ مُحماةٍ(2).
ومَنْ نظر لهم, هو: من يَنظُر يميناً وشمالاً ويترقَّب لهم لئلا يطّلع عليه أحد من المسلمين, ويكون ذلك في خفية.
وقوله: (إنْ أشرف جماعة من علوّ فيقع منهم واحد, فتشبَّث بالّذي قِبَله, ويتعلَّق الآخر بالآخر فيهلكون كلُّهم, فعلى الأوَّل ثلث الدِّية وعلى الثَّاني ثلث الدِّية وعلى الثَّالث ثلث الدِّية, ويُعطَى الرَّابعُ الدِّيةَ كاملةً)(3).
ص: 562
هذا مثلُ ما في النِّهاية(1) من حيث المعنى وإنْ اختلفت العبارتان, رُوي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام في أربعة نفر اطّلعوا في زُبية الأسد فخرَّ أحدُهم فاستمسك بالثَّاني, والثَّاني بالثَّالث, والثَّالث بالرَّابع, فقضى عليه السَّلام بالأوَّل فريسة الأوَّل(2), وغرَّم أهلَه ثلث الدِّية لأهل الثَّاني, وغرَّم الثَّالث لأهل الرَّابع الدِّية كاملةً(3).
لأنَّ أولياء الأوَّل إذا أعطوا ثُلثَ دية الثَّاني لأوليائه, وأعطى(4) أولياءُ الثَّاني ثُلثَ الدِّية مِنْ خاصِّ ما لهم - مع ثُلثِ الدِّية الّذي أخذوه مِنْ أولياء الأوَّل - أولياءَ الثَّالث فيكون مبلغهما ثُلُثَي الدِّية, وإذا أخذ أولياءُ الثَّالثِ ثُلُثَي الدِّية مِنْ أولياءِ الثَّاني, وأعطوا ثُلُثَ ديةٍ مِنْ عندهم مع ثُلُثَي الدِّية الّذي أخذوه - وهو دية كاملة - أولياءَ الرَّابع, كان بمنزلة الّذي ذكرناه أوَّلاً.
ووجدتُ في بعض نسخ الأحكام النَّبويَّة هاهنا ما هو بخلاف ما ذكرنا وليس ذلك بشيء.
وقوله: (ودية الخطأ ترجع العاقلة بها على مال القاتل)(5).
هذا إذا كان له مالٌ, فإنْ لم يكن له مال فلا شيء للعاقلة عليه.
ومتى كان للقاتل خطأً مالٌ ولم يكن للعاقلة شيءٌ أُلزِمَ في ماله الدِّية خاصَّة.
ص: 563
ويَنسب الشَّيخ أبو(1) جعفر هذه الفتوى إلى بعض أصحابنا(2).
وإطلاق كلامه في ذلك أنَّ دية قتل الخطأ تلزم العاقلةَ الّذين يرثون ديته أنْ لو قُتِلَ, ولا يلزم مَنْ لا يرث من ديته شيئاً.
وقوله: (مَنْ ائتمن ظئراً على(3) ولده, فسلَّمته إلى غيرها فلم يُعرَف له خبر(4), فعليها الدِّية)(5).
معناه: أنَّ الظّئر إذا استأجرت ظئراً أخرى من غير إذنْ صاحب الولد, فغابت به ولا يُعرَف له خبر, كان عليها الدِّية.
وقوله: (وإنْ نوّمت الظّئرُ الصّبيَّ إلى جانبها(6) فانقلبت عليه فقتلته, فعليها الدِّية كاملة(7))(8).
هذا على وجهين:
إنْ انقلبت الظّئر في منامها فقتلته وكانت طلبت المظائَرة للفخر وللعزِّ, كان عليها الدِّية في مالها خاصَّة.
ص: 564
وإنْ كانت إنَّما فعلت ذلك للفقر والحاجة, كانت الدِّية على عاقلتها.
وقوله: (والسنّ في الإنسان, أُصول ثمانية وعشرون, منها مقاديم ستَّة عشر, ومآخير اثنا عشر, وفي كلِّ واحدةٍ مِنْ المقاديم خمسة وعشرون ديناراً, ولكلِّ واحدةٍ مِنْ المآخير خمسون ديناراً, فذلك ألف دينار في الكلِّ)(1).
تفصيله بخلاف ما في النّهاية, وجملته توافقه, فهناك قيل:
(وفي الأسنان كلّها الدِّية كاملة, والّتي تقسم عليها الدِّية ثمانية(2) وعشرون سنَّاً, ست عشرة منها في مواخير الفم, واثنتا عشرة في مقاديمه, فالّتي في مواخير الفم لكلِّ سنٍّ منها خمسة وعشرون ديناراً, فذلك أربع مائة دينار, والّتي في مقاديم الفم لكلِّ سنٍّ منها خمسون ديناراً, فذلك ستّ مائة دينار, الجميع ألف دينار)(3).
والعملُ على هذا, فإنَّ الحَكَمَ بن عيينة رواهُ عن الباقر عليه السَّلام, قال: إنَّه قال الخِلقة إنَّما هي ثمانية وعشرون(4) سنَّاً, اثنتا عشرة في مقاديم الفم, وستّ عشرة سنّاً في
ص: 565
مآخيره, فعلى هذا قُسّمت دية الأسنان, فديةُ كلِّ سنٍّ من المقاديم إذا كُسرت حتّى تذهب, فإنَّ ديته خمسمائة درهم, وهو في اثنتي عشرةَ سنَّاً ستَّة آلاف درهم, وفي كلِّ سنٍّ من المواخير مائتان وخمسون درهماً, وهي ست عشرة سنَّاً, فديتها أربعة آلاف درهم, فجميع دية المقاديم والمواخير من الأسنان عشرة آلاف درهم(1).
وقوله: (على .. عثم)(2).
أي: على فسادٍ, لا على استواء.
ص: 566
باب الحدود(1)
قوله: (الحدُّ بالقتل هو(2): حدُّ الزِّنا للمحصن والمحصنة)(3).
هذا لا يخلو من خلل وإنْ كان الرَّجم والقتل يؤدّيان إلى الهلاك, ولذلك تفصيلٌ بأنْ يُقال:
حكم المحصَن والمحصَنة على ضربين:
أحدُهما: أنْ يكون المحصَن شيخاً والمحصَنة شيخة, فإنَّه يجب على كلِّ واحدٍ منهما الجلد ثُمَّ الرَّجم, يقدَّم الجلد.
والثَّاني: أنْ لا يكون المحصَن والمحصَنة شيخين, فإنَّهما إذا زنيا كان على كلِّ واحدٍ منهما الرَّجم, يجب دون الجلد.
ثُمَّ من يزني بذات محرم أو غصب فرجَ امرأة ومَنْ في حكمهما يجب عليه القتل وإنْ لم يكن محصناً.
وقوله: (ومَنْ تكرّر منها(4) المساحقة)(5).
فهو على بعض الوجوه صحيح. والعمل على أنَّ المرأة إذا ساحقت أخرى وقامت
ص: 567
عليها البيِّنة بذلك, وجب على كلِّ واحدةٍ منهما الرَّجم إنْ كانتا محصنتين, وإنْ لم يكونا محصنتين كان على كلِّ واحدةٍ منهما مائة جلدة إذا كانتا حرَّتين. وإذا ساحقت المرأةُ غير المحصنة, وأُقيم عليها الحدّ ثلاث مرّات, قُتلت في الرّابعة قتل الزَّانية غير المحصنة.
وقوله: (ومن حُدَّ في شرب الخمر مرَّتين وعاد في الثّالثة قُتل)(1).
هذا صحيح, لأنَّ مَنْ شَرب المسكِر وجب عليه الحدّ ثمانون جلدةً حدّ المفتري, فإذا أُقيم عليه الحدّ دفعتين ثُمَّ عاد ثالثة, وجب عليه القتل.
وقوله: (والمجرِّد السِّلاح في أرض الإسلام السَّاعي فيها فساداً إنْ شاء الإمام قَتَلَه, وإنْ شاء صَلَبَه, وإنْ شاء قطع رجله(2) ويده من خلاف, وإنْ شاء نفاه من الأرض)(3).
في ذلك ترتيب, وهو:
أنَّه إذا قتل وهو يأخذ المال وجب أنْ يُقتل على كل حال.
وإنْ أخذ المال وقتل وجب ان يُستَرد منه المال, ثُمَّ تقطع يده بالسّرقة, ثُمَّ يُقتل بعد ذلك, ويُصلَب.
وإنْ أخذ المال ولم يَقتل ولم يَجرح قُطع, ثُمَّ نُفي عن البلد.
فإنْ جَرح ولم يأخذ المال, ولم يقتل, وجب أنْ يُقتصَّ منه, ثُمَّ يُنفى بعد ذلك من البلد الّذي فعل فيه ذلك.
وإنْ لم يَجرح ولم يَأخذ المال وجب أنْ ينفى أيضاً.
ص: 568
وكأنَّ الرِّواية الأولى الّتي فيها يُخيّر الإمام تكون في الحال الّتي تكون من رجل يسعى(1) في أرض الإسلام بالفساد وتجريد السِّلاح ويهول الأمر فلا يُعلم هناك قتل ولا سرقة وإنَّما يُظَنّ كلّ واحد منه.
وقوله: (وكلُّ مَنْ وطأ إحدى المحرَّمات(2) قُتل - إذا علم بتحريمه - سواء كان بعقد أو بغير عقد)(3).
معناه: إنْ وطَأَ ذاتَ محرمٍ له وهو عالم أنَّها ذات محرم له - أُمَّاً أو بنتاً أو أُختاً ونحوهن - يجب عليه القتل سواء كان مُحصَناً أو غير مُحصَن, حُرَّاً كان أو عبداً, مسلماً كان أو كافراً, شيخاً كان أوشابَّاً.
وقوله: (المحصن على ضربين: عاقل ومجنون. فالعاقل المحصَن إذا شهد عليه أربعة رجال عدول بأنَّه وطأ غير مَنْ له وطؤها في القُبُل أو الدُّبُر وكان لا حائل بينه وبين وطء زوجته(4), وكان نكاحُها للدوام, فإنَّ المتعة لا تحصن. فأمَّا ملك اليمين فقد رُوي أنَّه يُحصِن(5))(6).
وتحقيق ذلك: أنَّ الإحصان الموجب في الزَّاني الرَّجم هو أنْ تكون له زوجة أو ملك يمين يتمكَّن مِنْ وطئها متى شاء من غير حائل عن ذلك بغيبة, أو مرض منها, أو
ص: 569
حبس دونه, وسواء كانت الزَّوجة حرَّة أو أَمَة, مليَّة أو ذميَّة؛ لأنَّ هذه الصِّفات إذا ثبتت فهو مستغني بالحلال عن الحرام.
وعند أكثر أصحابنا كالمرتضى والشَّيخ المفيد والشَّيخ أبي جعفر: أنَّ نكاح المتعة لا يُحصِن على أصحِّ الأقوال(1)؛ لأنَّه غير دائم, ويتعلَّق بأوقات محدودات.
وقال بعضُ أصحابنا: إنَّ نكاح المتعة يُحصِن(2).
ويمكن أنْ يُقال في الجمع بينهما: إنَّ من تمتَّع بامرأة في أيامٍ معلومة يشترط حضور أوقات منها فربَّما يتخلل من الزَّمان ما يمنع صاحبه من الاستغناء عمَّا سواه, فإنَّه يخرج عن الإحصان بذلك, وإذا تَمتَّع بها سنينَ وأعواماً على سبيل الاستمرار, ويشرط عليها أنْ لا تبرح من بيته, لا ليلاً ولا نهاراً, وإذا كان كذلك فإنَّه يمكن أنْ يُقال: إنَّ نكاح المتعة يُحصِن على هذا الوجه.
وقوله: (وتُحفَر له حَفيرة, ويقام فيها إلى صدره, ثُمَّ يُرجَم. والمرأة تُقام إلى وسطها. فإنْ كان بالإقرار, رجمه مَنْ يأمر الإمامُ بذلك)(3).
هذا قريب ممَّا في النّهاية والرِّسالة, وهو: أنَّه يُدفن في حفيرة إلى حقويه, ثُمَّ يُرجَم, وإذا كان الرَّجم بالإقرار رَجَمَهُ الإمامُ أوَّلاً ثُمَّ النَّاس(4).
ص: 570
وقوله: (فإنْ زنا الأبُ بجاريةِ ابنهِ عُزِّرَ من سَوطٍ(1) إلى تسعة وتسعين)(2).
التَّعزير في باب الزِّنا كذلك. وفي باب القذف إلى تسعة وسبعين.
وقوله: (وحدُّ العبيد خمسون جلدة في الزِّنا, فإنْ حُدّوا سبع مرَّات وعادوا في الثَّامنة قُتلوا)(3).
والعمل في ذلك: أنَّ المملوك والمملوكة إذا زنيا ليس عليهما إلَّا خمسون جلدة غير أنَّهما إذا زنيا ثماني مرَّات وأُقيم عليهما الحدّ في ذلك ثُمَّ زنيا التَّاسعة كان عليهما القتل.
وقوله: (واذا زنى المكاتَب يُجلد بقدر ما تحرّر للأحرار, والباقي جلد العبيد)(4).
هذا إذا كان غير مشروط, فإنْ كان مشروطاً فحكمه حكم المملوك إلى أنْ ينعتق.
وقوله: (ومَنْ رمى حُرَّاً مسلماً بالزِّنا, فإنْ كان الرَّامي مسلماً سواء كان حُرَّاً أو عبداً فعليه ثمانون جلدة. وإنْ كان الرَّامي للمسلم الحرّ ذميَّاً فدمه هدر سواء قذفه في نفسه أو في سببه بأنْ قال: (يا زاني) أو: (يا ابن الزاني). وما عدا ذلك لا يجب عليه الحدّ بل التّعزير. وإنْ أورد مِنْ الألفاظ ما ينبئ عن الزنا بين أهل تلك اللُّغة, ويكون عارفاً بمعناه, كأنْ يقول: (يا قرنان) فإنَّه يُضرَب أيضاً ثَمانين)(5).
تحقيق ذلك: أنَّ الرَّجل والمرأة كافرين كانا أو مسلمين حرّين أو عبدين بعد أنْ
ص: 571
يكونا بالغين قال أحدُهما لغيره من المسلمين البالغين الأحرار: (يا زاني) أو: (يا لائط) ونحوهما بأي لغةٍ كانت, وكان عارفاً بفائدة اللَّفظ وجب عليه الحدّ ثمانون جلدة.
والقرنان: الرَّمي بالأخت. والكشخان: بالأُم. والدَّيّوث: بالزّوجة(1).
وقوله: (يجلد القوّاد خمسة وسبعين سوطاً. فإنْ عادوا نُفوا عن المصر)(2).
هو الجامع بين الرِّجال والنِّساء وبين الغلمان والرِّجال للفجور.
يجب عليه ثلاثة أرباع حدّ الزَّاني.
وكذا المرأة إذا فعلت ذلك غيرَ أنَّها لا يُحلق رأسُها, ولا تُشهَّر, ولا تُنفى كما يُفعَل بالرَّجل.
ص: 572
باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر(1)
قوله: (كلُّ مَنْ أمكنه إنكار منكر وجب عليه)(2).
فقهُه: أنَّه فرض على الأعيان لا يتركه أحد مع التَّمكّن.
وقوله: (مَنْ يجب عليه ذلك فحاله ينقسم إلى ثلاثة أضرب: باليد, واللِّسان, والقلب. هذا مترتِّب: باليد أوَّلاً, ثُمَّ باللِّسان, ثُمَّ بالقلب)(3).
وعلى وجه آخر يترتَّب: أوَّلاً بالقلب, ثُمَّ باللِّسان, ثُمَّ باليد.
وقوله: (باليد) هو على وجهين: (أحدهما) أنْ يؤدّب فاعله بالضَّرب والألم, وهذا مشروط بإذن السّلطان.
(والثّاني) أنْ يُهجَر فاعله, ويُعرَض عنه, وعن تعظيمه, ولا يفعل هو أيضاً ذلك, ويجتنب المنكر على وجه يتأسّى به الغير.
وقوله: (والحدود إلى السُّلطان. فإنْ تعذَّر لمانع, فقد فوّضوا إلى الفقهاء إقامتها, وأمروا الشِّيعة بمعاونتهم ما استقاموا(4). فإنْ اضطرّتهم تقيَّة أجابوا داعيَها إلَّا في
ص: 573
فيه إشارة إلى أنَّ مَنْ استخلفه سلطان جائر, جاز له إقامتها معتقداً أنَّ ذلك بإذنْ سلطان الحق, ويجب على المؤمنين معونته ما لم يتعدَّ الحقَّ إلَّا أنْ يخاف في ذلك على نفسه فإنَّه يجوز حينئذٍ أنْ يَفعل في حال التَّقيَّة ما لم يبلغ قَتل النُّفوس. ومَنْ تَمكَّن مِنْ إنفاذ حكم أو صلاح بين النَّاس في الغَيبة فليفعل وله الثَّواب إنْ شاء الله تعالى.
تَمَّ الكتاب والحمد لله حقّ حمده, والصَّلاة على محمَّدٍ وآله من بعده, وهو حسبنا ونعم الوكيل والمعين.
ص: 574
انتسخ منه أضعف عباد الله وأحوجهم إلى رحمته: محمَّد بن محمَّد بن علي الفراهاني المحمَّد آبادي في عشر للآخر من شهر الله المبارك شعبان سنة ثمان-[ي](1) عشر(2) وستمائة داعياً لصاحبه ومستغف-[راً] لمصنفه.
انتسخ من هذا الكتاب العبد الضّعيف الفق-[ير] المحتاج إلى رحمة الله تعالى أبو جعفر علي بن الحسن بن أبي العباس الجاستي الواراني في شهر الله الم-[عظّم] رمضان عظَّم الله بركته سنة ثما[ني] عشر(3) وستمائة دا[عياً] [لصاحبه بالخير].
ص: 575
ص: 576
1. القرآن الكريم.
2. الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: شيخ الطّائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطّوسيّ (رحمة الله) (ت460ﻫ)، النّاشر: دار الكتب الإسلاميّة - طهران, ط1, 1390ﻫ, تحقيق: السّيّد حسن الموسويّ الخرسان (رحمة الله) .
3. أعيان الشّيعة: السّيّد محسن بن عبد الكريم الأمين (رحمة الله) (ت1371ﻫ)، تحقيق: حسن الأمين، نشر: دار التّعارف للمطبوعات - بيروت، (د.ت).
4. الاقتصاد الهادي إلى طريق الرّشاد: شيخ الطّائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطّوسيّ (رحمة الله) (ت460ﻫ)، نشر: مكتبة جامع جهل ستون - طهران, ط1, 1375ﻫ .
5. أمل الآمل: الشّيخ محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ (رحمة الله) (ت1104ﻫ)، تحقيق: السّيّد أحمد الحسينيّ الأشكوريّ، مطبعة الآداب - النّجف الأشرف، (د. ت).
6. الانتصار في انفرادات الإماميّة: السّيّد عليّ بن الحسين الموسويّ (رحمة الله) المعروف ب-(الشّريف المرتضى) (ت 436ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة النّشر الإسلاميّ التّابعة لجماعة المدرّسين - قم المقدَّسة، ط1، سنة 1415 ﻫ.
7. الأنساب: عبد الكريم بن محمّد السمعانيّ (ت562ه)، تقديم وتعليق: عبد الله عمر الباروديّ، نشر: دار الجنان - بيروت، ط1، سنة 1408ﻫ.
8. الأنوار اللّوامع في شرح مفاتيح الشّرائع (للفيض ): الشّيخ حسين بن محمّد آل
ص: 577
عصفور البحراني (رحمة الله) (ت 1216ﻫ), نشر: مجمع البحوث العلميّة, ط1, قم - إيران, تحقيق: الشّيخ محسن آل عصفور.
9. إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد: الشّيخ محمّد بن الحسن ابن المطهّر الحلّي (رحمة الله) المعروف ب-(فخر المحقّقين) (ت771ﻫ)، تحقيق: السّيّد حسين الموسويّ الكرمانيّ والشّيخ علي پناه الإشتهارديّ والشّيخ عبد الرّحيم البروجرديّ، المطبعة العلميّة - قم المقدَّسة، ط1، سنة 1387ﻫ.
10. تاج العروس من جواهر القاموس: السّيّد مرتضى الحسينيّ الواسطيّ الزّبيديّ (ت1205ﻫ)، النّاشر: دار الفكر للطباعة والنّشر والتّوزيع، 1414ﻫ، ط1, بيروت - لبنان, تحقيق وتصحيح: علي شيري.
11. تذكرة الفقهاء: الشّيخ حسن بن يوسف بن مطّهر الحلّيّ (رحمة الله) المعروف ب-(العلّامة) (ت726ﻫ), تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط1، قم - إيران, سنة 1414ﻫ.
12.التراث العربيّ المخطوط: السّيّد أحمد الحسينيّ الأشكوريّ، نشر: دليل ما - قمّ المقدّسة، ط1، سنة 1431ﻫ.
13.التّعليقات على الرّوضة البهيّة في شرح اللّمعة الدّمشقيّة: آقا جمال الدّين محمّد بن آقا حسين الخوانساري (رحمة الله) (ت1125ﻫ), منشورات المدرسة الرّضويّة, ط1, قم - إيران.
14.تكملة أمل الآمل: السّيّد حسن بن السّيّد هادي الصّدر (رحمة الله) (ت1354ﻫ)، تحقيق: د . حسين عليّ محفوظ وعبد الكريم الدّباغ وعدنان الدّباغ، دار المؤرّخ العربيّ - بيروت، ط1، سنة 1429ﻫ.
ص: 578
15.التّنقيح الرّائع لمختصر الشّرائع: جمال الدّين مقداد بن عبد الله السّيوريّ الحلّي (رحمة الله) المعروف ب-(الفاضل المقداد) (ت 826ﻫ), النّاشر: مكتبة السّيّد المرعشي النّجفيّ, ط1, 1404 ﻫ, قم المقدّسة, تحقيق: السّيّد عبد اللّطيف الحسينيّ الكوه كمريّ.
16.تهذيب الأحكام: شيخ الطّائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطّوسيّ (رحمة الله) (ت460ﻫ)، النّاشر دار الكتب الإسلاميّة - طهران, ط4، 1407ﻫ.
17.الجمل والعقود في العبادات: شيخ الطّائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطّوسيّ (رحمة الله) (ت460ﻫ)، نشر: مؤسسة نشر دانشگاه فردوسي مشهد - إيران, ط1, 1387ﻫ.
18.جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: الشّيخ محمّد حسن النّجفيّ (رحمة الله) المعروف ب-(صاحب الجواهر) (ت1266 ﻫ), النّاشر: دار إحياء التراث العربي, 1404 ﻫ, ط7, بيروت - لبنان. تحقيق: الشّيخ عباس القوچاني.
19.الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: الشّيخ يوسف بن أحمد آل عصفور البحرانيّ (رحمة الله) (ت1186ﻫ), نشر: مؤسّسة النّشر الإسلاميّ التّابعة لجماعة المدرّسين - قم، ط1، سنة 1405ﻫ, تحقيق: الشّيخ محمّد تقي الإيروانيّ والسّيّد عبد الرّزاق المقرَّم.
20.خلاصة الأقوال في معرفة الرجال: الشّيخ حسن بن يوسف بن مطهّر الحلّيّ (رحمة الله) المعروف ب-(العلّامة) (ت726ﻫ)، تحقيق: الشّيخ جواد القيّومي، نشر: مؤسسة نشر الفقاهة - قم المقدّسة. ط1، سنة 1417ﻫ.
21.الخلاف: شيخ الطّائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطّوسيّ (رحمة الله) (ت460ﻫ)، النّاشر: مؤسّسة النّشر الإسلاميّ التّابعة لجماعة المدرّسين - قم, ط1, 1407ﻫ .
ص: 579
22.الدّروس الشّرعيّة في فقه الإماميّة: الشّيخ محمّد بن مكّيّ العامليّ (رحمة الله) المعروف ب-(الشّهيد الأوَّل) (ت786ﻫ)، نشر: مؤسّسة النّشر الإسلاميّ التّابعة لجماعة المدرّسين - قم، ط2، سنة 1417ﻫ.
23.ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد: المحقّق الشّيخ محمّد باقر السّبزواريّ (ت1090ﻫ), النّاشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التّراث - قم المقدَّسة، ط1.
24.الذّريعة إلى تصانيف الشّيعة: الشّيخ محمّد محسن الطّهرانيّ (رحمة الله) المعروف ب-(آقا بزرگ) (ت1389ﻫ)، نشر: دار الأضواء - بيروت، ط3، سنة 1403ﻫ .
25.ذكرى الشّيعة في أحكام الشّريعة: الشّيخ محمّد بن مكّيّ العامليّ المعروف ب-(الشّهيد الأوَّل) (رحمة الله) (ت786ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم المقدَّسة، ط1، سنة 1419ﻫ.
26.الرجال: تقيّ الدّين الشّيخ حسن بن عليّ بن داود الحلّي (رحمة الله) المعروف ب-(ابن داود) (ت740ﻫ)، تحقيق: السّيّد محمّد صادق بحر العلوم، منشورات المطبعة الحيدريّة - النّجف الأشرف، سنة 1392ﻫ.
27.رسائل الشّريف المرتضى: السّيّد علي بن الحسين الموسويّ (رحمة الله) المعروف ب-(الشّريف المرتضى) (ت436ﻫ)، النّاشر: دار القرآن الكريم، تحقيق السّيّد عليّ الرّجائيّ، ط1, 1405ﻫ، قم - إيران.
28.روضات الجنّات: السّيّد محمّد باقر الموسويّ الخوانساريّ (رحمة الله) (ت1313ﻫ)، مطبعة الدّار الإسلاميّة - بيروت، ط 1، سنة 1411ﻫ.
29.رياض العلماء وحياض الفضلاء: الميرزا عبد الله الأفنديّ الأصفهانيّ (رحمة الله) (ق 12)،
ص: 580
تحقيق: السّيّد أحمد الحسينيّ الأشكوريّ، نشر: مكتبة السّيّد المرعشيّ، سنة 1415ﻫ.
30.السّرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: الشّيخ أبو جعفر محمّد بن منصور الحلّيّ (رحمة الله) المعروف ب-(ابن إدريس) (ت 598ﻫ )، النّاشر: مؤسّسة النّشر الإسلاميّ التّابعة لجماعة المدرّسين - قم، ط2, 1410ﻫ.
31. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام: أبو القاسم الشّيخ جعفر بن الحسن (رحمة الله) المعروف ب-(المحقّق الحلّيّ) (ت676ﻫ), تحقيق: عبد الحسين محمّد علي بقّال, النّاشر: مؤسسة إسماعيليان, قم - إيران, ط2, 1408 ﻫ.
32.الصّحاح - تاج اللّغة وصحاح العربيّة: إسماعيل بن حمّاد الجوهريّ (393ﻫ)، دار العلم للملايين - بيروت، ط1، 1410ﻫ, تحقيق: أحمد عبد الغفور العطّار.
33.طبقات أعلام الشّيعة: الشّيخ محمّد محسن الطّهراني ّ (رحمة الله) المعروف ب-(آقا بزرگ) (ت1389ﻫ)، نشر: دار إحياء التراث العربيّ - بيروت، ط1، أوفسيت، 1430ﻫ.
34.علل الشرائع: الشّيخ محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي (رحمة الله) المعروف ب-(الصّدوق) (ت381 ﻫ), نشر: مكتبة داوري - قم, ط1، سنة 1386ﻫ.
35.عوالي (غوالي) اللّئالي العزيزيّة: الشّيخ محمّد بن عليّ الإحسائيّ (رحمة الله) المعروف ب-(ابن أبي جمهور) (ت 901ﻫ )، النّاشر: دار سيّد الشّهداء للنشر - قم, ط1, 1405ﻫ .
36.غاية المرام في شرح شرائع الإسلام: الشّيخ مفلح بن حسن (حسين) الصّيمريّ (رحمة الله) (ت حدود 900ﻫ), نشر: دار الهادي, 1420ﻫ, ط1, بيروت - لبنان, تحقيق: الشّيخ جعفر الكوثرانيّ العامليّ.
37.غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع: السّيّد حمزة بن عليّ بن زهرة الحسينيّ الحلبيّ (رحمة الله) المعروف ب-(أبي المكارم ابن زهرة) (ت585ﻫ), نشر: مؤسسة الإمام
ص: 581
الصّادق (علیه السلام), ط1, 1417ﻫ, قم - إيران.
38.فهرس التّراث: السّيّد محمّد حسين الحسينيّ الجلاليّ، تحقيق: السّيّد محمّد جواد الحسينيّ الجلاليّ، نشر: دليل ما - قمّ المقدّسة، سنة 1422 ﻫ .
39.الفهرست: الشّيخ منتجب الدّين عليّ بن عبيد الله ابن بابويه الرّازيّ (رحمة الله) (ت585ﻫ)، تحقيق: المحدِّث السّيّد جلال الدّين الأرمويّ، نشر: مكتبة السّيّد المرعشيّ - قم المقدّسة، سنة 1366ش.
40.فهرستﮕان نسخه هاى خطى إيران (فنخا): إعداد واهتمام: الشّيخ مصطفى درايتى، نشر: المكتبة الوطنيّة في إيران، طهران، ط1، سنة 1390 ش.
41.الفوائد الرّجاليّة: السّيّد محمّد مهدي بن مرتضى بحر العلوم الطّباطبائيّ (رحمة الله) (ت1212ﻫ)، تحقيق: السّيّد محمّد صادق بحر العلوم والسّيّد حسين بحر العلوم، نشر: مكتبة الصادق (علیه السلام) - طهران، ط1،سنة 1363 ش.
42.قرب الإسناد: عبد الله بن جعفر الحميري (ت ق3ﻫ), تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط1، قم - إيران, سنة 1413ﻫ.
43. قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام: الشّيخ حسن بن يوسف بن مطّهر الحلّيّ (رحمة الله) المعروف ب-(العلّامة) (ت726ﻫ), تحقيق ونشر: مؤسّسة النّشر الإسلاميّ التّابعة لجماعة المدرّسين - قم، ط1، سنة 1413ﻫ.
44.الكافي في الفقه: أبو الصّلاح الشّيخ تقيّ الدّين بن نجم الدّين الحلبيّ (رحمة الله) (ت447ﻫ)، النّاشر: مكتبة أمير المؤمنين (علیه السلام) العامّة، تحقيق الشّيخ رضا استادي، ط. أصفهان - إيران 1430ﻫ.
ص: 582
45.الكافي: الشّيخ أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكلينيّ (رحمة الله) (ت329ﻫ)، طبعة: دار الحديث للطباعة والنّشر، 1429ﻫ, ط1, قم - إيران.
وطبعة: دار الكتب الإسلاميّة, 1407ﻫ, ط4, طهران - إيران، تحقيق الشّيخ علي أكبر الغفّاري.
46.كشف الأسرار في شرح الاستبصار: السّيّد نعمة الله الجزائريّ (رحمة الله) (ت 1114ﻫ) نشر: دار الكتاب, ط1, 1408ﻫ, قم, تحقيق: السّيّد طيّب الموسويّ الجزائريّ.
47. كشف الحجب والأستار: السّيّد إعجاز حسين الكنتوريّ (رحمة الله) (ت1240ﻫ)، تقديم: السّيّد شهاب الدّين المرعشيّ، نشر: مكتبة السّيّد المرعشيّ - قم المقدّسة، ط2، سنة 1409ﻫ.
48. كشف الرّموز في شرح المختصر النّافع: الشّيخ حسن بن أبي طالب اليوسفيّ (رحمة الله) المعروف ب-(الفاضل الآبي) (ت 672ﻫ), النّاشر: مؤسّسة النّشر الإسلاميّ التّابعة لجماعة المدرّسين - قم، ط3، سنة 1417 ﻫ, تحقيق: الشّيخ علي پناه الإشتهارديّ وآقا حسين اليزديّ.
49. كشف اللّثام عن قواعد الأحكام: الشّيخ محمّد بن الحسن الأصفهانيّ (رحمة الله) المعروف ب-(الفاضل الهنديّ) (ت1137ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسسة النّشر الإسلاميّ التّابعة لجماعة المدرّسين - قم، ط1،سنة 1416ﻫ.
50. لسان العرب: محمّد بن مكرم بن منظور (ت711ﻫ)، نشر: دار الفكر للطباعة والنّشر والتّوزيع - دار صادر، سنة 1414ﻫ, ط3, بيروت - لبنان, تحقيق: أحمد فارس صاحب الجوائب.
51. المبسوط في فقه الإماميّة: شيخ الطّائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطّوسيّ (رحمة الله)
ص: 583
(ت460ﻫ)، النّاشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفرية، 1387ﻫ, ط3، طهران - إيران. تحقيق: السّيّد محمّد تقي الكشفيّ.
52. مجمع البحرين: الشّيخ فخر الدّين الطّريحيّ (رحمة الله) (ت1087ﻫ)، نشر: مرتضوي - طهران، تحقيق: السّيّد أحمد الحسينيّ, ط3, 1416ﻫ.
53. مختصر المراسم العلويّة: أبو القاسم الشّيخ جعفر بن الحسن (رحمة الله) المعروف ب-(المحقّق الحلّيّ) (ت676ﻫ), تحقيق: أحمد عليّ مجيد الحلّيّ, وهو قيد الطّبع والنّشر لمركز تراث الحلَّة, التّابع للعتبة العباسيّة المقدّسة.
54. مختلف الشّيعة: الشّيخ حسن بن يوسف بن مطهّر الحلّيّ (رحمة الله) المعروف ب-(العلّامة) (ت 726ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة النّشر الإسلاميّ التّابعة لجماعة المدرّسين - قم، ط2، سنة 1413ﻫ.
55. المُخَصَّص: أبو الحسن علي بن إسماعيل النّحوي المعروف بابن سِيده (ت458ﻫ), نشر: دار الكتب العلمية, بيروت - لبنان.
56.مدارك الأحكام في شرح عبادات شرائع الإسلام: السّيّد محمّد بن عليّ الموسويّ العامليّ (رحمة الله) (ت1009ﻫ), تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط1, بيروت - لبنان، 1411ﻫ.
57.مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: الشّيخ محمّد باقر بن محمّد تقي الأصفهانيّ المعروف ب-(المجلسيّ الثّاني) (رحمة الله) (ت1110 ﻫ), النّاشر: دار الكتب الإسلاميّة, 1404 ﻫ, ط2, طهران - إيران, تحقيق: السّيّد هاشم الرسولي.
58.المراسم العلويّة في الأحكام النبويّة: الشّيخ حمزة بن عبد العزيز الدّيلميّ (رحمة الله) المعروف ب-(سلّار) (ت448 أو463 ﻫ)، طبعة: دار الحق للطباعة والنّشر والتوزيع,
ص: 584
بيروت - لبنان، سنة 1414ﻫ, تحقيق: السّيّد محسن الحسينيّ الأمينيّ.
وطبعة: منشورات الحرمين, ط1, سنة 1404 ﻫ, قم - إيران, تحقيق: الدّكتور محمود البستانيّ.
ونسخة مخطوطة تقع ضمن مجموعة موجودة في مكتبة الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء العامّة، وتسلسلها (316)، وتحتوي على (الجواهر في الفقه) لابن البرّاج، و(شرح المراسم) - وهو الّذي بين يديك -، و (المراسم العلويّة) للديلميّ.
59. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام: الشّيخ زين الدّين بن عليّ العامليّ (رحمة الله) المعروف ب-(الشّهيد الثّاني) (ت966ﻫ), تحقيق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة, 1413 ﻫ, ط1, قم - إيران.
60. المسائل السّلّاريّة: السّيّد عليّ بن الحسين الموسويّ (رحمة الله) المعروف ب-(الشّريف المرتضى) (ت436ﻫ)، النّسخة موجودة في مكتبة مجلس الشّورى - طهران، وتسلسلها ( 2/10007).
61. المصباح المنير في غريب الشّرح الكبير للرافعي: أحمد بن محمّد مقري الفيّوميّ (ت 770ﻫ), نشر: دار الرّضي, ط1, قم - إيران.
62. معالم العلماء: الشّيخ محمّد بن عليّ بن شهر آشوب المازندرانيّ (رحمة الله) (ت588ﻫ)، تقديم: السّيّد محمّد صادق آل بحر العلوم، المطبعة الحيدريّة - النّجف الأشرف، سنة 1380ﻫ.
63. معجم البلدان: ياقوت بن عبد الله الحمويّ (ت626ﻫ)، دار إحياء التراث العربيّ - بيروت، 1399ﻫ.
ص: 585
64. معجم المخطوطات النّجفيّة: إعداد: مجموعة، إشراف: د.عبد الرزاق العيسى، إصدار مركز دراسات الكوفة، مؤسسة النبراس - النّجف الأشرف، سنة 2012م.
65. معجم رجال الحديث: السّيّد أبو القاسم بن عليّ أكبر الموسويّ الخوئيّ (رحمة الله) (ت1413ﻫ)، ط 5، 1413ﻫ .
66.مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة: السّيّد محمّد جواد بن محمّد العامليّ (رحمة الله) (ت1226ﻫ)، تحقيق: الشّيخ محمّد باقر الخالصيّ، نشر: مؤسّسة النّشر الإسلاميّ التّابعة لجماعة المدرّسين - قم، ط1، سنة 1419ﻫ.
67.المقنعة: الشّيخ محمّد بن محمّد بن نعمان العكبري (رحمة الله) المعروف ب-(المفيد) (ت413ﻫ)، النّاشر: المؤتمر العالمي لألفيّة الشّيخ المفيد، قم - إيران .
68.ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: الشّيخ محمّد باقر بن محمّد تقي الأصفهاني المعروف ب-(المجلسيّ الثّاني) (رحمة الله) (ت1110ﻫ), النّاشر: مكتبة السّيّد المرعشيّ النّجفيّ, 1406 ﻫ, ط1, قم - إيران, تحقيق: السّيّد مهديّ الرجائيّ.
69.من لا يحضره الفقيه: الشّيخ محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي (رحمة الله) المعروف ب-(الصّدوق) (ت381ﻫ), نشر: مؤسّسة النّشر الإسلاميّ التّابعة لجماعة المدرّسين - قم المقدَّسة، ط2، سنة 1413 ﻫ.
70.مناهج الأخيار في شرح الاستبصار: السّيّد أحمد بن زين العابدين العلويّ العامليّ (رحمة الله) (ت1060ﻫ), النّاشر: مؤسسة إسماعيليان, قم - إيران, ط1.
71. المناهل: السّيّد محمّد المجاهد الطباطبائي (رحمة الله) (ت1242ﻫ), نشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط1، قم - إيران.
72.منتهى المطلب في تحقيق المذهب: الشّيخ حسن بن يوسف بن مطهّر الحلّيّ (رحمة الله) المعروف
ص: 586
ب-(العلّامة) (ت726ﻫ), نشر: مجمع البحوث الإسلامية، ط1، مشهد - إيران, سنة 1412ﻫ.
73.المهذَّب: ابن البرّاج, القاضي الشّيخ عبد العزيز الطرابلسي (رحمة الله) (ت481ﻫ)، النّاشر: دفتر انتشارات إسلامي التابع لجماعة المدرسين، قم. ط. أولى 1406ﻫ تحقيق مجموعة من المحققين تحت إشراف الشّيخ جعفر السّبحانيّ.
74.موسوعة طبقات الفقهاء: الشّيخ السّبحانيّ ومجموعة، نشر: مؤسّسة الإمام الصّادق (علیه السلام) - قم المقدَّسة، ط1، سنة 1418ﻫ.
75.نزهة الأرواح فيما يتعلّق بأحكام النّكاح, الشّيخ حسين بن موسى العامليّ البابليّ (ت ق10) نسخة خطيّة مصوّرة محفوظة في مركز الفقيه العامليّ لإحياء التّراث تحت رقم: (1175/2).
76.نقد الرجال: السّيّد مصطفى بن حسين الحسينيّ التّفرشيّ (رحمة الله) (ت1044ﻫ), تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم، ط1، سنة 1418ﻫ.
77.نهاية المرام في شرح مختصر شرائع الإسلام: السّيّد محمّد بن عليّ الموسويّ العامليّ (رحمة الله) (ت1009ﻫ), نشر: مؤسّسة النّشر الإسلاميّ التّابعة لجماعة المدرّسين - قم، ط1، سنة 1411ﻫ.
78.النّهاية في غريب الحديث والأثر: مجد الدّين المبارك بن محمّد الجزري المعروف ب-(ابن الأثير) (ت606ﻫ), نشر: مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان, ط1, قم - إيران.
79.النّهاية في مجرّد الفقه والفتاوى: شيخ الطّائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطّوسيّ (رحمة الله) (ت460ﻫ)، النّاشر: دار الكتاب العربي، 1400ﻫ، ط2, بيروت - لبنان .
ص: 587
80.الوافي بالوفيّات: خليل بن أيبك الصّفديّ (ت764ﻫ)، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركيّ مصطفى، ط: دار إحياء التراث - بيروت، سنة 1420 ﻫ.
81.الوسيلة إلى نيل الفضيلة: الشّيخ محمّد بن عليّ بن حمزة الطّوسيّ (رحمة الله) (ت566ﻫ), النّاشر: مكتبة السّيّد المرعشيّ النّجفيّ, ط1, 1408 ﻫ, قم المقدّسة, تحقيق: الشّيخ محمّد الحسّون.
82. الينابيع الفقهيّة: موسوعة فقهيّة لعدَّة كتب، جمع وتحقيق: الشّيخ علي أصغر مرواريد، نشر: دار التّراث العربيّ و الدّار الإسلاميّة - بيروت، ط1، سنة 1410 ﻫ.
ص: 588